ماذا بعد غياب الرئيس السوري حافظ الأسد في لبنان؟ لا يخوض اي من المسؤولين اللبنانيين في مجازفة الاجابة عن هذا السؤال. على ان ما يسعهم الجزم فيه هو الفراغ الذي يتركه غياب الرئيس الراحل، الشخص والدور، في مسار العلاقات اللبنانية - السورية بعدما استطاع لنحو ربع قرن تنظيم هذه العلاقات من خلاله، ومن خلال موقعه هو بالذات مصدر الاستقطاب فيها. ولهذا يبدو منصب رئيس الجمهورية في لبنان هو اكثر المعنيين بهذا الغياب. بل غالباً ما اقترن اسم الرؤساء اللبنانيين بنظيرهم السوري، حتى اولئك الذين اختلفوا معه. وغالباً ما سيطر الاستقرار او التوتر على هذه العلاقات عبر رئيسي البلدين وطريقة مقاربتهما المشكلات اللبنانية الدقيقة. وغالباً ما طبعت هذا المناخ العلاقات الشخصية. فعلى امتداد السنين ال25 من عمر الدور السوري في لبنان بدءاً من العام 1975، عرفت العلاقات اللبنانية - السورية 84 قمة جمعت خمسة رؤساء لبنانيين توالوا برئيس سوري واحد، عقد منها 83 في دمشق وقمة واحدة في شتورة في البقاع اللبناني. وهي قمم قادت المسار المتقلب للعلاقات الثنائية بين البلدين مذ بدأ الدور السوري في لبنان كوساطة بين اللبنانيين والفلسطينيين في أولى سني الحرب. ثم تطور ليقود في آخر المطاف هذه الحرب الى نهاية طويلة أضحى تنظيم العلاقات الثنائية في صلبها تبعاً لما نصّ عليه اتفاق الطائف ووضعه موضع التنفيذ باشتراعات قانونية نظمت العلاقات بين البلدين، بعدما تحولت هذه العلاقات ايضاً في حقبة من سني الحرب سبباً لمشكلة ثقة مفقودة بين البلدين لم تنجُ من صدامات دامية. وأتاح مجمل هذا التطور في الدور السوري في المقابل انتقال الوساطة السورية العام 1975 من مجرد مبادرة تبحث عن حل توفيقي الى دخول الجيش السوري الى الاراضي اللبنانية وانتشاره على ثلثيها ليصير كذلك وسيلة لإنهاء الحرب واعادة الاستقرار الى البلاد. بل أضحى وجود الجيش السوري في لبنان سبباً لتوافق اللبنانيين او انقسامهم. ولعل المهم في الدور ايضاً تحوله عن دور الوسيط السياسي بين الفلسطينيين واللبنانيين في النصف الثاني من عقد السبعينات وبين اللبنانيين انفسهم على امتداد عقد الثمانينات، الى شريك فاعل في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب عبّر عنه تلازم المسارين اللبناني والسوري في مفاوضات السلام مع الدولة العبرية، وربط مستقبل الوجود العسكري السوري في لبنان بمصير التسوية السلمية في المنطقة. وهي المهمة التي لم يدخل من أجلها السوريون، الا انها أضحت كذلك مع دخول اسرائيل بدورها في المعادلة اللبنانية في اجتياحي 1978 و1982. وهو مغزى شعور المسؤولين في البلدين بالانتصار بعد خروج الجيش الاسرائيلي من الجنوب في 24 أيار مايو الماضي. عرف اللبنانيون القمم ال84 مع خمسة رؤساء للجمهورية، كانت للرئيس السوري اليد الطولى - ان لم تكن المقررة - في تسمية ثلاثة منهم هم الياس سركيس 1976 والياس الهراوي 1989 وإميل لحود 1998، فيما رافقت انتخاب أمين الجميل 1982 ظروف مغايرة تماماً أفقدت السوريين السيطرة على القرار اللبناني، وهي الظروف نفسها التي أتت بشقيقه بشير قبله الى الرئاسة 1982. على ان الأسد أوصل أيضاً الى الرئاسة رينه معوض 1989 من غير ان يتسنى عقد قمة - علنية على الأقل - معه بعد انتخابه والى حين اغتياله. وبحكم التأثير السوري في اختيار الرئيس اللبناني، فإن العلاقة الشخصية بين كل من هؤلاء والأسد حاولت ان تضفي طابعاً خاصاً على العلاقات بين البلدين. والواضح ان الهراوي هو أكثر الرؤساء اللبنانيين بناءً لعلاقة شخصية مع الأسد ثابر عليها حتى بعد خروجه من الحكم العام 1998، وظل في وسعه - خلافاً لسواه - الاتصال بالرئيس السوري تكراراً ومخابرته والالتقاء به عائلياً، من غير إغفال عامل أساسي هو قرار الأسد بالذات تمديد الولاية الرئاسية للهراوي لتصبح تسع سنوات بدلاً من ست خرج منها بانتقال دستوري هادئ. لكن الطابع الشخصي المرافق للقمة بين الرئيسين اللبناني والسوري، فيجتمعان في خلوات تقتصر عليهما وحدهما لتبادل آراء في ما يتصل بأسرار العلاقات الثنائية نفسها، لم يحجب دعم السوريين عقد قمم موسعة كان يشترك فيها من الجانب اللبناني رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهي قمم شهدت أوجها في عهد الهراوي خصوصاً وإبان ولايته الأولى - ولم تكن قد أرسيت تماماً دعائم العلاقات بين البلدين - لتتراجع في الولاية الثانية، فيغلب على هذه طابع القمم الثنائية. كيف توزعت القمم ال 84 إذاً؟ - مع الرئيس سليمان فرنجيه عقدت بعد اندلاع الحرب اللبنانية قمتان لبنانية - سورية الاولى عام 1975 في شتورة، والثانية عام 1976 في دمشق شارك فيها رئيس الوزراء رشيد كرامي وكرّست ما عرف سنتذاك ب"الوثيقة الدستورية" كأول برنامج اصلاحي للنظام اللبناني نوقش بدءاً بين الرئيسين اللبناني والسوري. لكن ثمة قمة أولى بين فرنجيه والأسد العام 1971 بعد سنة من انتخاب الرئيس اللبناني وقبل بدء الحرب اللبنانية. - مع الرئيس الياس سركيس عقدت تسع قمم لبنانية - سورية ست منها ثنائية وثلاث موسعة، آخرها قبل أكثر من سنة ونصف سنة من نهاية ولاية سركيس 1981 بدت معها العلاقة بين الرئيسين اللبناني والسوري مشوبة بفتور ملحوظ وبثقة مفقودة مردها الى دعم سركيس "الجبهة اللبنانية" وبشير الجميل خصوصاً، بغية احداثه توازناً بين القوى المحلية التي تلقى دعماً سورياً "الحركة الوطنية" وتلك التي تناصب دمشق العداء ك"الجبهة اللبنانية". فكان ان شلّ سركيس مقدرة سورية على التأثير في مسار اللعبة اللبنانية والسيطرة على قراراتها. - مع الرئيس أمين الجميل عقدت 11 قمة لبنانية - سورية تسع منها ثنائية واثنتان موسعتان، وانتهت بخلاف بين الرئيسين في الزيارة الاخيرة للجميل لدمشق قبل 24 ساعة من نهاية ولايته للحصول على اتفاق مع الأسد من اجل تأمين انتقال دستوري هادئ، سرعان ما أفسده يومذاك - والجميل في دمشق - "انقلاب" قائد الجيش ميشال عون وقائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع عليه. الا ان الخلاف بين الجميل والأسد استشرى منذ القمة العاشرة 1986 عندما رفض الرئيس اللبناني دعم "الاتفاق الثلاثي" بين ثلاث ميليشيات لبنانية رعته دمشق بقوة، فحصلت القطيعة بين الرئيسين. وفي الواقع بدا عهد الجميل أكثر هذه العهود توتراً والتباساً في العلاقة مع سورية. فهو بدأ على خلاف معها، اذ لم يكن الجميل مرشحاً سورياً للرئاسة وانتخب في ظل الاجتياح الاسرائيلي للبنان، فضلاً عن مضيه في عقد اتفاق سلام لبناني - اسرائيلي هو اتفاق 17 أيار 1983 سرعان ما أسقطه الأسد والجيش السوري في "حرب الجبل" بقيادة وليد جنبلاط ومن بعدها "حرب الضاحية" بقيادة نبيه بري. وانتهى العهد بخلاف مماثل لا يزال الجميل يدفع ثمنه بوجوده منذ عام 1988 في منفاه القسري في باريس. - مع الرئيس الياس الهراوي عقدت 61 قمة لبنانية - سورية منها 38 قمة ثنائية و22 قمة موسعة أرخت الحقبة السورية في تاريخ العلاقات اللبنانية - السورية بإرساء هذه على معاهدات واتفاقات بغية تنظيمها، على نحو لم يسبق له مثيل منذ استقلال البلدين عن الانتداب الفرنسي في مطلع الاربعينات. الا انها لقيت معارضة حادة من الفريق المسيحي اللبناني خصوصاً من بطريرك الموارنة لاعتباره اياها غير متكافئة بين البلدين أفقدت لبنان إرادته وقراره الحر. - مع الرئيس إميل لحود عقدت قمة واحدة 1999 بدت، اعلامياً على الاقل، بمثابة قمة تعارف بين الرئيسين. الا انها لم تكن كذلك، كونهما التقيا في قمة سرية بناء على طلب الرئيس اللبناني سبقت اعتذار الرئيس رفيق الحريري عن تشكيل أولى حكومات عهد لحود، رغب منها رئيس الجمهورية، سلفاً، تسويق ترشيح الرئيس سليم الحص لرئاسة الحكومة، فلم يفلح في إقناع الأسد. ومع ان العلاقات الشخصية بين الأسد والرؤساء اللبنانيين باستثناء لحود من دون تجاهل جانب من الحرارة في علاقته بالجميل بين عامي 1984 و1985 ساهمت في توطيد الحد الادنى من التفاهم بين البلدين، الا ان الرئيس اللبناني الحالي لم يقطف مع نظيره السوري ثمرة علاقة شخصية بسبب اجتماعهما مرة واحدة في 12 شباط فبراير 1999، وهو غير كاف لبناء هذه العلاقة. بيد ان المهم في الانقطاع بين الرئيسين - وقد استعيض بمكالمات هاتفية اسبوعية تقريباً - تعويضه بلقاءات دورية بين لحود والدكتور بشار الأسد نجل الرئيس السوري بدت الى حد بعيد بمثابة قمم لبنانية - سورية بديلة من اجتماع رأسي الدولتين، لكن تنعقد في بيروت. وهي قمم - اذا صح التعبير - لم تكن تنقصها السلطة الكاملة كما التفويض الكامل من اجل اتخاذ قرارات حاسمة بفعل تسلّم الأسد الإبن الملف اللبناني بكل تعقيداته الى الحد الذي كان يجعله قادراً آنذاك على الفصل فيه. فضلاً عن مسألة موازية في أهميتها هي ان اختيار لحود لرئاسة الجمهورية كان خيار بشار الذي ربطته بالرئيس اللبناني علاقات وطيدة من أيام وجوده في قيادة الجيش، وهو أمر يقتضي في المقابل الاشارة الى دور الوزير سليمان فرنجيه في جمع الرجلين. فاجتمع لحود بالأسد الابن خمس مرات آخرها في 6 شباط / فبراير الماضي القمم الثنائية القمم الموسعة المجموع سليمان فرنجية 1 1 2 الياس سركيس 6 3 9 أمين الجميّل 9 2 11 الياس الهراوي 36 22 61 اميل لحود 1 - 1 المجموع 56 28 84