الزائر لتونس هذه الأيام يلحظ بسهولة شديدة انصراف الشارع التونسي عن الشأن السياسي، الى درجة قد لا يصدّق معها أن هذا البلد كان على مفترق طرق قبل عقد مضى واستتب الأمر فيه أخيراً لصالح قوى التغيير التي جاءت ب - أو جاء بها - الرئيس زين العابدين بن علي في 7 تشرين الثاني نوفمبر عام 1987. كل شيء في تونس يمكن ان يقيسه الزائر على المستوى الثقافي والسياسي، لا يعبر إلا عن عنوان واحد كبير محوره التنمية، والتطوير الاقتصادي، ومواجهة متطلبات التوانسة الجدد... الذين لا يفصلهم الكثير عن أقرانهم من الشباب العرب الذي خلفوا وراءهم جملة من الشعارات الجميلة، والأحلام الجميلة، الى مواجهة استحقاقات الحاضر. إذ يتم تركيز عوامل التفوق والترقي في الخطاب الجماعي على التنمية وتطوير البنى الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة بدون أوجاع الخطاب السياسي القديم الذي كثيراً ما وضع مطالب التغيير الاجتماعي والسياسي خارج بنية النظام وعلى أساس التناقض القائم بينه وبين مطالب الجماهير. قبل عقد أو يزيد كانت تونس المرشح الأكبر في الشمال العربي الأفريقي لحدوث تحولات أساسية في بنية النظام التونسي، الذي كان يقوده الرئيس الحبيب بورقيبة، وكان النظام يعاني من مواجهات كبيرة وقوية من الأطراف الضالعة في لعبة السياسة والتغيير الاجتماعي في الأوساط التونسية. لم يكن اليسار التونسي هو الشوكة الوحيدة العالقة في حلق النظام، ومع أن حركة الشغل العام واتحاد نقابات العمال واتحادات الطلاب- التي كان يقودها اليسار- هي التي قادت أحداث كانون الثاني يناير 1978 حين استيقظت تونس على دوي الرصاص والشعارات التي تندد بالنظام، الا أن اتساع طيف المعارضة ظل يمد خطوطه ليشمل حركة الاتجاه الاسلامي الناهضة، التي حظيت في وقت من الأوقات بفسحة مناسبة لتكريس خطابها السياسي من خلال المساجد ومنابر الجامعات وبعض اصداراتها المرخصة التي لم تمانع السلطة في السبعينات من دعمها لوقف المد اليساري المهيمن على أوصال الحياة الجامعية والطلابية آنذاك، الا أنها - اي الحركة الاسلامية - طرحت خطابها السياسي آنذاك على نطاق واسع أكسبها المزيد من المؤيدين من خلال استراتيجية اعتمدت توظيف التناقضات الداخلية بين النظام وقوى اليسار، بل لم تتورع في وقت من الأوقات عن مغازلة بعض قوى المعارضة الأخرى كحركة الديموقراطيين الاشتراكيين لنسج نوع من التحالف الحزبي الذي ضمن في انتخابات 1981 الفوز لبعض قوى الحركة، وقد حظيت هذه بدعم الاسلاميين الذين حظر عليهم انشاء حزب يعبر عن تطلعاتهم على رغم التحول المهم في لغة الخطاب السياسي التي انتهجوها كتعبير عن رغبتهم في دخول معترك الحياة السياسية من خلال طلب الترخيص لحزب النهضة الذي لم يشر فيه الى الاتجاه الاسلامي. الا ان الأحداث التي تلت تلك المحاولات، وتسرع الاسلاميين في تقديم أنفسهم على أنهم البديل المناسب من قوى اليسار المعارضة أو القوى السلطوية المهيمنة على النظام، هي التي عجلت بسحق الحركة وتحجيم مؤيديها وضرب قواعدها. ليس من شأن هذه المقالة أن تسهب بالسرد التاريخي السياسي للتحولات التونسية خلال العقد المنصرم وما قبله، مقدار ما يعنيها قراءة التحول الآني في الداخل التونسي الذي لا يمكن فهمه من دون تقديم سردي لأحداث الماضي القريب. والتحولات في الحياة السياسية التونسية مثلها في الأقطار العربية المجاورة عانت من نتائج التحولات العالمية في السياسة والادارة والاقتصاد كما في الثقافة والمجتمع. والحقبة البورقيبية عانت من تشوهات أحدثها النزوع الى خيارات الموضات السياسية العصرية، فمن التجربة الاشتراكية في عهد أحمد بن صالح في الستينيات، الى نقيضها التجربة الليبرالية في عهد الهادي نويرة في السبعينيات، الى سياسة الانفتاح وشعارات الديموقراطية في عهد مزالي في النصف الأول من الثمانينيات، الى آثار الحركة الاسلامية السياسية على المجتمع وفي الشارع السياسي، التي انتعشت آمالها بالتغيير - خصوصاً بعد انتصار الثورة الايرانية في 1979. كان لا بد من أن تلقي هذه التحولات بظلالها على الساحة السياسية والثقافية التونسية من خلال الصراع الثقافي الايديولوجي - ابتداءً - من دون السياسي، ثم تطوير تلك الخلفية الثقافية في ضوء تحولات الحكم التونسي الذي جعله بورقيبة في أيامه الأخيرة حقل تجارب، تتفاعل فيه مختلف القوى السياسية، حتى جاء زين العابدين بن علي في 1987 ليسدل الستار على خصوبة المرحلة وتوترها وربما مجازفاتها أيضاً. ظل المشهد الثقافي التونسي ينمو بوتيرة التحولات القائمة في المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وظل المنحى العروبي الذي صاغه جيل المثقفين العروبيين التونسيين الأوائل يفقد وهجه، كما ان الاصدارات الثقافية العربية تراجعت في المستوى والمضمون لصالح ثقافة الحداثة الفرانكفونية التي عززت مواقعها القديمة. فالصحافة العربية في تونس لا يمكن أن توصف بصحافة الرأي وهي قلما تثير الاشكال التونسي، اما صحف الاثارة اليومية والأسبوعية فتحقق رواجاً يملأ الفراغ الثقافي بمداخلات هشة قوامها الفضيحة الأخلاقية والهوس الفني والرياضي، وان كان من الصعب الاحاطة بتشكيلات البنية الثقافية في الشارع التونسي من خلال اصدارات كهذه، الا أن المؤشرات اليومية تؤكد تراجع الثقافة العربية في بعديها السياسي والايديولوجي لصالح تعظيم نوع جديد من الثقافة يميل في معظمه الى الانصراف الى التكوين المهني والفني لمواجهة سوق عمل ناهضة، ظلت تنتزع من ذلك الشارع أحلام التغيير على وقع التأسيس التكنوقراطي والتكوين المهني في ذاتية لا تخفى على عين الناظر. أدرك النظام التونسي بقيادة الرئيس بن علي حجم الاشكال الاقتصادي والتنموي في الداخل، إذ كان يمكن أن يعصف بآمال الناس وبالتالي يسهل مهمة تثوير المجتمع وخلق بؤر العنف، ما حدا به الى تكريس سياسات مالية واقتصادية تركز على تعزيز الدخل، وتجهد للقضاء على بؤر الفقر وتنمية الريف، وتضبط أوجه القصور، وتحجم الفساد المالي والاداري... كانت تلك المهمة توازي ضبط الفعل الاجتماعي من اجل تكريس أدبيات جديدة قوامها الاعتماد على التكنوقراطيين في رسم معالم تنمية الداخل، والنأي بالنفس عن مخاصمة الخارج، وتصفية ذيول الجماعات والحركات المعارضة. عندما كرس الرئيس بن علي العديد من المؤسسات لدعم التنمية الاجتماعية مثل صندوق 26/26 الذي خصص ايراداته لدعم برامج تنمية الريف وتحقيق مستويات أفضل في برامج الرعاية الاجتماعية، فإنه ظل يحقق نتائج ملموسة للانسان التونسي، جمدت الى حين عوامل التناقض واضطرابات الفقر، وربما خلفت الى أمد بعيد تظاهرات كان يمكن أن تخرج كما خرجت في عام 1983. وعندما أشرك مؤسسة الجيش في تأسيس ودعم برامج تنمية الريف من حفر للآبار وشق للطرق واقامة للسدود والجسور، فإنه حاول أن يكرس مقومات الفلاحة على مساحات أكبر وأوسع تفي بحاجات الداخل وتشكل مع الوقت الفائض التصديري الأكبر للناتج التونسي. وعندما فتح النظام الأبواب مشرعة للاستثمارات الأجنبية وظل بهدوء وصمت يستقبل أكبر قدر من المساعدات الأوروبية لدعم اقتصاده الناشىء - وربما كان أكبر دعم يحظى به قطر عربي وأفريقي من أوروبا - فإنه ظل يقدم وبمباركة أوروبية نموذجاً مطلوباً لصيغة تنموية قابلة للتطوير هي الأوفر حظاً بين دول كبرى هي الأوفر حظاً وغنى في الموارد والامكانات ومقومات الازدهار الا أنها الاكثر تعرضاً للمعاناة الاقتصادية والاضطرابات السياسية والتوترات الداخلية والخارجية. وما شهدته الجزائر وليبيا خلال العقد المنصرم يؤكد عمق الصيغة التي كرست تونس في تجربة التنمية التي كانت شبه مستحيلة لكنها حققت على مدى الأعوام الماضية قفزة جيدة حجبت آثار التوترات التي كانت قادمة لا محالة. واذا كانت مؤسسة النظام التونسي تراهن على التنمية الداخلية كمقوم داخلي يؤجل نوازع التوتر، الا أنها أيضاً للحق دفعت بالمؤسسة الأمنية قدماً نحو تطوير امكاناتها لتشكل جيشاً لضبط الأمن الداخلي يشهد بهذا تنامي أعداد الشرطة التونسية من بضعة آلاف في الحقبة البورقيبية الى عشرات الآلاف في زمن بن علي. ان ملامح تونس بن علي في عقد التسعينات ظل يتنازعها عاملان، أولهما الهاجس الاقتصادي ومهمة الدفع بالاقتصاد التونسي الى امام ومواجهة متطلبات الدخل المعيشية، والآخر دعم المؤسسة الأمنية الداخلية بما يكفل ضمان الأمن وتحجيم قوى المعارضة التي فقدت الكثير من قواعدها... هذان العاملان عززتهما أيضاً تحولات دولية أضعفت قوى اليسار الناشط زمناً في تونس، ما همّش معه اتحاد قوى الشغل، واتحاد الطلبة التونسيين، كما أضعفت قوى الاسلام السياسي التي هاجرت قياداته - أو هُجرت - الى الخارج أو لزمت قواعد الصمت المطبق في الداخل. والظاهرة المهمة هي في تعظيم التوجه التكنوقراطي في الأوساط التونسية المثقفة على حساب الصراع الفكري والايديولوجي والسياسي القديم التي ظلت الى زمن قريب هي ملح وزاد الشارع التونسي. وربما لم يعد هناك الآن من قوى قادرة على أن تكون البديل المعارض لحزب التجمع الديموقراطي الدستوري - الحاكم - بقيادة بن علي بعد تصفية تركة حركة الديموقراطيين الاشتراكيين وتحجيم حركة النهضة الاسلامية. الا أنه على مستوى المدخل العام للحريات تبقى رابطة حقوق الانسان التونسية الى اللحظة قادرة على أن تشكل، بمستوى الحركة المتاحة لها في الداخل، البديل المناسب لقوى المعارضة، التي ربما استعصى على النظام الى زمن تحجيم دورها أو تقليصه خصوصاً بعدما تنادت ثلة من المناضلين التونسيين مؤخراً الى تشكيل المجلس الوطني لكفالة الحريات ليعد اضافة جديدة وخطوة مهمة لقوى المعارضة المتحالفة والمشتتة للبحث عن بديل مناسب يضفي نوعاً من أنواع المصداقية والفاعلية على حركة المعارضة التي جاءت اليوم من باب كفالة الحريات الواسع، وهي ستجد حتماً المزيد من التعاطف من الشارع التونسي في هذا المستوى بعدما فقدت الكثير من خياراتها على مدى العقود الثلاثة الماضية. * كاتب سعودي.