سؤال يتردد هذه الايام على كل الشفاه في تونس... وفي العواصم الغربية التي تتابع الشأن التونسي من كثب: هل أزهر الربيع في البلاد؟ هل عادت ابتسامة الحريات، خصوصاً الحرية الصحافية بعد طول غياب؟ وكانت قد مرت سنوات شهدت تراجعاً في مستويات الاعلام وغياباً للصدقية واعتماد ما يسمى هنا ب"اللغة الخشبية" اي لغة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، واستيقظت البلاد فجأة بعد تلك السنوات على محاولات لم تتعمم بعد شهدت بعض التحرر وانطلاق الألسن من عقالها، بمبادرة من رئيس الدولة الذي اشتكى كثيراً من اداء اجهزة الاعلام التونسي التي كبلتها "التعليمات" الصادرة عن اجهزة حكومية، وما سمي في حينه "الرقابة الذاتية" التي كانت وراءها سياسات معينة لتوزيع الاعلان الحكومي الذي يمثل نصف سوق الاعلان في البلاد او اكثر، واتبعت فيه سياسات انتقائية مرتبطة لا بالتوزيع ولا بالاداء الاعلاني ولا بنوع القراء ومدى توجه الاعلان اليهم، وانما بالولاء وغياب روح النقد واتباع التعليمات. وقد تحركت، شيئاً ما، بعض الصحف التونسية وانطلقت بعض الألسن بعد طول صمت، وانفتح باب امل عريض لدى القراء في ان يزهر الربيع من جديد وتتفتح آفاق رحبة لحرية التعبير - ام الحريات وفق ما يعتقده السياسيون في تونس - لانها تسمح للحريات الاخرى بالتعبير عن نفسها. الرأي والصباح ومنذ العام 1977 عرفت تونس انطلاقة جديدة لحرية التعبير وتراجع مساحة الكبت. وتضافر آنذاك عاملان أساسيان لتلك النقلة النوعية بقيام جهتين بفتح الطريق، هما صحيفة "الرأي" التي كانت تعتبر آنذاك مساحة جيدة للحوار، وهي صحيفة مستقلة سمحت لها السلطة بالصدور، وكذلك صحيفة "الشعب" الناطقة بلسان اتحاد النقابات بزعامة النقابي الراحل الحبيب عاشور، والتي فكّت عقدة لسانها في ظل الخلاف الحاد الذي قام بين الهادي نويرة رئيس الحكومة آنذاك وحليف الامس القريب الحبيب عاشور الامين العام لاتحاد الشغل آنذاك. وأسهمت صحيفة "الصباح" المستقلة وقتها بنشاط في تلك الحركة فنشرت في 1977 مقالاً للكاتب عبدالعزيز بالطيب دعا فيه الى تحرير تأسيس الاحزاب والكف عن سياسات الحزب الواحد وسيادة ذلك النمط من التنظيم السياسي الذي برز بإفلاسه في وقت كان فيه التجرؤ بالحديث عن كسر مقولة الحزب الواحد "المنقذ" مغامرة غير مأمونة العواقب. وكان ذلك المقال الذي وقف ضد ما كان يعتبر من "المقدسات" واخترق ابواب المحرّمات واسقط قناعها فاتحة للدعوة الصريحة الى التعددية السياسية، فتأسست "حركة الديموقراطيين الاشتراكيين" بزعامة احمد المستيري ربيع العام 1978 وكانت خطوة تاريخية وان لم يجد ذلك الحزب الطريق مفتوحة امامه، اذ كان عليه ان ينتظر حتى نهاية 1983 للاعتراف به رسمياً. وفي تلك الاثناء تحرك الحزب المعارض الاول الذي لا يزال على رغم ما اصابه من نكسات وانشقاقات اهم احزاب المعارضة، ودعا بزعامة احمد المستيري الى تغيير عميق في الحياة السياسية، فأقدمت بعض الصحف على نشر بياناته محققة بذلك النقلة النوعية في الحياة السياسية. وفي الفترة نفسها تقريباً تأسست "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان" التي دخلت في خصومات عميقة مع الحكم. وبين 1980 و1987 شهد ربيع تونس مدّاً وجزراً ولكن شهدت الفترة عموماً ازدهاراً للحياة السياسية على رغم نكسة انتخابات 1981. تغيير 1987 غير ان ازدهار صحافة حرة ذات مستوى تحقق بعد تحول 1987 وقدوم الرئيس بن علي للسلطة، فسادت حرية الكلمة وانتشرت صحافة تميزت بالتنوع وكثرة الاخبار وتعدد الحوارات وازهار التحليل الصحافي، فأقبل عليها القراء لمصداقيتها وتقلص مجال الاشاعة الى حد الغياب. وكانت الصحافة الجادة تجيب عن تطلعات القراء لصحافة خبرية تفسيرية متطورة كما يقول منظّرو الصحافة، فيما فتحت آفاق وابواب البلاد امام صحافة اجنبية قل تأثيرها في وجود صحافة وطنية ذات مستوى وصدقية وقادرة على استقطاب القراء. ولكن سريعاً ما انقلب الامر في ظل ممارسات جعلت من الاشهار الحكومي، لا اداة تبليغ وخدمة للقطاع الحكومي والعمومي الذي لا يزال تأثيره كبيراً في الحركة الاقتصادية الوطنية، بل اداة انتقاء وتنظيم ولاء واستبعاد او تقريب لا بحسب دور الوسيلة الاعلامية وانما حسب ولائها والاستجابة للتعليمات، ما غيّر المشهد الاعلامي لتتفوق وسائل معينة، وأضرّ بأخرى كانت اما اقل ولاء او هكذا بدا لاصحاب القرار، او لاسباب لا يعرفها احد. وفي الوقت نفسه حصل تدهور في الحياة السياسية، اذ ان الاحزاب المعارضة التي من المفترض ان تؤطر جزءاً من الطبقات السياسية والحياة السياسية تراجع دورها وباتت اشباحاً لاحزاب، فيما احتل الساحة بكاملها الحزب الحاكم واختفى تماماً الصوت المضاد او المعارض لتلك الاحزاب او المختلف الذي بات رجماً وترديداً فحسب. وبعد ان نشطت تلك الاحزاب طوال الثمانينات وفرضت نفسها على الساحة بأفكار ومواقف مخالفة للسلطة ومختلفة معها، تحولت عن ذلك الدور وبدت كما لو كانت مكملة للحزب الحاكم لا تنازعه في شيء. وعلى اهمية اختلاف الآفاق التي جاءت منها والافكار وحتى العقائد التي تدافع عنها فانها باتت في الغالب من بعضها، لا يفرّقها لا موقف ولا خطاب. غياب الندية ولا تفسر العولمة وتراجع الفكر اليساري كل ذلك، بل ان تراجع روح المنافسة أو محاولة معارضة الحزب الحاكم هي التي تبدو سبباً واضحاً. ولذلك فإن حلول ربيع مزهر جديد يدعو للتساؤل عما اذا كانت البلاد مقدمة على طور جديد من حياتها السياسية تتوافر فيه الحريات الصحافية، وهي حريات لا تعني شيئاً اذا لم تكن تفاعلات الحياة السياسية تنم عن صراع ضروري لتنشيط تلك الحياة. ويقول بعض كبار المثقفين الذين لزموا في معظمهم السكينة وفضّلوا الانتظار خلال السنوات القليلة الماضية "ان الصحافة مهما ارادت ان تفعل انما هي مرآة عاكسة لتفاعلات المجتمع او انها تسعى الى ان تكون كذلك". ويضيفون: "مهما كانت ارادة الصحافة قوية في التطوير والتغيير والتزام الحرية فانها بمفردها ليست قادرة على فعل المستحيل اذا كانت الحياة السياسية والفكرية راكدة في المجتمع، أو اذا غابت المنافسة وغاب الحد الادنى من الندية بين حزب حاكم يستند الى جهاز الدولة واحزاب معارضة ليست لها قوة ولا حول، وبالتالي فقدت كل قدراتها النضالية وأسلمت امرها ومقودها من دون محاولة لأداء دور المعارضة، كما استسلمت الى الحلول السهلة المتمثلة في طرد افواج متلاحقة من مناضليها لمخالفتهم آراء القيادات او معارضتهم لخط السير الذي اتبعته، مما اصابها بالعقم نتيجة التوجه الواحد الذي ساد فيها وغياب الرأي المخالف والثراء الذي يفرزه الحوار وتبادل الرأي". غير ان كثيرين باتوا يعتقدون بأن عودة الحريات الصحافية واقدام بعض الصحف ذات الدور الريادي يمكن ان يحيى النشاط السياسي في البلاد، ولكن لا بد ان ترافق ذلك عودة صدور صحف المعارضة ولعب دورها كقوة مضادة قادرة على التعبير عما يختلج في نفوس مناضليها وما يمكن ان يجمعوه من الانصار. ويعتقد عموماً بأن ربيع تونس قد اطلقه من عقاله التحرك الذي قام به الصحافي توفيق بن بريك الذي اضرب عن الطعام لمدة طويلة نسبياً ووجد في الصحافة الاجنبية همزة الوصل التي نقلت تحركه، حتى اليوم الذي حصل فيه على مطالبه، خصوصاً جواز سفره، ونضال قلّة من الذين لم يستسلموا. كل ذلك ليس من خلال اهمية ذلك التحرك او اهمية الشخص ولكن من خلال التنبيه الى الخلل القائم في البلاد وإلى غياب صحافة وطنية جديرة بذلك الاسم. وقد حصلت تحركات رسمية على اعلى مستوى، وتحركات في اوساط الصحافيين لاستعادة دور الصحافة الذي عرفته بعد تولي الرئيس بن علي السلطة قبل نحو 13 عاماً. ولا يزال المخاض كبيراً، ولكن اندفعت بعض الصحف المستقلة لخوض التجربة وتجاوز الممنوعات والالتصاق بمشاغل الناس مراهنة على ارادة الرئيس بن علي في تطوير الاعلام والخروج مما تردى فيه من تقهقر وما يمكن ان يؤدي اليه تطوير المضمون الصحافي من احياء للحياة السياسية في البلاد في اطار خطوط حمراء يتفق عليها المجتمع. وقد تغيرت اللهجة الى حد كبير وتم تجاوز اللغة "غير المقنعة" الى بدء طرح القضايا الفعلية، وتطورت لهجة "الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان" التي تعتبر اول تنظيم من نوعه في العالم العربي وافريقيا واصبحت، كما كانت قبلاً، لغة "احتجاجية" وعادت اليها ادوارها الاعلامية باعتبار اهمية شبكتها داخل البلاد وخارجها، اذ كانت اول من اخبر عن ايقاف عدد من السكان في منطقة داخلية احتجوا وفقاً لبلاغ اصدرته صحف قليلة - بعد امتناع استمر سنوات عدة- على ما اصابهم من فيضانات واتهموا السلطة المحلية بعدم التعامل معها بالصورة الملائمة. ويعتقد كثيرون بأن تونس قد تشهد خلال الاسابيع المقبلة انطلاقة جديدة للحريات العامة تعيدها الى ما كانت عليه قبل سنوات قليلة، وبتلك الصفة تستعيد لمعان صورتها في الخارج التي يعتقد عدد اكبر فأكبر من المراقبين بأن علاجها يتم في الداخل وبقرارات جدية، لا في الخارج بمحاولة استمالة عدد من الصحافيين او الصحف المعدومة الوزن والسمعة