قضية "سفاح كلية الطب" في جامعة صنعاء، بدأت مفاجأة كالزلزال وانتشرت مغلفة بالاشاعات وأصبحت قضية رأي عام وسخط عام، وتحولت لغزاً مثيراً، وكشفت كثيراً من الأسرار والسلبيات والحقائق وما زالت تفاعلاتها واعدة بكشف الجديد والكثير من الحقائق وردود الفعل، من خلال التحقيق مع المتهم محمد آدم الذي وسع بجرائمه واعترافاته دوائر البحث عن الحلقات التي تربط بين الأجزاء والمشاهد المتناثرة لهذه القصة المأسوية، حتى تلتحم صورتها في شكل كارثة واضحة الأبعاد والأسباب والجذور. وأثارت القضية كثيراً من الأسئلة ومفارقاتها التي قد تبدأ من كلية الطب وكيف تكون مسرحاً لهذه الحادثة! فهي الكلية التي يتفق الجميع على أنها تتميز عن الكليات التسع والفروع السبعة التابعة لجامعة صنعاء، بأعلى نسبة من الهدوء حيث لا يكاد يظهر الحديث عنها إلا مرتين في العام، عند بداية تسجيل الطلبة الجدد أول العام، وعند الاحتفال بالمتخرجين الجدد آخر العام، من أقسامها الأربعة الطب والصيدلة والمختبرات والتمريض. وهذا الهدوء، كما قال مختصون فيها ل"الوسط"، لا يعزى إلى أن حوالي 30 في المئة من طلابها من الفتيات مجموع طلابها حوالي 4000 طالب وطالبة، بل إلى طبيعة موضوعها الذي يفرض تلقائياً على طلابها الابتعاد عن الحزبية والسياسة وضوضائها". فكيف أصبحت مسرحاً لحادثة بهذا الحجم الذي ملأ اليمن وشغل اليمنيين بالأحاديث عن المأساة وفصولها وحكاياتها وصورها المخيفة والمرعبة؟ أعادت هذه الحادثة إلى الأذهان، خصوصاً في صنعاء، ذكرى حادثة مشابهة من حيث بشاعة الجريمة ودموية السفاح ونوع الضحايا، وهي حادثة "سفاح مدرسة الطلائع" محمد النظاري الذي اقتحم في 30 آذار مارس 1997 مدرستي الطلائع وموسى بن نصير في مدينة الأصبحي السكنية في صنعاء وأطلق نيران رشاشته عشوائياً فقتل خمسة، منهم مدير المدرسة ومدرس وطالب، وجرح أحد عشر آخرين. وتمت محاكمته وإعدامه خلال أسبوع واحد. مع الفوارق الأخرى بين الحادثتين، ومنها ان الأول أقدم على جريمته الأولى والأخيرة في فترة قصيرة تحسب بالدقائق، بينما أقدم محمد آدم عمر اسحاق 52 عاماً السوداني الجنسية الذي يعمل فنياً في مشرحة كلية الطب، على جرائمه باسلوب المجرم المحترف وظل يمارس جريمة الاغتصاب والقتل لسنوات قتل خلالها في اليمن 16 فتاة حسب اعترافاته، من دون ان يكتشفه أحد أو تهتز منه شعرة، بل ظل بعد القبض عليه في 12 أيار مايو وايداعه سجن البحث الجنائي على رغم محاولته الانتحار بزجاج نظارته، هادئاً باسماً يسرد اعترافاته للمحققين من دون حرج. هذه لم تكن المفارقة الوحيدة في هذه الجريمة ومرتكبها، بل ظهرت حافلة بكثير من المفارقات والغموض حتى وصفها المراقبون ب"القضية - اللغز". وقد اعترف المتهم في البداية أثناء التحقيق معه بأنه قتل طالبتين فقط، ثم واصل اعترافاته ببقية الضحايا حتى الرقم 16، منهن 8 طالبات و8 فتيات من خارج الجامعة. ثم أضاف 50 ضحية خارج اليمن، منهن 11 في السودان! الطالبتان الأوليان هنا: حُسْن عطية، من ضلاع همدان 10 كيلومترات غرب صنعاء، المستوى الثاني، طب بشري، اختفت في 29 نيسان ابريل 1999. عندما جاءت، كما تروي إحدى زميلاتها التي كانت معها قبل اختفائها، إلى المشرحة ظهيرة يوم خميس لمراجعة دروس تطبيقية في التشريح، ولكن زميلتها اضطرت إلى مغادرة المشرحة لشراء شطيرة من كافيتريا الكلية، وعادت خلال دقائق فوجدت باب المشرحة مغلقاً، فانصرفت معتقدة ان دوام العمل في المشرحة انتهى. ولم يعثر أحد على حُسن، وظل أبواها واخوتها يبحثون عنها في غرف وأقسام الكلية وفي كل مكان. ويروي بعض الطلبة ان والدها كان يسير في ساحة الكلية وأقسامها ويسأل كل من يراه وينادي ابنته بصوت عالٍ كالمجنون حتى توفي مثقلاً بالحزن بعد سبعة أشهر من اختفائها. الطالبة الثانية: زينت سعود عزيز، عراقية حصلت في العراق على اجازة الثانوية، ثم التحقت بكلية طب البصرة. وبعد انتقالها مع أسرتها إلى صنعاء عادت فسجلت في كلية الطب في جامعة صنعاء. ومن مجمل روايات المصادر الصحافية وأحاديث والدتها والمعلومات التي حصلت عليها "الوسط"، فإن زينت تخلفت السنة الماضية 1998-1999 في بعض المواد المتعلقة بالتشريح، وجاءت إلى محمد آدم عمر ليساعدها في النجاح وساومها وتسلم منها بالفعل مبلغ 2500 دولار رشوة. وفي 13 كانون الأول ديسمبر 1999 حضرت زينب 20 عاماً إلى المشرحة بناء على مهاتفة وعدها فيها السفاح بأن يسلمها جمجمة بلاستيكية كانت طلبتها منه لتستفيد منها في دروس تطبيقية. ولكنها اختفت ولم يعثر أهلها على أثرها. لكن والدتها السيدة كريمة مطلق كفكفت عبراتها وبدأت البحث والسؤال عن ابنتها في كل مكان ولدى كل الأشخاص والجهات ذات العلاقة، في كلية الطب لدى الطلاب والطالبات ومسؤولي الكلية والجامعة، وفي المشرحة ولدى القاتل نفسه حيث كانت تحس أنه وراء اختفاء ابنتها، ولذا ترددت عليه كثيراً وعرضت عليه في بعض المرات أن يعطيها أي معلومات عن ابنتها في مقابل أن تتنازل له عن المبلغ الرشوة الذي أخذه سلفاً، وان تظل المسألة طي الكتمان، ولكنه ظل كالصخرة الصماء لا يعيرها أي اهتمام. واصلت الأم الثكلى رحلة الدموع والعذاب والبحث، وأبلغت أمن الكلية وعمادتها وأمن الجامعة ومجلسها ورئاستها وإدارة البحث الجنائي ووزارة الداخلية، وذهبت إلى شخصيات مسؤولة في الدولة تشكو وتسأل وتطلب المساعدة للعثور على ضالتها. وروت بكلمات حزينة وقلب محروق ان بعض المسؤولين ردوا عليها رداً سيئاً. ونشرت صحف حينها ان الطالبة العراقية تعرضت للخطف. وفي هذه الأثناء كانت شكوك السيدة كريمة في موظف المشرحة تتزايد من خلال معادلة بسيطة، هي أن كل الروايات عن زينب تتحدث عنها حتى ساعة ذهابها إلى المشرحة، ثم لا خبر! ولم تجد أي مساعدة، لكنها ركزت على المتهم وبقيت تتعقبه وتتابعه، وأكدت لأجهزة الأمن ان له علاقة باختفاء ابنتها بناء على المعادلة السالفة، فقبض عليه في آذار مارس الماضي وتم التحقيق معه، وبعد سجنه شهراً وخمسة أيام أفرجت عنه سلطات الأمن بحجة أنه لم يتوافر دليل على دعوى الأم التي لم تيأس ولم تتوقف حتى حصلت على معلومات تشير إلى ضلوع القاتل في الجريمة، فتم القبض عليه مجدداً في 12 أيار مايو الجاري، وفي بداية التحقيق بإدارة البحث الجنائي، اعترف بقتل الطالبتين حُسن وزينب فقط، ثم بقتل الفتيات الست عشرة. وعند تفتيش غرف المشرحة التي كان يقضي فيها معظم، أو ربما كل وقته، ظهرت الأدلة القاطعة وفي مقدمها جثتا الفتاتين. وقبل هذا وبحسب بيان لمجلس جامعة صنعاء، فإن "المدعو محمد آدم عمر أحيل للتحقيق في قضية رشوة في كانون الأول ديسمبر 1999 وبعد أن تبين من التحقيق إدانته بالرشوة، ثم فصله من الجامعة في شباط فبراير 2000". ولكنه خرج من السجن وبرئ من التهمة وعاد إلى العمل "لخطة أمنية"، بحسب تصريح لعميد كلية الطب الدكتور أحمد الحداد، ومسؤولي البحث الجنائي، في حديثهم إلى الطلاب والطالبات الذين نفذوا اعتصاماً في ساحة الكلية احتجاجاً على الحادثة، مطالبين بسرعة توقيع العقوبة على الجاني. هذا ملخص أهم ما طرح من معلومات حول هذه الحادثة - الكارثة التي استفزت كل الناس ودفعت الشارع العام إلى حالة أشبه بالهيجان وإلى ترديد عبارات النقمة والسخط على "السفاح" وتطورت، للأسف، إلى مضايقات لبعض السودانيين الموجودين في صنعاء، وإلى انتقادات لاذعة لأجهزة الأمن عامة وأمن جامعة صنعاء وكلية الطب خصوصاً، الذي تم تجميد عناصره من الضباط والجنود تمهيداً للتحقيق معهم. وضمن ما أثارته الحادثة من ردود فعل، قرر حوالي 15 شخصاً من الآباء وأولياء أمور الطالبات في كلية الطب والكليات الأخرى، منع بناتهم من الذهاب إلى الدراسة. كما طرح مجمل المعلومات والأخبار التي توافرت حتى الآن، تساؤلات حائرة لم تجد إجابات، من أبرزها: هل عدد ضحايا هذا السفاح 16 فتاة في اليمن كما يقول؟ من خلال الأخبار والمعلومات المنشورة والتي حصلت عليها "الوسط" تتركز الأدلة حتى الآن، على تحديد ضحيتين فقط، هما حُسن وزينب بوصفهما الوحيدتين اللتين ذكرت المصادر اسميهما وأسرتيهما ومعلومات مسلسلة لقصة اختفاء كل منهما، وأظهر البحث وثائق وأدلة عنهما وصل الى كشف جثتيهما أو بالأصح، معظم الأعضاء من كلتا الجثتين، بينما لم تتوافر معلومات على هذا النحو عن غيرهما، وان كانت هناك بعض المعلومات الناقصة والعمومية منها مثلا، ما نقلته مصادر صحافية عن أن من الضحايا فتاة من عدن وأخرى صومالية، دون ان تذكر اسماء أو تفاصيل خاصة محددة. ومن ناحية ثانية فإن الفنيين يؤكدون في تصريحاتهم، عدم وجود ما يدل على وجود ضحايا غير الطالبتين. وذكر تصريح منسوب الى مصدر مسؤول بوزارة الداخلية اليمنية "ان ما نشره بعض وسائل الاعلام حول القضية، مبالغ فيه". ونفى عميد كلية الطب في حديثه الى طلابه المعتصمين ان يكون عدد الضحايا 16، وأكد هذا في نفس المكان، مسؤول ادارة البحث العقيد عبدالعزيز الكميم "ان اعترافات المتهم بقتل 16 فتاة انما هي للتمويه وتمييع القضية". كما تضمن بيان الجامعة المشار اليه "ان مجلس الجامعة يؤكد ان الكلية لم تتلق اي بلاغ عن اختفاء أي طالبة أخرى ولم يعثر على غير الجثتين". يضاف الى هذا، ان المتهم من خلال اعترافاته كما أكد ل"الوسط" محام بارز، ظهر كالحريص أشد الحرص على رسم هالة كبيرة حول نفسه تبرزه في صورة السفاح المحترف والوحش الذي يرعب الناس"، فاعترف بقتل 16 فتاة في اليمن، وبأكثر من خمسين امرأة خارج اليمن، فمنهن احدى عشرة امرأة في بلده السودان. وظهر كذلك من اعترافاته واحاديثه، انه يحاول اقناع الآخرين بأنه يتعمد قتل النساء انطلاقاً من مبدأ او حالة نفسية او كلا الاثنين، اذ أبلغ صحيفة "26 سبتمبر" قوله: "كل امرأة جميلة أشعر بالرغبة في قتلها وتقطيعها لادخلها الجنة". وقال انه "مغرم بكتاب "قاتل النساء" والذبح هوايتي المفضلة". وذكر انه كان ملاكماً وبطلاً للملاكمة في السودان خلال الفترة من 1973 الى 1976. وزعم انه قبل أن يأتي الى اليمن "معاراً من جامعة الخرطوم" كان في نيجيريا، وانضم في لبنان الى جماعة "ابو نضال". وسجن في اسرائيل وزار الاردن وانتهى الى الكويت ثم الى اليمن. وانه كان يستدرج ضحاياه الى المشرحة بوسائل وأساليب هادئة، اما تحت ستار الاستفادة من محتويات المشرحة بالنسبة الى الطالبات ومنهن من يطلب منها رشوة كما فعل مع القتيلة العراقية، واما بوسائل أخرى لغير الطالبات "وبعض المرات غصباً ... أقوم بخطف الفتاة بالقوة وادخلها المشرحة". وهناك يستغفل ضحيته ويضرب برأسها دفعة واحدة وبقوة، على بلاط الغرفة وجدرانها ثم يقتلها ويقطع جثتها ويدفنها في حفرة مجاورة بعد أن يجردها من أشيائها وبعض اعضائها، ولم يكن أحد في الكلية يسأله من أين يأتي بالجثث "بصراحة... الكلية سائبة". هكذا قال! وذكرت أنباء صحافية انه كان يتاجر بأعضاء ضحاياه لمستشفيات خارج اليمن عن طريق مستوصف أهلي بالداخل لم تحدده المصادر، إلا أنه نفى علاقته بشيء من هذا. وذكرت الأنباء انه في 9 أيار - قبل القبض عليه بثلاثة أيام - كان قد جهز نفسه للهرب وشحن حسب اعترافاته حقائبه الى الخرطوم وفيها كل ما استولى عليه من ضحاياه، اضافة الى الوثائق والأشياء التي تدل الى ضحاياه. ولذا بعثت سلطات الأمن في صنعاء ضابطاً الى السودان ذكر انه عاد في 19 أيار بالحقائب وكانت ما تزال في مطار الخرطوم، لكن التحقيق لم يستفد منها في شيء سوى وجود هويتين للطالبتين حُسن وزينب. وهذا يؤكد القول بعدم وجود أدلة كافية على الأقل، عن ضحايا أخريات. وبحسب ما قالته مصادر في جامعة صنعاء ل"الوسط"، فإن ما قيل بأن أولياء أمور الضحايا الأخريات فضلوا السكوت "خوفاً من عار الفضيحة"، لا يكفي لتبرير عدم قيامهم بابلاغ الكلية عن اختفاء بناتهم. ويصر أكثر من مواطن على أن اختفاء المعلومات عن الضحايا الأخريات متعمد من قبل أشخاص ضالعين مع المتهم في الجريمة. ويتوقع آخر شبه جازم ان يقدم أولياء أمور الضحايا على قتل المتهم في السجن او المحكمة قبل أن يصدر الحكم عليه. ويؤكد مواطنون اعتقادهم بأن المتهم لس سودانياً، لأن ملامحه ولونه الداكن تشير الى أنه "من أكلة لحوم الانسان في ادغال افريقيا السوداء"، ولن يكون تزويره لهويته والحصول على جواز سفر سوداني، أصعب عليه من جرائم القتل في أبشع الصور. وعلى رغم ما تكشّف حتى الآن فإن ما خفي أعظم