هل هي 25 عاماً انقضت على الرصاصة الاولى في أطول الحروب اللبنانية التي بدأت في 13 نيسان أبريل 1975 وانتهت في 13 تشرين الاول أكتوبر 1990 لتكشف التغيير الكبير الذي أصاب هذا البلد الصغير في كل شيء تقريباً، أم أن المناسبة حلقة في سلسلة لم تنته بعد وإن توقفت الحرب؟ نحو ثلثي تاريخه الحديث أمضاه لبنان بلا قرار مستقل: مرة تحت وطأة الوصاية، ومرة تحت وطأة الاحتلال، ومرة - وربما مراراً - تحت وطأة عدم مقدرته على قيادة نفسه وتوجيه إرادته وقراره المستقل. اما بلغة الارقام فتاريخ لبنان الحديث هو الآتي: منذ اعلان الجمهورية اللبنانية، "الجمهورية الاولى" ووضع اول دستور للبلاد 1926 وحتى نيله الاستقلال الوطني 1943، أقام لبنان 17 عاماً في ظل حكم الانتداب الفرنسي. ومنذ 1943 وحتى اليوم، عبر لبنان في 57 عاماً جمهوريتين اثنتين، الاولى هي "الجمهورية الثانية" 1943 - 1989 والثانية هي "الجمهورية الثالثة" مع تعديل الدستور عملاً بإصلاحات الطائف ووضعه موضع التنفيذ 1990... في السنين ال57 هذه 25 عاماً منها في ظل وجود عسكري وسياسي سوري و22 عاماً في ظل احتلال اسرائيلي لقسم من جنوبه. وهذا يعني ان 42 عاماً من 74 عاماً هي تاريخ لبنان الحديث تكشف ان نحو ثلثي عمره السياسي والدستوري اقام في ظل سيادة الآخرين على ارضه، وفي ظل قرارهم عليه. بل في الواقع وقع نحو نصف تاريخ لبنان المستقل ايضاً في دائرة سيادة الآخرين وقرارهم منذ "الجمهورية الثانية" والى ما بعد اعلان "الجمهورية الثالثة" ولا يزال. بعد 25 عاماً على الرصاصة الاولى في 13 نيسان ابريل 1975، ماذا تبقى من لبنان القديم؟ وبماذا جاء لبنان الجديد اذا كان لا بد من الاعتقاد بأن حرب 1975 - 1990 كانت حداً قاطعاً بين ما قبل 1975 وما بعد 1990 الى اليوم؟ بل لعلّ الارقام الآتية عن حقبة الحرب اللبنانية في وسعها ان تُنبئ بأي تغيير كبير حصل وأي قوى وطوائف ومذاهب وُلِد على جثثها هذا التغيير: 133140 قتيلاً و207151 جريحاً و17415 مفقوداً و13968 مخطوفاً و13455 معاقاً ما بين 1976 و1991. ولا يدخل في عداد هذه الارقام القتلى الفلسطينيون الذين سقطوا في مخيماتهم في اثناء الاشتباكات بين التنظيمات والفصائل الفلسطينية، ولا الغارات الاسرائيلية على المخيمات الفلسطينية التي قضت على نحو 200 فلسطيني. ولا يدخل في هذا الحساب ايضاً مقتل 857 فلسطينياً وجرح 1124 آخرين في اقتحام مخيمي صبرا وشاتيلا 1982 على اثر اجتياح الجيش الاسرائيلي بيروت، ولا سقوط 9267 قتيلاً و6787 جريحاً في حروب مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا والجنوب بين التنظيمات الفلسطينية وحركة "أمل". ولا يدخل في هذا الحساب تفجير 3641 سيارة أودى بحياة 4386 وجرح 6784، فضلاً عن حروب الميليشيات المسيحية وانتفاضات بعضها على البعض الآخر او تصفية جيوبها "القوات اللبنانية" وأحزاب "الجبهة اللبنانية" بمقتل 3328 مواطناً، وحرب الجيش اللبناني و"القوات اللبنانية" بمقتل 648 مواطناً 1990، وحروب الميليشيات الاسلامية والعقائدية بعضها مع البعض الآخر حركة "أمل" و"حزب الله" والحزب الشيوعي اللبناني والحزب التقدمي الاشتراكي و"المرابطون" والحزب السوري القومي الاجتماعي التي حصدت اعداداً غير محددة من القتلى والجرحى. من غير اغفال مئات اللبنانيين في المعتقلات في "الحزام الامني" المحتل وداخل اسرائيل. وكذلك من غير احتساب مئات القتلى في الشهور الاولى من بدء الحرب 1975 بتصفيات جسدية فورية سببها الانتماء المذهبي والطائفي والعقائدي. ولا احتساب اعداد اللبنانيين الذين هاجروا من بلدهم في سني الحرب بنسبة 30 في المئة من سكانه ليبلغ الرقم بين 1975 و1995 أكثر من مليون مهاجر. اما اللبنانيون النازحون من بيوتهم وبلداتهم داخل وطنهم لأسباب تتصل بالمعارك العسكرية والتهديدات والابعاد والاختلاف المذهبي والطائفي، فبلغوا نحو 70 ألف عائلة بمعدل وسطي هو 350 ألف مهجر بين 1975 و1990، رجع منهم نصفهم تقريباً بعد 1991 بفعل تطبيق خطط العودة والمصالحات واعادة بناء المنازل المهدمة وتنمية القرى. لكن الذكرى 25 على الرصاصة الاولى في 13 نيسان ابريل 1975 ليست هذه الارقام فقط. ولا هي ارقام فقط. بل ايضاً بسبب تلك الحرب ونتائجها التي لم تكن على صورة اندلاعها ولا على صورة افرقائها الاولين، اوجدت لبنان آخر هو غير لبنان القديم الذي عرفه اللبنانيون في الاربعينات والخمسينات في ذروة ازدهاره والنصف الاول من الستينات عشية الحرب العربية - الاسرائيلية في 1967. انتهت الحرب في لبنان على نحو لا يمت بصلة ابداً الى دوافع انفجارها، ولم تكن دوافع هذا الانفجار وشراسته لتوصل الى خاتمته في ظل الثمن الباهظ الذي دفعه لبنان بتهاوي عملته الوطنية وانهيار اقتصاده وتدمير بناه التحتية وتشقق مؤسساته الدستورية وتصدّع وحدته الوطنية وانشقاق طوائفه ومذاهبه بعضها على البعض الآخر. طويت صفحة الحرب فجأة بقرار عربي ودولي، وبوثيقة كانت محور تفاهم اكثر من فريق كان معنياً بالحرب اللبنانية الطويلة، شأن السوريين والاميركيين والاوروبيين والفاتيكان، ثم في آخر هذه السلسلة اللبنانيون: اتفاق الطائف الذي تضمن اصلاحات سياسية ودستورية في نظام الحكم وأعاد بناء العلاقات اللبنانية - السورية سبيلاً الى انهاء حرب طويلة كانت بدأت بحرب شوارع بين الفصائل الفلسطينية وميليشيا حزب الكتائب بعد ظهر الأحد 13 نيسان ابريل 1975 في عين الرمانة، بإطلاق نار على بوسطة كانت تقل فلسطينيين في طريقها الى مخيماتهم مروراً بذلك الحي المسيحي. منذ ذلك النهار شاع في البلاد انفجار حرب لبنانية - فلسطينية استمرت حتى 1982 مع خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت ومخيمات ضواحيها الى تونس، لتنفجر من ثم حرب ثانية بين اللبنانيين على تطوير نظام الحكم ووضع اصلاحات دستورية وسياسية، كما على الموقف من وجود الجيش السوري في لبنان وفي خضم احتلال اسرائيلي بدأ للجنوب في 1987 ثم توسع في 1982 ليشمل نحو نصف البلاد ويدق ابواب العاصمة بيروت، ثم يحتلها بعد اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل. على ان حرب اللبنانيين ضد اللبنانيين كانت في الوقت نفسه حرباً على موقع لبنان في خضم الصراع العربي - الاسرائيلي. ولذا عارضت سورية وجيشها بشراسة ابرام لبنان اتفاق سلام مع اسرائيل، وساهمت مع حلفائها اللبنانيين بزعامة وليد جنبلاط ونبيه بري في تقويض السلطة المركزية لعهد الرئيس أمين الجميل مما أدى إلى انشطار المناطق عن بعضها البعض. وقيل يومها في "حرب الجبل" 1983 انها حرب اللبنانيين المؤيدين ل"الخيار السوري" في مواجهة اللبنانيين المؤيدين ل"الخيار الاسرائيلي" الذي لم يكن يعني اكثر من محاولة متعثرة لأمين الجميل لإخراج البلاد من دائرة الصراع العربي - الاسرائيلي، بتحقيق سلام مستقل مع اسرائيل. لكن ذلك كان يعني ايضاً بالنسبة الى السوريين الذين اخرج الاسرائيليون جيشهم النظامي من بيروت والمرتفعات المتاخمة لها حتى طريق بيروت - دمشق تطويقهم بثانية الدول العربية التي تبرم سلاماً مع اسرائيل. فخاض اللبنانيون حلفاء سورية معركة عودة جيشها الى بيروت 1987 بعد معركة تفكيك الجيش اللبناني وانتزاع بيروت وجبل لبنان الجنوبي من سيطرة حكم أمين الجميل الذي لم يرَ مفراً من التسليم، حفاظاً على استمراره في رئاسة الجمهورية، ب"الخيار السوري" فينقسم المسيحيون من حوله وعليه. حتى اجتياح 1978 وسيطرة اسرائيل على شريط امني داخل الاراضي اللبنانية بغية ابعاد هجمات المسلحين الفلسطينيين عن مستوطناتها، لم يكن العامل الاسرائيلي قد دخل فعلياً في صلب معادلة الصراع الداخلي في البلاد الذي ظل لثلاث سنوات 1975 - 1978 أسير الحرب اللبنانية - الفلسطينية، يختلف اللبنانيون بإزائه بين فريقين: كمال جنبلاط وبعد اغتياله وليد جنبلاط يقود مع الاحزاب العقائدية واليسارية معركة حماية الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان كجزء من هدف مقاومة اسرائيل لاستعادة الاراضي المحتلة، وكميل شمعون وبيار الجميل بالتزامن مع صعود بشير الجميل يقودان معركة تجريد الفلسطينيين من اسلحتهم وتقويض دولتهم التي نجحوا في بنائها منذ 1973 من ضمن الدولة اللبنانية. في تلك الاثناء كان قد دخل العامل السوري في مهمة وساطة بين الطرفين اللبنانيين اللذين اضفيا ايضاً على حربهما ملامح اللبننة: كمال جنبلاط ومن بعده نجله وحلفاؤهما بالمناداة بإصلاح جذري للنظام السياسي والدستوري في البلاد وإن بالوسيلة العسكرية، والاحزاب المسيحية بتشبثها بالنظام القائم مع انفتاح محدود على فكرة الاصلاح كرد فعل على تهديد المسيحيين في وجودهم السياسي. بدا الفلسطينيون حلفاء كمال جنبلاط، والسوريون بعد دخول جيشهم النظامي الى عمق الاراضي اللبنانية 1976 حلفاء الميليشيات المسيحية بغية اعادة التوازنين السياسي والعسكري بين هذين الفريقين وتجنيب احدهما الانتصار على الآخر، والتمكن من السيطرة على الورقة الفلسطينية في النزاع العربي - الاسرائيلي الذي لم يجد السوريون آنذاك سبباً لعزله عما يدور داخل لبنان. وهي وجهة النظر التي ستؤكد بعد اكثر من عقدين، خصوصاً اعتباراً من النصف الثاني من التسعينات، صحة الموقف السوري في حاجته الى لبنان في حمأة النزاع مع اسرائيل وفرص بلوغ تسوية للصراع العربي - الاسرائيلي عبر بوابة لبنان اولاً. بيد ان لعبة المواقع هذه سرعان ما انقلبت الى نقيضها الحاد في الشهور الاخيرة من 1977 فالسوريون اضحوا حلفاء القوى الاسلامية والاحزاب العقائدية بقيادة وليد جنبلاط والمنظمات الفلسطينية خصوصاً بعد زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل، والاحزاب المسيحية المنخرطة في "الجبهة اللبنانية" أرست علاقات تعاون عسكري مع اسرائيل توجه اجتياح الدولة العبرية لبنان في 1982 والذي سرعان ما ساهم في انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية ومن بعده شقيقه أمين الجميل، بمثل ما ساهم من قبل الجيش السوري في عزّ تحالف دمشق مع "الجبهة اللبنانية" في انتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية 1976، ثم بعد سنوات في انتخاب رينه معوض ومن بعده الياس الهراوي رئيساً للجمهورية 1989. ولذا لم تكن الحرب اللبنانية مرة، بلاعبيها اللبنانيين خصوصاً، الا أسيرة التوازن السياسي والعسكري الاقليمي بين سورية واسرائيل. خرج الفلسطينيون من المعادلة وانخرط فيها اللبنانيون منقسمين مجدداً بين حلفاء لسورية ومعارضين لها. في 1989 انتهت فجأة الحرب اللبنانية باتفاق وقعه البرلمانيون اللبنانيون في مدينة الطائف السعودية برعاية عربية وتسليم أميركي وأوروبي ورضى فاتيكاني. انتهت الحرب فجأة بوثيقة اصلاحات سياسية لم يلبث ان كرّسها بعد نحو سنة تعديل الدستور. في هذه الغضون فُوِّض الى السوريين الاشراف على اعادة الاستقرار الى البلاد وبناء حكومة مركزية بدءاً بتصفية الجيب الذي كان لا يزال يشغله اعتصام العماد ميشال عون، رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية، في القصر الرئاسي رافضاً الانضمام الى تسوية الطائف والاعتراف بالشرعية الدستورية المنبثقة منه بانتخاب رينه معوض ثم الياس الهراوي رئيساً، وبحكومة سليم الحص. فأطاحه هجوم عسكري نفذه الجيشان السوري واللبناني بعدما كان البرلمانيون اللبنانيون انجزوا قبل اقل من شهر 1990 تعديل الدستور. كان ذلك ايذاناً بالانتقال بالبلاد الى "الجمهورية الثالثة" وطي صفحة الحرب في لبنان نهائياً. اذ ذاك قيل ان ثمة اتفاق طائف آخر يصنعه السوريون في لبنان من خلال شرعية دستورية تدين لهم بالولاء، ابرز وجوهها الياس الهراوي الذي رشحته دمشق لرئاسة الجمهورية، فأطلق يدها في قرار اطاحة ميشال عون. الا انه كان في المقابل القرار الوحيد الذي سيتيح له الامساك بالسلطة والحكم رئيساً فعلياً يسيطر على الاراضي اللبنانية الواقعة تحت سيطرة الجيش اللبناني والجيش السوري، ويعيد بناء المؤسسات الدستورية والوطنية، ثم يمهد بعد نحو سنتين 1992 لإجراء اول انتخابات نيابية عامة في البلاد بعد انقطاع 20 عاماً. لكن أي لبنان جديد انبثق؟ لم يكن في الامكان معرفة اي لبنان جديد انبثق من الحرب الا في ظل السلام الداخلي وشروط تحقيقه والقوى القادرة على فرضه، وإن بدا لكثيرين ان الحرب انتهت من غير ان يكون قد بدأ السلم الاهلي. ومغزاه بناء نظام حكم سياسي يلاقي هدف الاصلاحات الدستورية بتحقيق مشاركة فعلية لكل القوى التمثيلية الرئيسية في الانضمام الى المؤسسات الدستورية، وفي اتخاذ القرارات الوطنية. وهو ايضاً مغزى نشوء طبقة سياسية موالية بكليتها للدور السوري في لبنان، ولاستمرار وجود الجيش السوري على الاراضي اللبنانية ما دام ثمة احتلال اسرائيلي للجنوب وفي انتظار تسوية شاملة وعادلة. هي الطبقة السياسية التي نشأت من انتخابات 1992 وسيطرت بغالبيتها على الحكومات الست المتعاقبة في عهد الياس الهراوي، وأوصلت الى رئاسة مجلس النواب اقوى حلفاء سورية في لبنان نبيه بري، وحافظت على الموقع المميز لوليد جنبلاط في الحكم. ثم أعادت انتخابات 1996 لتؤكد تكريس استمرار هذه الطبقة. على ان الحاجة الى كل هذا الانقلاب السياسي كانت تقتضي اولاً وأساساً ارساء علاقات لبنانية - سورية متينة ودائمة استناداً الى القانون لا النيات والهوى السياسي فحسب. او على الاقل استعادة الحد الادنى من تجربة "الاتفاق الثلاثي" 1985 الذي أشرف على انجازه السوريون بدعم قواه الثلاث آنذاك نبيه بري ووليد جنبلاط والياس حبيقة قبل ان يسقطه أمين الجميل وميشال عون وسمير جعجع في تنظيم العلاقات اللبنانية - السورية. من ذلك المعاهدة اللبنانية - السورية ثم الاتفاق الامني بين البلدين 1991. وقد يكون عدد القمم التي عقدها الرئيسان اللبناني والسوري على امتداد الولاية الطويلة لالياس الهراوي خير معبّر عن موقع هذه العلاقات المميزة في سلم استمرار الاستقرار الداخلي والبناء التدريجي للمؤسسات الدستورية والوطنية ومؤازرة حلفاء دمشق في السلطة: في عهد الياس سركيس عُقدت تسع قمم لبنانية سورية، وفي عهد أمين الجميل عُقدت 11 قمة، وفي عهد الياس الهراوي عُقدت 61 قمة. ولعل في الرقم الاخير ما يشير الى اهمية الدور السوري في العهد السابق في تعاطيه وأدق تفاصيل الحياة الوطنية الداخلية، غالباً ما لجأ المسؤولون اللبنانيون آنذاك الى وساطة دمشق في تسوية الخلافات بينهم، او اجراء مصالحات شخصية. اذ عنى كذلك انعقاد 61 قمة لبنانية - سورية على امتداد تسع سنوات في عهد الياس الهراوي معدّلاً وسطياً هو ست قمم رئاسية في السنة الواحدة، ومعدّلاً وسطياً مماثلاً هو قمة لبنانية - سورية كل شهرين. بل الابرز انعقاد تسع قمم في سنة واحدة 1990، هي سنة التحولات الكبيرة في ذلك العهد الذي لم يبدأ فعلياً في ممارسة الحكم الا في شهورها الاخيرة مع التصويت على التعديلات الدستورية في مجلس النواب واخراج ميشال عون بالقوة من قصر بعبدا. بيد ان ذلك كله يطرح النتيجة الاكثر وقعاً في ثمن انهاء الحرب اللبنانية ووقف الاقتتال الداخلي، هي "الازمة الدستورية" المستمرة منذ عقد تماماً، ومنذ تعديل الدستور خصوصاً. اذ افضى اتفاق الطائف الى اعادة بناء المؤسسات الدستورية طبقاً لمعادلة سياسية اكثر منها دستورية، هي توزيع السلطات والصلاحيات على الطوائف الثلاث الاساسية مناصفة: الموارنة والسنّة والشيعة، بتجريد رئيس الجمهورية من جزء مهم من اختصاصاته الدستورية، وإناطتها بمجلس الوزراء برئاسة رئيس مجلس الوزراء الذي لم يعد رئيس الجمهورية بل رئيس الحكومة، وتعزيز موقع رئيس مجلس النواب ومن خلاله مجلس النواب ما دام قابضاً على سلطة القرار فيه عبر تمديد مدة ولايته. بذلك اتاحت التعديلات الدستورية توفير افضل فرص التصادم والاختلاف بين المؤسسات الدستورية خصوصاً بإيجاد مؤسسة مجلس الوزراء كمصدر القرار في السلطة الاجرائية يشارك فيه الجميع. ولهذا غالباً ما تدخّل السوريون في السنوات التالية من حقبة الطائف لمصالحة المسؤولين المختلفين على السلطات والصلاحيات وبذلك ايضاً وأيضاً أضحت دمشق مرجعية "الازمة الدستورية" هذه التي لا يزال يُشكى منها الى اليوم. على الاقل بشهادة الخلافات الاخيرة قبل اسبوعين في مجلس النواب جلسة الاستجوابات على تفسير الدستور، ومن قبلها بأيام السجال على صلاحيات نائب رئيس الحكومة ما قاد لتوّه الى اطلاق اتهامات مذهبية. وليست "الازمة الدستورية" وحدها الثمن الباهظ لتسوية سياسية في حرب أهلية لم تنته حكماً بحل سياسي، ولم يكن في الامكان فرض تطبيق الحل السياسي الا بالخيار العسكري. وهو ما حصل بإقصاء ميشال عون بالقوة، فأشعر المسيحيين - بالتزامن مع انتخاب رئيس للجمهورية هو الياس الهراوي لم يختاروه - انهم خسروا حرباً طويلة كانوا رأس حربة في خوضها، ولم تنته بالخصم نفسه الذي بدأت معه. كانت الخسارة مزدوجة: عسكرية وقد ساهم فيها اقتتال المسيحيين في حرب ميشال عون وسمير جعجع التي قوّضت كلياً قوتهم وآلتهم العسكرية، وسياسية في التسليم بتنازلات التخلي عن جزء من صلاحيات رئيس الجمهورية في مقابل استعادة قسم من السيادة على الارض. وهو ما عنته الوعود التي تلقاها البرلمانيون المسيحيون في اجتماعات الطائف بمطالبتهم بالتساهل حيال انتقال بعض صلاحيات رئيس الجمهورية الى مؤسسة مجلس الوزراء لقاء اعادة انتشار القوات السورية في البلاد الى اطراف البقاع في مهلة سنتين بعد المصادقة على التعديلات الدستورية. على ان الثمن السياسي في الدستور اضحى مجانياً. ولم يعد في الامكان بعد انقضاء السنتين 1992 مطالبة السوريين بمغادرة قسم من البلاد. اذ كان بدأ مؤتمر مدريد للسلام اعماله سبيلاً الى تسوية سلمية في الشرق الاوسط، فنشأ تبعاً لذلك التلازم بين المسارين اللبناني والسوري في مفاوضات التسوية السلمية. في هذه الاثناء لم تعد اسرائيل في صلب المعادلة الوطنية بين اللبنانيين، ولا عاملاً مؤثراً في تخريب الدور السوري في لبنان على غرار ما كانت عليه في النصف الثاني من السبعينات وحتى النصف الاول من الثمانينات. لكنها اضحت قادرة اكثر على التعرض للمدنيين اللبنانيين في لعبة عض الاصابع في المفاوضات مع سورية: لعبة عض الاصابع المتبادلة. سورية عبر المقاومة، واسرائيل بتصعيد اعتداءاتها. كل ذلك بعد انقضاء الحرب اللبنانية التي نجح اتفاق الطائف ورعاية سورية وحدها لتطبيقه في اخراج العامل الاسرائيلي من صلب المعادلة الوطنية وتعزيز مواقع القوى الحليفة لسورية، فضلاً عن التأثير الكبير لدمشق في معظم القرارات الداخلية، الكبيرة والصغيرة، وارساء توازن سياسي جديد اشعر المسيحيين، خصوصاً بعد انتخابات 1992، انهم خسروا فعلاً حربهم تلك، فيما حصد اللبنانيون الشيعة افضل مكاسبها، وخرج من الحرب رابحان كبيران في السلطة هما نبيه بري ووليد جنبلاط وان في ظل حكم رئيس قوي للجمهورية هو الياس الهراوي يحظى بثقة نظيره السوري. في هذا الوقت كان المسيحيون، لا سيما منهم الموارنة، فقدوا كميل شمعون وبيار الجميل، ونأى ريمون إده بنفسه عن لبنان فيما يمنع أمين الجميل وميشال عون من العودة الى البلاد، فلم يبق غير بطريرك الموارنة في بكركي الذي يعلن مواقف جريئة، فيما تطمئن دمشق الى موالاة جميع المؤسسات لها. توقفت الحرب بين اللبنانيين، من غير ان يخرج لبنان من أسر موقعه بين دولتين إقليميتين قويتين، ليس في وسعه حيالهما الا الانحياز الى سورية، إلا أنه يدفع الثمن. حرب 1975 - 1990 التي بدأت بالعامل الفلسطيني وباتت اليوم رهينة التسوية السلمية الشاملة، قدمت باتفاق الطائفللبنانيين اخيراً سلماً داخلياً لا قتلى فيه ولا اغتيالات ولا متاريس ولا حروب شوارع الا أنه مقيم على فوهة بركان ذلك الاتفاق محطات في 15 سنة حرب في 15 عاماً من سني الحرب اللبنانية 1975 - 1990: - تناوب على السلطة خمسة رؤساء للجمهورية اثنان اغتيلا هما بشير الجميل 1982 قبل ان يتسلم سلطاته الدستورية بتسعة ايام، ورينه معوض 1989 الذي أقسم اليمين من غير أن يحكم. فيما تعاقب بعد انتهاء ولاية سليمان فرنجية المنتخب 1970 كل من الياس سركيس 1976 - 1982، أمين الجميل 1982 - 1988، الياس الهراوي 1989 - 1998. - تناوب على رئاسة مجلس النواب بعد اقصاء كامل الأسعد بقرار سوري لمجاراته اتفاق 17 أيار مايو 1983 كل من حسين الحسيني 1985 - 1992، ونبيه بري 1992 - .... ولم يتح انتخاب برلمان جديد للبلاد الا بعد انتهاء الحرب، في 1992 للمرة الاولى منذ 20 عاماً، في اثنائها استمر البرلمان المنتخب في 1972 في تمديد ولايته قانوناً بعد آخر لتبلغ ثمانية قوانين تمديد ما بين 1976 و1989. - تعاقب على رئاسة الحكومة اربع رؤساء: سليم الحص 1976 و1979 وشفيق الوزان 1980 في عهد الياس سركيس، وشفيق الوزان 1982 ورشيد كرامي 1984 في عهد أمين الجميل، وميشال عون على رأس حكومة عسكرية انتقالية في مرحلة الفراغ الدستوري بخلو منصب رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية أمين الجميل من دون التمكن من انتخاب خلفه 1988 - 1989، وسليم الحص 1989 في عهد الياس الهراوي. على ان رئيسا للحكومة هو رشيد كرامي اغتيل في اثناء وجوده في السلطة 1987 بتفجير طوافة عسكرية كانت تقله في خضم الصراع السياسي والعسكري في البلاد. - نُكبت الطوائف برموز كبار اغتيلوا: مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد 1989، الزعيم الدرزي كمال جنبلاط 1977، النائب طوني فرنجية 1978، رئيس حزب الوطنيين الاحرار داني شمعون 1990، النائب السابق معروف سعد 1975. واختفى الزعيم الشيعي الإمام موسى الصدر أثناء زيارته لليبيا 1978 ولا يزال مصيره مجهولاً الى اليوم. كذلك فضل ريمون إده النفي الاختياري في باريس 1976، وأُرغم أمين الجميل على مغادرة البلاد بعد ايام على انتهاء ولايته الدستورية 1988، فيما أبعد ميشال عون عن لبنان 1991 بقانون لا مثيل له بعد نحو سنة من لجوئه الى السفارة الفرنسية على أثر إطاحته بهجوم عسكري نفذه ضده الجيشان السوري واللبناني 1990 ولا يزال مقيماً في باريس على رغم انتهاء المدة القانونية للإبعاد وهي خمس سنوات. وبعد سنوات قليلة على طي الحرب دخل سمير جعجع، أحد أبرز رموز الحرب وقائد ميليشيا "القوات اللبنانية"، السجن 1994 بتهم ارتكاب جرائم اغتيال رشيد كرامي وداني شمعون ومحاولة اغتيال ميشال المر. وهو السياسي الوحيد، وزيراً سابقاً في حكومتين رفض الانضمام اليهما، الذي يلاحق وتصدر في حقه أحكام قضائية ويُسجن من دون سائر نظرائه في ميليشيات أخرى بلغوا مراتب السلطة. ولا يسقط في هذا الحساب ايضاً اغتيال السفير الأميركي فرنسيس ميلوي 1976 والسفير الفرنسي لوي دولامار 1981 ومقتل السفير الإسباني بدرو مانويل دو أرستيغي 1989 إبان عمليات عسكرية وقذائف استقرت في مبنى السفارة، وسقوط نائبين هما لويس أبو شرف 1989 بقذيفة على شرفة منزله وناظم القادري 1989 اغتيالاً.