استقبلت اليونان حزيران يونيو الماضي بتظاهرة شهدتها ثيسالونيكي، وودّعته بتظاهرة في العاصمة أثينا. في المرتين احتشد مئات الآلاف فرفعوا الاعلام الوطنية والصلبان احتجاجاً على نيّة الحكومة شطب اسم الديانة عن بطاقة الهوية. ما الذي يهدّد اليونان وهويّتها هي التي ينتمي 97 في المئة من سكانها الى الدين نفسه والمذهب نفسه: الروم الأرثوذكس؟ لا بل ان التسمية اليونانية والغربية لأتباع هذا الدين - المذهب هي: اليونان الارثوذكس! وهل يمكن حقاً لهوية كهذه تساوي الوطنية وتعادلها، كما البولندية والكاثوليكية، ان تكون مهدّدة؟ الكنيسة التي تقف وراء التحركات تقول نعم، مختارةً ذكر الديانة على البطاقة البلاستيكية الزرقاء موضوعاً لمعركتها. اما السياق الاعرض لما يجري فيتعدى الرمز الى الأَوْرَبة التي تتعرض لها اليونان منذ قبولها، في 1986، عضواً كامل العضوية في الاتحاد الاوروبي، ولكنْ خصوصاً منذ ضمّها الى نظام "اليورو" النقدي قبل ايام. فكبار اساقفة الكنيسة وعلى رأسهم البطريرك كريستودولوس، يهددون بالويل والثبور اذا ما الغي ذكر الديانة. وقد سبق للبطريرك النضالي والمشتعل حماسةً ضد الشياطين أن شنّ حملة على "قوى الشر" التي "اتحدت لمواجهة الكنيسة من اجل دفعها الى هامش الحياة الاجتماعية". وهو، لهذا الغرض، راح يجوب البلاد وجُزُرها مُعبّئاً "الشعب الذي باركه الله"، ومستنهضاً اياه ان يتصدى ل"مؤامرة العولمة" وتوابعها. فخلال قدّاس اقيم في كاليثيا، جنوبي العاصمة، اعلن "بطريرك اثينا وعموم اليونان" ضرورة التحرّك والرد لأنه "ينبغي ان نوضح بكل ما اوتينا من قوة ان هذا الهجوم على الكنيسة ليس من ارادة الله. فهذا الشعب مُقدّر عليه ان يعيش في صحبة بركة الربّ. وهذا درس يتجاهله بعض الافراد ممن لا يعرفون تاريخنا". ولم يفت كريستودولوس ان يستشهد "التاريخ"، وهي المهنة التي يحترفها اخصائيو الهوية في كل مكان: ففي الالفي سنة الماضيين "سارت الهيللينية والارثوذكسية يداً بيد، وما من قوة يسعها تشويه الشعب وجعله غيرَ ديني، ينكر جميل كنيسته عليه ولا يقدّر افضالها، هي التي يدين لها بالكثير". ولا تلبث الكنيسة ان تدعو رئيس الحكومة كوستاس سيميتيس الى اجراء "محادثات" حول بطاقة الهوية، نافيةً رغبتها في دخول ساحة العمل السياسي ومنبّهةً، في الوقت نفسه، الى ان شطب النص على الديانة عمل "غير قانوني". وابان "المجمع المقدّس" الذي عقد الاسبوع الماضي برئاسة البطريرك وحضور مطارنته الاثني عشر، فشت لغة التهديد والوعيد نفسها: "فالكنيسة تناشد الحكومة اليونانية الكريمة ورئيس الحكومة شخصياً كي يبرهنوا انهم معنيون بالتقدم السلمي لشعبنا من طريق حل المشكلة هذه". وفي اطار استنفارها هذا جاء تأجيلها الاحتفال بالالفية المسيحية الثالثة التي يُفترض ابتداؤها في 15 تشرين الاول اكتوبر المقبل، والطلب الى مطران البانيا ان يؤجّل زيارته الى اليونان التي كانت مقررة في نهاية الصيف. ذاك ان الكنيسة منشغلة بالتحضير ل"استفتاء غير رسمي" يُجرى اواسط تشرين الاول، بحيث يُجمع ما امكن من تواقيع على عريضة ضد نزع اسم الديانة، تُرفع الى البرلمان والى رئيس الجمهورية كوستيس ستيفانوبولوس. وكان الاخير الذي تحاشى الكلام الصريح في الموضوع، اشار الى ان ما قد يحدث لجهة الشطب لن "يلطّخ" هوية اليونان. ف"هويتنا الوطنية لا يهددها الدخول الى الاتحاد الاقتصادي والنقدي الاوروبي"، وإن كانت العولمة تطرح "علينا" مخاطر جدية. ولدى خطابه في جزيرة هيدرا طوّر رئيس الجمهورية موقفه، فلاحظ ان "علينا ان نحاول الدفاع عن لغتنا، واحدى الوسائل في هذا المجال استعادة تعليم اليونانية القديمة الى مدارسنا". واذا كان من المعروف جيداً ان اللغة المذكورة كاثاريفوسا لم يعد هناك ما يربطها باليونانية الحديثة والمستخدمة ديموتيك، بقي ان الكنيسة نجحت في فرض طبيعة النقاش على الحياة السياسية، وهو نقاش يرقص على ايقاع الخوف والمؤامرة. فقد اضطر، مثلاً، وزير العدل ميخاليس ستاتهوبولوس الى انكار مزاعم المطران امبروسيوس، مطران كالافريتا، من انه عضو في الحركة الماسونية التي تعتبرها الكنيسة من الدّ اعدائها. ف"أنا - كما قال - لست فقط غير ماسوني بل اخالف المعتقدات الماسونية وكل معتقد مماثل. لكني، على اية حال، اقرّ بحق ايٍ كان في ان يؤمن بما يرغب شرط ان يتقيّد بقوانين الدولة". وبدوره تناول بالنفي وزير الدفاع أكيس تسوتشادوبولوس ما تشيعه البطريركية و"حزب الديموقراطية الجديدة" المعارض من وجود خلاف اجتماعي واسع حول موضوع الهوية والبطاقة. الا انه، مع هذا، دعا الى مفاوضات "ذات طابع مؤسسي" بين الدولة والكنيسة لتضييق الفجوة بين وجهتي نظرهما. بيد ان الناطق بلسان الحكومة ديمتريس ريبّاس كان قد عاجل الى رسم حدود اي نقاش ممكن حول مضمون البطاقة الجديدة، فأكد ان حق البتّ في الامر يعود الى الحكومة وحدها. وفي مناخ كهذا لم ينس بعض المراقبين التذكير بلغة الحرب الاهلية، لا سيما بعدما استمعوا الى كالينيكوس، مطران بيريوس والناطق بلسان الكنيسة، يطالب بمقاطعة رئيس البرلمان الاشتراكي ابوستولوس كاكلامنس وعزله لمهاجمته الاكليروس وتدخله في الحياة العامة. وكائناً ما كان الحال تتجمّع وراء غليان الهوية هذا عناصر عدة تبدأ بالوضع الداخلي للكنيسة نفسها. فالاخيرة انما تعاني انشقاقاً لم يعد في وسع كريستودولوس ان يضبطه او يتكتم عليه. ذاك ان المطارنة الثلاثة لابرشيات ثيبيس وزكينتوش وايوانينا لم يترددوا في الجهر بانشقاقهم تبعاً لاختلافات طقسية واجتهادية، ولكنْ ايضاً احتجاجاً على احجام البطريرك عن المشاركة في الاحتفالات الوطنية بالانضمام الى اليورو. لكن الامر، بطبيعة الحال، ابعد من هذا. فالجسم القديم والتقليدي للكنيسة يعكس حساسية القومية اليونانية تجاه مساواة الاقلية المسلمة التركية في ثراسيا الغربية قرابة 2 في المئة بباقي السكان الارثوذكس. والمعروف ان الشرط الاوروبي موضع النزاع انما وُضع اساساً لحماية الاقليات في دول الاتحاد واستكمال تمتّعهم بالمواطنية الكاملة، لا نظرياً فقط بل عملياً كذلك. وهذا بعض ما يرمي اليه كريستودولوس لدى مخاطبته "الأعزّاء المسيحيين" ودعوتهم الى مقاومة "قوى العولمة التي تريد تهميش ديانتنا في المجتمع". ولئن كانت اليونان البلد الارثوذكسي الوحيد في بلدان الاتحاد فهي، حكماً، افقر تلك البلدان. غير انها تعيش ايضاً ازمة الهوية الارثوذكسية خصوصاً مع تردّي الموقع الروسي عالمياً، فضلاً عن الهزيمة التي ألمّت بصربيا والعزلة التي تلمّ بها راهناً. وهذه العواطف انما تضرب في انتماء بلقاني مضمر وعتيق قام دائماً على تنازع ديني واثني مع الجوار غير الارثوذكسي. والانتماء هذا هو ما تتصرّف الكنيسة وكأنها ترفعه في مواجهة الانتماء الاوروبي والاطلسي الناشئ. ولما بدت مكوّنات الرابطة الاخيرة اغنى واقدر على "تذويب" الطرف اليوناني الضعيف والفقير، اتسم الاستقبال القومي اليوناني للغة التكامل والتعاون بالريبة. غير ان القيم التي تسود الرابطة الشمالية هي، فوق هذا، قيم "مادية" تشجّع على "التفلّت"، فضلاً عن ان مصادرها الدينية البعيدة، اذا جاز الوصف، بروتستانتية وكاثوليكية. وقد ظهر الصدام واضحاً ابان حرب كوسوفو تبعاً لعضوية اليونان في الحلف الاطلسي في مقابل المشاعر الشعبية، اليمينية واليسارية على السواء، المتعاطفة مع الصرب. ولم يكن بلا دلالة ان يختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لدى استقباله قبل ايام نظيره اليوناني ستيفانوبولوس، الحديث عن ضرورة نزع السلاح في كوسوفو ولعب اثينا دوراً اكبر في حل مشكلات البلقان "نظراً الى كون الارثوذكسية الديانة الاساسية لليونانيين". اما بطريرك الكنيسة الروسية الكسي الثاني فأسبغ على الرئيس اليوناني الوسام الكنسي الارفع للقديس فلاديمير، ممتدحاً قيامه ب"تطوير العلاقات بين الشعبين الأخوين المتشاركين في ايمان واحد". والحال ان الوجه الآخر لهذه البلقانية التي يستحثّها الروس ويستحضرون لغتها الدينية، هو التزمّت حيال الاقلية المسلمة التركية التي تذكّر بعض اليونان بأعداء الأمس الاتراك والعثمانيين، على رغم التقارب الذي بدأ أخيراً يشق طريقه بين البلدين. وتجدد المخاوفَ الارثوذكسيةَ حيال المسلمين الهجرةُ الالبانية التي ينسب اليها القوميون الكارهون للغريب كل عيوب الوضع اليوناني من مشكلات اقتصادية وحالات بطالة الى سلوكات يرونها غير مقبولة اخلاقياً. وفي هذا الجوّ صدر، قبل ايام، تقرير "اللجنة الاوروبية لمكافحة العنصرية وعدم التسامح" ليصب الزيت على النار. فالتقرير انتقد اليونان بشدة ليس لمعاملتها ابناء الاقلية المسلمة فقط، بل ايضاً لتعاطيها مع الغجر واليهود والمهاجرين الالبان، وهو ما ردّت عليه اثينا بالنفي والاستغراب! وتفاقم هذه التطوراتُ ميولَ الانكماش الارثوذكسي عن الشمال والغرب التي كانت بلغت ذروتها مع حرب كوسوفو منظوراً اليها ك"تحالف" غربي وشمالي مع المسلمين. فلدى القوميين اليونان تحرّكت عناصر الاختلاف الديني والثقافي، فيما تحركت لدى اليساريين، وهم الى حد بعيد قوميون، ذكريات الدعم الاميركي لحكم الطغمة العسكرية بين 1969 و1974. وهذا ما يفسّر عدم شعبية الدعوة الى مكافحة الارهاب، وتمنّع الحكومات اليونانية المتعاقبة عن تنظيف مماثل لما حصل في المانيا وايطاليا. فهذا، في آخر المطاف، "مطلب اميركي"! والمعروف ان مجموعة "نوفمبر 17" اغتالت، مطالع حزيران الماضي، الملحق العسكري البريطاني بعد مئات عمليات الاغتيال والتفجير التي نفّذتها على امتداد ربع قرن من دون ان يُعتقل ايٌ من ناشطيها! بيد ان قضية القضايا هي ان الكنيسة والدولة لا تزالان غير منفصلتين في اليونان، وهي علاقة لا يزال منصوصاً عليها في الدستور بوصف الارثوذكسية ديناً رسمياً للدولة. وما يبدأ بشطب الديانة ربما افضى الى الانفصال، ومن ثم خسارة المؤسسة الهرمة موقعها في المجتمع وتجفيف الموارد المادية الضخمة التي تجنيها للسبب هذا. ويتوازى خوف الكنيسة من التحولات الجارية والممكنة مع خوف بعض جمهورها التقليدي من اثر العولمة عليه. فاذا وجد الاقتصاد الزراعي بعض ما يطمئنه في الدعم الاوروبي، او في تحوله الى السياحة، الا ان الذعر ينتاب المجالات المحدودة لتداول رأس المال ممثلةً في الدكّان والحانوت والحرفة، وهي واسعة الانتشار في اليونان، فضلاً عن سلك الموظفين الكبير. ولئن كانت القومية تشهد تراجعها اليوناني مع الاندماج في اوروبا والتصالح مع تركيا، فهذا ما لا يمضي بلا تشنّجات، كما لا يلغي ظهور فراغ في السياسات الرجعية ينتظر من يملأه. ذلك ان رئيس الحكومة الحالي والتحديثي سيميتس حوّل الحزب الاشتراكي الحاكم بازوك عن شعبويته القومية التي ازدهرت خصوصاً في عهد الراحل اندرياس باباندريو. وكان الاخير، بالنهج الراديكالي المناهض للغرب كما اتبعه لسنوات، مسؤولاً عن طريقة تكرّست في تدريس التاريخ للناشئة مفادها التشديد على التمايز والخصوصية اليونانيين. ومن ناحيته غدا "حزب الديموقراطية الجديدة" المعارض، بقيادة كوستاس كرامنليس، يقلّد النزعات النقدية الثاتشرية والاميركية، مُحدّثاً بُناه وطرق اشتغاله الحزبي على حساب مصادره في التقليد المحلي لليمين اليوناني. ويحاول هذا الحزب، في المعركة الحالية، الدعوة الى خط وسط إنما متجانس مع ليبراليته، قوامه تخيير المواطنين في ما خص ذكر الديانة او شطبها. ويبدو ان البطريرك يقف على رأس تيار في الكنيسة ساعٍ الى ملء الفراغ. ويعوّل هؤلاء على التمرين الاولي الناجح الذي وفّرته تظاهرات 1998 الشعبية دعماً لصربيا. وعلى العموم يبقى الصراع محتدماً، فيما قطاع واسع من السكان لا يزال محيّراً بدليل ما تسجّله استقصاءات الرأي العام: فهناك، مثلاً، 70 في المئة يؤيدون دخول اليورو ممراً الى الاستقرار المالي والاقتصادي، و60 في المئة يناصرون موقف الكنيسة من بطاقة الهوية، ومثلهم من يدافع عن الفصل القاطع بينها وبين الدولة! ومن اضطراب المعاني هذا، ومن انتقالية المرحلة التي تشهدها البلاد، تأمل المؤسسة الالفية ان تجدد شباباً من الصعب ان يعود.