سجل المراقبون اخيرا استئناف صدور بعض صحف المعارضة التونسية، بعد الاحتجاب المتكرر وعدم الانتظام في الصدور ويتعلق الأمر بأسبوعية الوحدة لسان حزب الوحدة الشعبية بزعامة المهندس محمد بالحاج عمر تشغل مقعدين بالبرلمان والشهرية "الطريق الجديد" لسان حركة التجديد الحزب الشيوعي سابقاً بزعامة النائب محمد حرمل والتي تشغل ثلاثة مقاعد بالبرلمان، والشهرية "الموقف" لسان التجمع الاشتراكي التقدمي بزعامة المحامي احمد نجيب الشابي بينما يستمر احتجاب اسبوعية المستقبل لسان حركة - الاشتراكيين الديموقراطيين - تراقب 9 مقاعد في البرلمان و"الوطن" لسان "الاتحاد الديموقراطي الوحدوي" بزعامة عبدالرحمن التليلي تشغل مقعدين في البرلمان و"الافق" لسان الحزب الاجتماعي التحرري بزعامة منير الباجي. ويفيد المسؤولون عن هذه الاحزاب انهم بصدد القيام بالاعدادات الضرورية لمعاودة اصدار صحفهم في وقت قريب. وتتدرج هذه الحركية لمعاودة التواجد في المشهد الاعلامي في اطار الجهود والانشطة التي شرعت احزاب المعارضة في القيام بها والتعريف بسياساتها وبرامجها ومناضليها استعداداً للانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة اجراؤها في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. ويذكر ان جل صحف المعارضة صدرت في آواخر السبعينات ومطلع الثمانينات وقد ساهمت الى جانب عدد من الصحف المستقلة في تطوير الساحة الاعلامية وشق الطريق لما يعرف بصحافة "الرأي" فالى جانب البحث عن الخبر والسعي لتغطية جوانب الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، تحولت تلك الصحف الى منابر للحوار الوطني والنقد السياسي، والمطارحات الفكرية والى صوت يعبر عن شواغل مختلف مكونات المجتمع المدني احزاب، جمعيات، منظمات الدفاع عن حقوق الانسان، نقابات.... ويمكن القول ان تلك الصحف اسهمت الى حد ما في نشر الثقافة الديموقراطية وترسيخ مبدأ حق الاختلاف وتحفيز قطاع متزايد من النخب والمواطنين للاهتمام بالشأن العام والمشاركة في النشاط السياسي والجمعياتي هذا بالاضافة الى الدور الذي لعبته في ترقية الاعلام وابراز العديد من الاقلام والاسماء الصحفية. وتقول دوائر المعارضة ان هذه الفترة التي نعتها البعض بالفترة الذهبية للاعلام التونسي في حقبة ما بعد الاستقلال بدأت في الانحسار منذ مطلع التسعينات، ظهر ذلك بالخصوص في تراجع حضور صحف المعارضة، فالبعض قد اضطر الى التحول الى مجلات شهرية كالطريق الجديد والموقف، ورغم ذلك لم تستطيعا المحافظة على الصدور بصفة دورية ومنتظمة، بينما استمرت صحف اخرى في المراوحة بين الصدور والاحتجاب، تصدر بضعة اسابيع لتحتجب عدة شهور كأسبوعيتي "الوحدة" و "الوطن"، اما صحيفة "المستقبل" اعرق صحف المعارضة انشئت سنة 1981 فقد احتجبت في اعقاب الازمة التي عاشتها الحركة خلال عام 1997 ولم تعاود الصدور حتى الآن. اضافت ذات الدوائر ان التراجع يبدو من ناحية اخرى في تخلي الصحف المستقلة، وعلى مختلف درجاتها من الاستقلالية عن دورها التقليدي في الدفاع عن حرية الخبر وحق الاختلاف وممارسة النقد، فقد تقلصت فيها الى حد العدم المساحات المخصصة للتحليل السياسي ولاحتضان الاراء والمواقف الفكرية المختلفة، الى جانب ممارستها لرقابة صارمة للاخبار والمواقف التي تعتبر انها لا تنسجم بشكل او باخر مع سياسة الحكومة، وهكذا اصبحت هذه الصحف لا تختلف من حيث خطابها وادائها الاعلامي عن صحف الحكومة وصحف الحزب الحاكم. وقال خبير اعلامي "للحياة" في هذا السياق ان سنة 1996 اتسمت بتراجع حضور صحف الاحزاب على الساحة الاعلامية فيما اظهرت الصحف المستقلة مزيدا من الاقتراب من الحزب الحاكم واضاف انه صدر خلال ذلك العام 25 عدداً من صحيفة "المستقبل" الاسبوعية" وسبعة اعداد من "الوحدة" اسبوعية وعددان من الطريق الجديد شهرية مما يعني ان متوسط الصدور كان اقل من عدد واحد في الاسبوع وبالتحديد عدداً كل عشرة ايام. وأوضح صحافي كان يعمل في صحيفة معارضة ان محاولة استقطاب قراء جدد بالتطرق للمباريات الرياضية واخبار النجوم والتحقيقات الاجتماعية الخفيفة لم تحقق النتائج المأمولة: "لقد خسرنا جمهورنا الاصلي من الانتليجنسيا" ولم نكسب جمهورا جديدا من الفئات الوسطى" وتابع: في فترات ازدهار صحف المعارضة كان قراؤنا الطبيعيون وكتابنا ايضا هم المثفون من جامعيين ومحامين وطلاب لانهم يجدون في الصحف الاخبار والتحاليل التي لا تنشرها الصحف الرسمية، اما في الفترة الاخيرة فصرنا نتحاشى معظم المواضيع السياسية اتقاء للرقابة ونركز على المواضيع الاجتماعية والفنية والرياضية فهجرنا المثقفون. واكدت بعض الدوائر السياسية والاعلامية ان هذا التغير الذي شهدته الساحة الاعلامية اضعف مكاسب المرحلة السابقة والتي حملت مؤشرات جدية الى امكانية تحقيق نهضة اعلامية وصحفية تكرس السبق الذي سجلته تونس في هذا الميدان مقارنة بالعديد من البلدان المجاورة والمشابهة لأنه أدى في نهاية المطاف الى احياء تقاليد وحدانية الخطاب وهمش عمليا الخيار التعددي وكانت نتيجة كل ذلك غياب التحليلات السياسية وتقلص فعالية الخطاب الاعلامي. وتضيف ذات الاوساط ان قطاعات متزايدة من النخب والمواطنين اصبحت لا تأنس للصبغة التقريرية التي تطبع هذا الخطاب والذي تعمق باستمرار الهوة بينه وبين الخطاب الاعلامي العصري الذي تفرضه ثورة الاتصالات ومجتمع المعلوماتية. وسجل المراقبون ان هذه الوضعية التي آل اليها "الإعلام التونسي" اصبحت من بين الانشغالات الرئيسية في الاوساط السياسية والاعلامية فتعابير "الازمة" و "التدهور" و "والتخلف" اصبحت التعابير الشائعة لتوصيف الحالة الاعلامية كما ان تعابير "النهوض" و "التطوير" و "ترقية الاداء الاعلامي" و "مواكبة المتتغيرات" اصبحت الشعارات المتداولة او الوصفة المطلوبة لمعالجة هذا الوضع. رئيس الحكومة حامد القروي ذهب الى ابعد من ذلك ورمى الكرة في ملعب المعارضة وارباب الصحف فقد قال في رده عن تساؤلات النواب في هذا المجال "اذا كان اصحاب الصحف اليوم يجلسون على الربوة فلماذا لا تتواجد صحافة المعارضة باختيارات تفرض وجودها ويكون بإمكانها اثراء الحوار الوطني وبالتالي تشجيع الصحف الاخرى على تطوير خطابها" وتابع القروي "ينبغي ان نمكن الصحفيين من ممارسة مهنتهم بجدية في كل المجالات وألا نتركهم يهربون الى قطاعات كالرياضة والثقافة يحصرون فيها وحدها ممارسة النقد وحرية الرأي" موضحاً "ان الصحفيين قائمون بواجبهم ويبحثون عن الخبر غير ان رؤساءهم يخيرون على ذلك أحياناً نشر برقيات وكالة الانباء الرسمية". الا ان العديد من قادة المعارضة ونوابها في البرلمان لا يشاطرون الحكومة تفسيرها اذ يرون ان تردي حالة الاعلام وانعكاساتها السلبية على الحياة السياسية وعلى مسار تطوير التجربة الديموقراطية لا يمكن اختزالها ببساطة في هذا السبب وتحميل مسؤوليتها الى طرف واحد بل يتعين البحث عن اسبابها العميقة. ويبدو من المقالات والمواقف التي تصدر بين الحين والآخر في صحف المعارضة، ومن مداخلات نوابها في البرلمان ان الازمة التي يواجهها الاعلام لا يمكن فصلها عن المناخ السياسي العام بالبلاد وعن الانحسار الذي تشهده الحياة السياسية وفي هذا الاطار يمكن الاشارة التي مقال محمد حرمل زعيم حركة التجديد تحت عنوان "هل ان ممارسة العمل السياسي مازالت ممكنة خارج الحزب الحاكم؟. ولئن اجاب الزعيم الشيوعي "الذي شارف على السبعين" على السؤال بالايجاب فإنه اكد ان كثيرين لا يشاطرونه الرأي "فهذا السؤال يقول حرمل يطرحه علينا وعلى سوانا عدد من المناضلين طغى عليهم اليأس والتشاؤم وصاروا يعتبرون انه لم يعد ممكنا التعبير عن رأي مخالف للحكم بعدما تراجعت فضاءات التعددية وانتشر العزوف عن العمل السياسي وتوقف تيار الانتماء الى الاحزاب وتعمق احتكار الحياة العامة من قبل الحزب الحاكم حتى كادت المواطنة تنحصر في الانتماء اليه..." وتساءل هل انتهت السياسة مثلما قيل عن الايديولوجيات انها انتهت وحتى عن التاريخ انه انتهى. واجاب بأن السياسة في وظيفتها النقدية والمعارضة ما زالت ممكنة لاننا نعتبرها مسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق الحركة الديموقراطية في جميع المراحل". ويعتبر نجيب الشابي الامين العام للتجمع الاشتراكي التقدمي ان ثلاثة عناصر اساسية تقف وراء أزمة الصحافة واعلام اولها القانون الذي يربط اصدار الصحف الجديدة بالحصول على اشعار من الآدارة يقوم في الواقع المعيش مقام الترخيص، وهو قانون حول حقا طبيعيا يكفله الدستور الى مجرد رخصة تصدر عن الادارة هذا بالاضافة للطابع الزجري لقانون الصحافة". ويضيف في مقال اصدره في العدد الاخير من "الموقف" تحت عنوان "حرية الاعلام اولا ان السبب الثاني ذا طابع سياسي ويتمثل في الدور السلبي" الذي لعبته وزارة الاعلام في توجيه وتأطير الصحف وهو أمر متواصل على الرغم من الغاء الوزارة وآية ذلك ان شيئا لم يتغير من مضمون الصحافة والاعلام ان وحدانية الخبر والانغلاق لا يزالان يهيمنان على القطاع". اما السبب الثالث فيعود برأيه الى "تنظيم الاعلان العمومي الذي تحول بيد وكالة الاعلام الخارجي الى وسيلة ضغط لتوجيه الصحافة والحفاظ على انسجام خطابها وتهميش الصوت المخالف ان لم نقل قتله واخماده". من ناحية اخرى اكدت احزاب المعارضة وفي اكثر من مناسبة على ان احتجاب مطبوعاتها وانحسار صحافة الرأي بوجه عام يعود ايضا الى الصعوبات المادية المتزايدة وتراكم الديون والارتفاع المستمر لاسعار الورق وتكاليف الطباعة ومشاكل التوزيع... ويبدو من كل ذلك ان الصعوبات التي تواجهها احزاب المعارضة على المستويين السياسي والمادي قلصت والى حد كبير من انشطتها وحضورها الاعلامي، وفي اطار سعي الحكومة الى مساعدة هذه الاحزاب على التغلب على مصاعبها المادية واستئناف اصدار مطبوعاتها، تقدمت الى مجلس النواب بمشروع قانون التمويل العمومي للاحزاب الذي تمت المصادقة عليه بالغالبية في تموز يولو 1997. وينص القانون على تمتيع الاحزاب البرلمانية بمنحة ثابتة مقدارها 60 الف دينار 55 الف دولار ومنحة اضافية مرتبطة بعدد نواب كل حزب، كما تقدمت الحكومة اخيرا بمشروع لتنقيح هذا القانون ينتظر ان يبت فيه في غضون الاسابيع المقبلة وينص التعديل على اسناد منحة للاحزاب السياسية لدعم صحافتها وذلك بعنوان المساهمة في تغطية كلفة الورق وطباعة الجرائد، وتقول الحكومة ان الهدف من هذا الشكل الجديد من اشكال التمويل العمومي للأحزاب هو مساعدة صحف المعارضة على الانتظام في الصدور وعلى الاسهام في ارساء التعددية الديموقراطية. لقد اعتبر نواب أحزاب المعارضة ان المبادرة بسن هذا القانون خطوة في الاتجاه الصحيح واستجابة لمطلب القوى الديموقراطية التي ما انفكت تطالب بتقنين الدعم المادي للأحزاب. الا ان جلهم اعتبر المشروع دون المأمول وقد تركز نقدهم بالخصوص على ما وصفوه بالطابع "الاستثنائي" لهذا المشروع، يقول النائب احمد الخصخوصي حركة الاشتراكيين الديموقراطيين اننا لا نرى ما يدعو الى استثناء الاحزاب غير الممثلة بالمجلس النيابي من التمتع بالتمويل العمومي ورأى ان ذلك لا يتماشى مع المنطق الذي يسند هذا المشروع وهو تدعيم التعددية وترسيخ قاعدتها لأنه سيحكم على هذا الاحزاب بالقعود والعجز والتهميش. وفي نفس السياق تساءل النائب ابراهيم حفاظية الاتحاد الديموقراطي الوحدوي عن مصير هذه الاحزاب وعن مصير الاحزاب التي قد تفقد تمثيليتها في البرلمان واقترح ربط التمويل بالصفة القانونية والتأشيرة. اعتبر نواب المعارضة من ناحية اخرى ان مبلغ المنحة الدائمة زهيد ورمزي، ولا يمكن بأي حال ان يساعد الاحزاب على القيام بانشطتها، كما أشاروا أيضاً الى سكوت القانون عن اشكال التمويلات الاخرى والتي قد تكون اهم بكثير من تمويل الدولة المباشر، واقترح النائب ابراهيم حفاظية تقنين هذه التمويلات مشيراً الى ان تبرعات واعانات ومساهمات المؤسسات العمومية تمنح من دون رقابة لبعض الاحزاب وتحرم منها البقية في اشارة الى الحزب الحاكم. الا ان نواب حزب الاغلبية التجمع الدستوري الديموقراطي دافعوا بقوة عن المشروع الحكومي فقد اكد بعضهم ان شرط التمثيلية يندرج في اطار المحافظة على التجربة البرلمانية التعددية وصيانتها من المخاطر مشيرين الى ان المسألة دقيقة عندما تطرح في ضوء تجارب اخرى مماثلة عصفت بها قرارات مندفعة وخطى غير محسوبة العواقب علاوة على ان هذا الربط من شأنه تفعيل وجود الاحزاب السياسية البرلمانية وتطوير اعلامها للاسهام في تنشيط الوضع السياسي بالبلاد، ويذكر في هذا السياق ان الامر يتعلق بحزبين فقط من مجموع 7 أحزاب قانونية وهما "التجمع الاشتراكي التقدمي" و"الحزب التحرري الاجتماعي". وقال احد المسؤولين القياديين في المعارضة "للحياة" ان تكريس هذا التصنيف واعتماده كأساس لحرمان بعض الاحزاب مع التمتع بالتمويل العمومي لا يتماشى مع الرغبة المعلنة في تطوير الحياة السياسية ودعم الخيار التعددي لانه يعكس في الواقع نزعة احتكارية وفئوية سياسية من نوع جديد وبدل ان تعمد الحكومة الى الحد من هيمنة الحزب الحاكم على الفضاء السياسي واحتكاره للاعلام المرئي والمسموع لتوفير المناخ الملائم لازدهار التعددية نراها تسعى الى تعميم جزء من الامتيازات على احزاب المعارضة البرلمانية في محاولة لتدجين التعددية وتحويلها الى عملية شكلية ويضيف محدثنا ان هذا المقياس يفتقر للموضوعية ولا يعكس بأي حال من الاحوال التمثيلية الحقيقية للأحزاب، اذ ان احزاب المعارضة مجتمعة لم تحصل على اكثر من صفر فاصلة ثلاثة في المئة من اصوات الناخبين حسب النتائج الرسمية للانتخابات الاشتراعية الاخيرة. والسؤال المطروح في الساحة السياسية هو هل ان هذه الاجراءات ستساعد احزاب المعارضة وتحديدا البرلمانية على تفعيل تواجدها السياسي وحضورها الاعلامي لمواجهة الاستحقاقات الرئاسية والاشتراعية المزمع اجراؤها في الخريف القادم. تجيب دوائر المعارضة عن هذا السؤال بتفاؤل يشوبه الحذر، او بالاحرى تجيب بنعم ولكن. فهي ترى ان حجم التمويل العمومي لن يوفر لها الحد الادنى من حاجياتها فضلا على ان يساعدها على مجابهة متطلبات الاعداد الجيد للمواعيد السياسية القادمة، لكن هذا العامل على اهميته يبقى ثانويا لان تجسيم حرص الطبقة السياسية على ان تشكل الانتخابات المقبلة نقلة نوعية في مسار الحياة السياسية وفي تاريخ الانتخابات بالبلاد لا يمكن انجازه الا بتوفير الشروط الكفيلة بتحقيق الانفراج السياسي وتكريس مبدأ المعاملة السوية والعادلة بين مختلف مكونات المجتمع السياسي وفي مقدمة الشروط التي ما انفكت تكررها احزاب المعارضة هي دعم حرية الاعلام وضمان حيادية الادارة ونزاهة الانتخابات.