في مساء 30 كانون الثاني يناير 1933، قبل سبعين عاماً، خرج زعيم الحزب القومي الاجتماعي أو الاشتراكي بحسب ترجمة لاحقة للعمال الألمان، أدولف هتلر 44 عاماً، من مشاورة رئيس الدولة الألمانية، المارشال هيندِْنبرغ 87 عاماً، مستشاراً مكلفاً تشكيل حكومة ائتلافية مع الوسط الكاثوليكي. فتوج التكليف بالمستشارية تاريخاً سياسياً وحزبياً كان ابتداؤه، في 1919، غداة الحرب الأولى. وابتدأ اثني عشر عاماً كانت من احلك سنوات تاريخ ألمانيا، وتاريخ العالم. وكان هتلر خصم الرئيس العجوز، والعسكري المسن ومنازعه على رئاسة الدولة الألمانية، في انتخابات الرئاسة، بالاستفتاء والاقتراع المباشرين، في آذار مارس ونيسان ابريل 1932. وانتصر المارشال، رئيس الجمهورية ووارث الامبراطورية الغليومية، على خصمه النازي في الدورة الثانية. وجمع المرشح الخاسر 4،13 مليون صوت من نحو ثلاثين مليون مقترع وكانت ألمانيا تعد 65 مليوناً. وفي الانتخابات النيابية او التشريعية العامة، في تموز يوليو 1932، اي ستة شهر قبل تكليف زعيم الحزب النازي المستشارية، جمع حزبه 7،13 مليون صوت. ونسبة المقترعين للمرشحين القوميين الاجتماعيين من الناخبين، بلغت 3،37 في المئة. وهؤلاء ندبوا الى مجلس الدولة، او الرايخشتاغ، 230 نائباً من 640 لا يحظون بالكثرة النيابية، وينقصهم تسعون نائباً ليبلغوا نصف النواب. واختيار هيندِنبرغ "فوهرر" الحزب النازي، أو زعيمه، مستشاراً كان الحل الحسابي، والشرعي البرلماني والدستوري، لأزمة لم تنفك الدولة، ولم ينفك المجتمع، الألمانيان، يتخبطان فيها منذ 1929 - 1930، وتجدد الأزمة الاقتصادية الكبيرة. فالانتخابات العامة، الرئاسية والنيابية والبلدية، وانتخابات "الدول" أو الولايات، على المعنى الأميركي الفيديرالي، اسفرت كلها، منذ منعطف العقدين الثالث والرابع، عن تقدم الحزبين المتطرفين، اليميني النازي واليساري الشيوعي. وأسفرت كلها، من وجه آخر، عن ضمور الأحزاب والتيارات الوسطية والمعتدلة، بما فيها الحزب الديموقراطي - الاشتراكي وكانت الأممية الثالثة، والحزب الشيوعي وكالتها، ترى في الاشتراكية الديموقراطية الطاعون الذي لا يقل وباء عن الكوليرا النازية، ما اضعف اليسار ومعه الدولة الألمانية كلها. ولم ينتدب الناخبون الألمان، وهم المجتمع الألماني، كتلة نيابية غالبة تتولى الحكم على نحو يقطع التجاذب، والحرب الأهلية الكامنة، بتكليف سياسي واجتماعي يرجح كفة على كفة. فلم يكن في وسع المارشال الرئيس - وهو "بطل" الحرب الأولى، ووارث بعض المجد البسماركي العسكري، والملكي الامبراطوري المحافظ قلباً واعتقاداً - تفادي دعوة الزعيم القومي والشعبوي الى تولي المستشارية، ولو من غير رضا. فما يفصل الاثنين، واحدهما من الآخر، هو بعض ما يفصل بعض ألمانيا - البروسية المنضبطة، والارستقراطية العريقة، والمعولة على جيشها وصناعتها في سبيل بلوغ مكانتها الدولية العالية - من بعضها الآخر، العامي الجامح، والخابط على غير خطة، والمستلهم لأمة الألمان كلهم مثالاً استبعدته ألمانيا البسماركية في 1866، حين انتصارها على النمسا، وإخراجها اياها من الدولة الوطنية الواحدة. وبينما كان هيندنبرغ رئيساً باسم ماضيه العسكري، ونيابة عن جيش صدعته الحرب الهائلة القريبة من غير ان تدمره، وعن مصالح اجتماعية ضخمة، انتهى هتلر الى طلب المستشارية من طريق تأليب جماهير وجموع هدتها البطالة والمنازعات الأهلية الدامية، وجباية التعويضات الثقيلة والمهينة، وانهيار العملة والتضخم، ويقظة النوازع المحلية والوطنية الانفصالية في الولايات القريبة العهد بالدولة الاتحادية والمركزية. والفرق هذا ليس قليلاً. فلم يعزم المحافظ هيندنبرغ على تكليف الثوري هتلر على بعد الشقة بينهما، إلا بعد مناورة سياسية تولاها المستشار الأسبق فون بابِن، وهو الوجه الأبرز من وجوه حزب الوسط الكاثوليكي والآفل 40 نائباً، وأشار بها على هيندنبرغ. فهو أقنع الرئيس بأن تولية الزعيم النازي المستشارية قد يكون السبيل الناجع الى تدجينه ولجمه وإضعافه، وحمل التيارات والأجنحة الكثيرة التي تتنازع الحزب وهيئاته وجمهوره على إعلان منازعاتها، وربما على الاقتتال فيما بينها، وإلى المحافظة على ولاء الجيش للهيئات الدستورية. واشترط الرئيس على المستشار المكلّف تأليف حكومة ائتلافية، وإشراك الوسط وما بقي من قوى اليمين المحافظ فيها، وكان هتلر اعلن رفضه الاشتراك في حكومة لا يرئسها. فاقترح فون بابِن ان يتولى هو نيابة المستشار. وحسب ان توليه هذا المنصب يقيد مبادرة هتلر ونازعه الى المغامرات غير المأمونة. وعلى خلاف ما سبق من الخطيب الناري، وما عُهد به من جموح وغلو، ونأي بنفسه وحزبه من المساومة، اقتصرت حكومته على وزيرين نازيين بارزين، إليه هو، هما هرمان غورينغ، وتولى حقيبة الطيران، ود. فريك، ونيطت به وزارة الداخلية. وأظهر المستشار المكلف اعتدالاً لفظياً لافتاً: فدعا ألمانيا الى النهضة القومية، وأعلن ولاءه للمسيحية، وحيا الحلف بين رموز المجد القديم وأولها الرئيس المارشال وبين رموز القوة الجديدة، وهو صدارتها. في سبيل قلب السلطة وخرج أدولف هتلر من قصر الرئاسة مكلفاً تأليف آخر حكومة في جمهورية فيمار من اسم المدينة البروسية التي شهدت ولادة الجمهورية الألمانية الأولى. فسارت وحدات "سرية الهجوم" "أو شعبة الهجوم" SA، وهي ميليشيا الحزب النازي شبه العسكرية والصدامية، وحرسه في التظاهرات وقتال الشوارع - في صفوف متراصة، كل صف من ستة اشخاص. وجالت، على ضوء المشاعل، شوارع المدينة المتحفظة، من ساحة برلين المركزية الى مبنى المستشارية. وتقدم المسيرة قائد الميليشيا إرنست روهم، ضابط الحرب الأولى الموسوم بالتطرف والعامية البروليتارية الموروثين من بدايات الحزب بميونيخ، عاصمة بافاريا. وتخالف مسيرة المشاعل هذه الظاهر المهادن الذي أراد الزعيم القومي الاجتماعي الظهور به قبل انتزاع ثقة مجلس الدولة، في شباط فبراير 1933، ثم حل المجلس، غداة قبول هيندنبرغ، في 28 شباط، توقيع مرسوم "وقاية الشعب والدولة" في 27 شباط وقع حريق "الرايخشتاغ" المفتعل، الحجر الأول في الديكتاتورية، وإجراء انتخابات نيابية جديدة، في 5 آذار مارس، فاز فيها الهتلريون ب44 في المئة من اصوات المقترعين و288 مقعداً. فالميليشيات الهجومية والرعاعية كانت تخيف أصحاب الأعمال وكبار الصناعيين ورجال المال المتحفظين عن قوة التيار العامي في الحزب النازي، وعن نفخه في النزعات والمشاعر الشعبية، ومناهضته الطبقات الميسورة والعليا باسم وحدة قومية لا تعتورها الانقسامات الاجتماعية والطبقية. ورعى أحد رجال المال، كورت فون شرودِر، بمنزله، لقاء هتلر وفون بابِن، في 4 كانون الثاني 1933" ومهد هذا اللقاء الطريق إلى دعوة رئيس الرايخ الزعيم القومي الاجتماعي إلى منصب المستشارية. وآذن بقبول كبار أصحاب العمل هتلر مستشاراً بعد تمنع، وعلى خلاف أسطورة شيوعية تحمل الديكتاتور النازي على تمثيل "مصالح رأس المال الاحتكاري الكبير". ولم يكن رضا الجيش عن المنظمة شبه العسكرية، منافسته على حمل السلاح، أقوى من قبول جمعيات أصحاب المال ورجال الصناعة. أما الكنيسة الكاثوليكية خصوصاً، والكنائس البروتستانتينية، فكان جهر رجال "سرية الهجوم" وثنيتهم الجديدة، وإحياؤهم بعض شعائرها وأخلاقها، يثيران حفيظتها. وسعى هتلر، في سبيل بلوغ المستشارية، وهي سلَّمه إلى قلب السلطة ومفتاح الثورة القومية الاجتماعية، إلى تمهيد هذه العقبات، الواحدة بعد الأخرى. فأكثر من التوجه إلى رجال الأعمال في النصف الثاني من العشرينات. وعقد اللقاءات بهم بمدينة إيسين. وجال في بلاد الروهر الصناعية، في 1931. وطرق باب النادي الصناعي بدوسيلدورف، في أواخر 1932. واستمال أحد كبار رجال الصناعة الألمان. فريتز تيسين، في أواخر السنة السابقة. ورحب بإميل كيردورف، "بسمارك الفحم" في صفوف الحزب ولم يلبث الرجل أن ترك الحزب. ونسج علاقة بفريديريتش فليكس، أحد صناعيي الروهر، من طريق هِمْلر وكان على رأس المنظمة شبه العسكرية الأخرى SS أو "رتبة الحماية"، حرس هتلر الخاص، في 1932. ولكن "اللوبي" الاقتصادي الهتلري بقي ضعيفاً. ولعل بعض السبب في ذلك ميل النازية إلى الزراعيين ميلاً إيديولوجياً، وشنهم حملة دعاوة عنيفة على الصناعيين، وعلى الرأسمالية الصناعية "الهجينة" "لا وطن لها"، على ما جاء في برنامج 1920 المعروف ببرنامج ال"25 بنداً" أو نقطة، قبيل انتخابات تشرين الثاني نوفمبر 1932. وهذا ميل أو نازع من ميول النازيين ونوازعهم المتدافعة والمتناقضة. فهم، من وجه، يرفعون الصناعة الألمانية التعدينية، المجمَّعة والمحمية، فوق أي نشاط إقتصادي آخر. ويعدونها ركن التسلح الأول، ومناط الآمال في "النهضة" الألمانية والقضاء على البطالة، وفي فتوح "المدى الحيوي" والاستعماري الذي يحتاج إليه الرايخ لكي يتصدى، على زعم هتلر في "كفاحي" وخطبه، "لليهودية البلضفية"، والعرق السلافي "المنحط"، ويتسلطَ "عرق الأسياد" على الأعراق "المريضة". ولكنهم، من وجه ثانٍ، ينكرون أشد الإنكار على الصناعات التحويلية انخراطها في السوق العالمية، وميلها إلى المنافسة، وتبعيتها لتقسيم العمل الرأسمالي وما يجره من قيود على كفاية ألمانيا بنفسها. ورد الصناعيون على الحملة النازية، فدعت جمعياتهم، في 19 تشرين الأول أوكتوبر 1932، القوى السياسية القومية والمحافظة إلى الوحدة والائتلاف، واستثنت النازيين من دعوتها هذه. واقترحت على هيندنبرغ تكليف فون بابن المستشارية. ولما أشار حاكم المصرف المركزي سابقاً ولاحقاً، شاخت - وهو عرف ب"الساحر" بعد انتهاجه سياسة نقدية في 1924 انتشلت الاقتصاد والمجتمع الألمانيين من هاوية التضخم وأضعفت الحزب النازي - على الرئيس المارشال بتكليف هتلر المنصب المتنازع، خلت رسالته من تواقيع الصناعيين ورجال المال، ما خلا توقيع الصناعي تيسين والمصرفي شرودر، والاثنان نازيان حزبيان. وامتنع الآخرون من التوقيع. وكان معظمهم يرى أن إنقاد الدولة من الأزمة السياسية التي تتخبط فيها إنما طريقه نظام رئاسي قوي يحل محل النظام البرلماني ومنازعاته وشرذمته. وانقسمت الجماعتان الاقتصاديتان الكبيرتان، جماعة الصناعيين وجماعة الزراعيين، بعد أن كان حلفهما في العهد الامبراطوري قوياً، على الحماية والأجور والسياسة الاجتماعية. فزاد انقسام الطبقات النافذة والمسيطرة ترجح السياسة النازية وترددها، وفاقمهما. وتودد هتلر إلى الجيش الألماني، وعمل على التقرب منه. وهو كان يرى إليه، مع أصحاب الأعمال ورئيس الرايخ، ركن السلطة الثالث، وينوه بقتاله في صفوفه، وتقلده وسام الصليب الحديدي من الدرجة الأولى جزاء نقله رسالة عاجلة، على جبهة الشمال الفرنسي، إلى قيادة الأركان، في 1918 وهو قاتل ساعي بريد على الجبهة، وجرح، وأصيب بغاز الخروع في أثناء أدائه مهمات ساعي بريد. وبعثته محاولته قيادة انقلاب على الدولة، أو على برلين، في 8 تشرين الثاني 1923 - على مثال المسيرة الفاشية الإيطالية بقيادة موسوليني، في 28 تشرين الأول أوكتوبر 1922، إلى روما أي على مثال الرواية الأسطورية الموسولينية - وإخفاق المحاولة إخفاقاً ذريعاً وسجنه 13 شهراً على أثر ذلك، بعثه الأمران، المحاولة والإخفاق، على احتساب دور الجيش في رأس العوامل التي ينبغي اعتبارها في الاستيلاء على السلطة. فخلص إلى ان تَخَلّل الدولة، واستدخالهما، وليس الانقلاب عليها من خارج، هما السبيل إلى السيطرة عليها واستعمالها في هزيمة "اليهودية البلشفية"، في الداخل والخارج. وجمعت الجيشَ الألماني والحزب النازي إدانة مشتركة ومحمومة ل"فرمان" فرساي، ولسياسة الحلفاء المنتصرين الرامية الى تقييد القوة الألمانية وتحميل ألمانيا القسط الأكبر من المسؤولية عن الحرب. ومنذ خطواته الأولى، استمال الحزب القومي الاجتماعي بعض أعلام العسكريين، وأولهم الجنرال لوديندورف، شريك هتلر المتردد والضعيف التدبير في محاولة انقلاب مقصف البيرة بميونيخ. وكان أقرب المقرّبين الى الفوهرر الناشئ، خطيب المقاصف البافارية، ضابطان، الضابط الطيار غورينغ، والضابط المدفعي وجريح الخنادق إرنست روهم، المشاكس العنيف الذي قتله هتلر في حزيران يونيو 1933، مع مئة الى مئتين من زملائه، ليسكت مطالبته ب"الثورة الثانية"، الشعبية والعامية، غداة تربع الحركة النازية في سدة السلطة. ونظرت القيادة العسكرية بعين الريبة إلى انتشار الميليشسيات المسلحة، والمنظمات شبه العسكرية، من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، في ألمانيا بعد الحرب. وكان حل هذه المنظمات، ومعظمها كان يتستر بستار التدريب الرياضي ويسرق قطع السلاح من مخازن الجيش بواسطة ضباط سابقين مسرحين، من شروط معاهدة الصلح على جمهورية فيمار. فلم يكن انتشار المنظمات شبه العسكرية هذه يؤخر فك الحجر السياسي والمعنوي على ألمانيا وحسب، بل كان ينافس الجيش على دوره وصلاحياته، ويضعف انضباطه وولاءه المرتبيين الداخليين، ويقيد بعض الشيء تصديه الى قمع الجناح الثوري من الحركة الشيوعية. وغذى اختلاف المنابت الاجتماعية القوي تبادل بعض الجيش وهتلر الارتياب والحذر. ومهد هتلر الدرب الى اضطلاعه بالمستشارية، من غير نقض الجيش او معارضته، منذ 1930، وعودة الناخبين الى الاقتراع لمحازبيه ومرشحيه، بعد عزوف وامتناع. فشهد في محاكمة ثلاثة نازيين دينوا بالدعاوة الحزبية والتحريض في صفوف العسكريين. وتنصل من فعلتهم، وشدد النكير عليهم وعلى امثالهم. وحيا الجيش الألماني من غير تحفظ. فلم يكن من الجنرال فون بلومبرغ، قائد منطقة بروسيا وهي ثلاثة اخماس الرايخ سكاناً وموارد، إلا ان اعلن قبوله التعاون مع هتلر مستشاراً. وشفع هتلر وقفته الرمزية هذه بطرد احد وجوه الحزب النازي، اوتو ستراسير شقيق غريغور ستراسير الذي نافس في العشرينات هتلر على الزعامة السياسية، وكان داعية الخط "الاجتماعي" والعامي في الحزب وانشق عن زعامته في خريف 1932 أمر هتلر باغتياله في غضون سنة حكمه الأولى - تأديباً له على مساندته اضراباً عمالياً، ومقاومته قمع الجيش المضربين. وجدد دعوته الى تسلح ألمانيا، على رغم عهود معاهدة الصلح والتزاماتها، رداً على "جريمة تشرين الثاني نوفمبر 1918" - أي رداً على الإقرار بالهزيمة، وعلاجاً اقتصادياً واجتماعياً ناجعاً للبطالة المتجددة مع ازمة 1919 العالمية، واضطرار الولاياتالمتحدة الاميركية الى سحب رساميلها من الصناعة الألمانية. انهيار الدولة والمجتمع والوجه الشرعي الظاهر، الانتخابي، للسياسة النازية، كان مصيدة لأخطاء التيارات والقوى السياسية المعتدلة والجمهورية، وقناعاً تقنعت به سياسة انقلابية وثورية تعود ملامحها ومنازعها الى 1924. والحق ان هذه السياسة، او هذا المنزع، ولدت في احضان الحرب الاولى وعنفها غير المسبوق، والى انهيار الدولة، سلطة وسيادة وقانوناً مشتركاً وواحداً، في سياقة هذا العنف. فمن 13 مليون ألماني شاركوا في الحرب، على وجوه وأنحاء مختلفة، خدم في الميدان عشرة ملايين، وقتل مليونان ثلثهم متزوجون وجرح خمسة ملايين. وفي أشهر الحرب الاخيرة هرب مليون جندي من ميادين الحرب. واضطلعت الدعاوة الاشتراكية، على مختلف تيارات الاشتراكيين قبل وقوع الثورة الروسية الثانية، بدور راجح، ببعض المواقع، في بعث الهاربين على الهرب. وروج انهيار الجبهة الألمانية المفاجئ لتعليل الهزيمة غير المتوقعة ب"الطعنة في الظهر" على ما قال لوديندورف، الجنرال "الكبير"، وحاكم ألمانيا الفعلي في اثناء فصل من الحرب، وحليف "الرقيب" وساعي البريد ادولف هتلر، من بعد، وبجريمة "مجرمي تشرين الثاني 1918"، على ما لم يفتأ هتلر يقول ويخطب ويزمجر. ففي غضون الأشهر الأربعة التي سبقت آب أغسطس 1918، وشن فيها الحلفاء هجومهم المضاد بالألزاس الفرنسية الشمالية حيث كان هتلر يسعى، خسر الجيش الألماني 800 ألف قتيل. فتصور الإقرار بالهزيمة، وبفداحة الخسارة وعبث الاستمرار على وأد الجنود في انتظار انهيار العدو، في صورة الاستخفاف بالتضحيات الجسيمة والثقيلة التي تكبدها مقاتلو الخطوط والجبهات المتقدمة والأمامية. وحَمَّل هؤلاء التبعة عن الهزيمة والضعف والخور، "القابعين" وراء مكاتبهم وجدران حجراتم ومداولاتهم، في الخطوط الخلفية والآمنة. فلم يعقل مقاتلو الأمام الهدنة، وشروط الحلفاء القاسية والظالمة والغبية، على ما رأى مراقبون وسياسيون كثر على ألمانيا، إلا من طريق حملها على خيانة اعداء ألمانيا. وجمع اليمين القومي الاجتماعي الألماني - وهو سبق هتلر الى التبلور، والى المطالب او الموضوعات العرقية والسياسية والاجتماعية والثقافية - "الأعداء" هؤلاء، من شعوب سلافية، وحركات اشتراكية، و"طغمة" سياسية واقتصادية حاكمة، ورأسمالية اممية، وبورجوازية من غير جذور، و"عرق" يهودي واليهود لا تجمعهم رابطة دينية، على زعم هتلر، فهم عرق أو "سل عرقي"، على قوله، جمعهم في عدو واحد هو "اليهودية البلشفية". وحين عاد "جيل الخنادق" الى الوطن، وجدد حياته اليومية، وقع على المنازعات والخلافات والمشاحنات المعهودة والتافهة. فاستفظع كثرةٌ من هؤلاء ذهاب التضحيات والخسائر الجسام سدى، على ظنهم. وآلمهم تمتع من ينسبون اليهم الهزيمة، والمسؤولية عنها، برغد العيش، وكأن شيئاً لم يكن وهذا علة غلبة النازع الاجتماعي والاشتراكي على بعض تيارات اليمين القومي. وهالهم تمتع هؤلاء بحرية القول والنشر والدعاوة والاجتماع. وآلمتهم خسارتهم، هم، الروابط والمشاعر بين اخوة السلاح. وبالغ في جرحهم استقبالهم بالبطالة التي انتشرت في ثنايا المجتمع الألماني انتشار الخلايا السرطانية، وبالتضخم المخيف الذي احال في غضون ساعات قليلة جنى اعمار وأجيال الى حفنة رماد. فَصَلى هؤلاء الجمهورية الديموقراطية، ودولتها "الباردة"، ومجالها النيابية "الثرثارة"، وانقساماتها السياسية والطبقية، عداء مراً كان هتلر احد ألسنته المفوهة. ونصبوا بإزائها، وبإزاء مجتمعاتها، مثال الأمة المتآلفة والمرصوصة والمتكافلة، الأمة العضوية، على قول موسوليني، والنقيض. فنزعت الحركات القومية اليمينية المتطرفة، شأن الجناح الشيوعي من الحركة العمالية الذي عادى الديموقراطية الاشتراكية، ووصفها بالعدو الأساسي في ذروة مخاض النازية، فنزعت نازعاً مناوئاً للدولة، وللهيئات السياسية، والانقسامات الاجتماعية، والديموقراطية، والأمم الأخرى، والمجتمع الدولي. وكانت ألمانيا، غداة الهدنة وانهيار الامبراطورية وهرب الامبراطور، مسرحاً للجماعات المسلحة المتناحرة بين يسار ثوري منتفض، ويمين خارج على القانون، وجيش خسر دالته، وخسر معها تماسكه فمال مع الجماعات المسلحة. ودخل المسرحون والبطالون وقدامى المحاربين أفواجاً في الجماعات والعصب شبه العسكرية هذه. فتحولت الاحياء الحارات والشوارع والساحات ومداخل المصانع الكبيرة والمقاهي والمقاصف الى مسارح تظاهر وإضراب وقتال واغتيال. فشهدت برلين وحدها، بين 1918 و1922، ثلاث حروب اهلية حربان نجمتا عن انتفاضتي السبارتاكيين والشيوعيين في 1919، وثالثة نجمت عن محاولة انقلاب كوب اليميني، في آذار/ مارس 1920 خلفت ذيولاً بعد اعوام من وقوعها. ووقعت 300 عملية اغتيال سياسي "ناجحة"، اسفرت عن سقوط 300 قتيل. وبدا عنف اليسار الثوري وعنف اليمين الثوري سائغين في دوامة الثورات والثورات المضادة التي عمت ألمانيا من شرقها الى غربها، ومن شمالها الى جنوبها، ومن ميونيخ الى برلين. فلازمت المنظماتُ شبه العسكرية، وشعبتها الأمنية الاستخباراتية، المنظماتِ السياسيةَ ملازمة الظل. ولابس هتلر، شأن اعوانه وشطر من محازبيه وأنصاره، فصول هذا التاريخ كلها. وكان مرآة وجوهها المتناقضة، وأزماتها المستعصية. وجمع هذه الوجوه في صورة "الفوهرر"، الزعيم القائد والبطل المخلص والمرشد المعصوم. وهذه الصفات نسبها الى نفسه منذ خروجه من سجنه، بعد ان حسب نفسه، على ما قال في محاكمته، "الطبل"، أي الداعية الى البطل المخلص والمنتظر، و"قصر" نفسه على هذا الدور. وعندما أعلن برنامج السلطات المطلقة التي طلبها لنفسه، بعد سنة على تكليفه المستشارية، لخص برنامجه في شعار: "شعب واحد، امبراطورية واحدة، قائد واحد". فاطرح المبدأ الفيديرالي، وحل حكومات الولايات، وأبدلها بمفوضين، وخول نفسه سلطة إقالة القضاة والموظفين وتعيينهم. وحظر الأحزاب والنقابات. وفي الأول من آب 1934 اعلن نفسه رئيساً زعيماً على الرايخ، ومستشاراً رئيس حكومة وقائداً أعلى للقوات المسلحة، ورأس السلطة القضائية. ونصب الحزب النازي مستودَعَ المفهوم الألماني عن الدولة". واستفتى الألمان رأيهم، في تشرين الثاني نوفمبر 1933، في ترك ألمانيا عصبة الأمم، الهيئة الدولية التي نشأت عن مؤتمر الصلح، فاقترع 95 في المئة بالإيجاب. فتم صهر الأمة في "الدولة"، وتذويب الدولة في الأمة، بعد ان جسد هتلر الأمة والدولة معاً، على مثال خصوصي وقدسي بائد نهض شطر راجح من التاريخ الديني والثقافي والسياسي، الأوروبي، على نقضه واطراحه.