في إحدى ليالي الصيف سنة 1947 كنت اتناول العشاء في مطعم يوناني في لندن، مع الامير زيد بن الحسين سفير العراق، وكنت ملحقاً ديبلوماسياً بمعيته في السفارة. وكانت المطاعم في لندن بعد الحرب العالمية الثانية تقدم اطعمة محدودة الانواع ومملة بسبب قلة المواد الغذائية وتقنينها. اما المطاعم الشرقية،وكانت قليلة العدد جداً، فهي اكثر منها تنوعاً واقرب الى اذواقنا، وموادها اوفر، وذلك بسبب حصولها على المواد من السوق السوداء. وكان الأمير زيد - رحمه الله - يرغب في التردد من وقت لآخر على المطاعم اليونانية او الهندية المعدودة في لندن حين يحن الى الاطعمة الشرقية التي كان يفتقدها احياناً. وكلما اخبرته عن "اكتشافي" مطعماً شرقياً او يونانياً جديداً تحمس للذهاب اليه واصطحبني معه. وكان المطعم الذي قصدناه في تلك الليلة مزدحماً، واصوات الزبائن تتصاعد كلما تقدم الليل، وبينما كنا نتحدث في امور شتى خلال تناول الطعام لفت نظرنا احد النُدُل، وهو يحاول ان يشق طريقه بصعوبة بين الموائد المزدحمة، رافعاً ذراعه الى اعلى وحاملاً صينية عليها بطيخة حمراء قانية، مقطوعة بشكل اسطواني، قاطعاً قاعة المطعم من اقصاها الى اقصاها نحو احدى الموائد. وقد رأيت الأمير يتابع الرجل ببصره مبتسماً، فحسبت انه استغرب من رؤية البطيخة الحمراء لأن المطاعم في لندن قلما تقدم الفواكه بهذه الطريقة. ولكنه لم يلبث ان قال لي: "أتعلم بماذا يذكرني منظر هذه البطيخة؟". فلم أحر جواباً، فقال "انه يذكرني بطربوش عبدالملك حمزة" ولم اكن اعرف في ذلك الوقت من هو عبدالملك حمزة،وما هي قصة طربوشه. سبق للأمير زيد ان كان وزيراً مفوضاً للعراق في انقرة وكانت درجة التمثيل الديبلوماسي العراقي آنذاك على مستوى المفوضيات وقد وصلها في آذار مارس 1932، وكان الوزير المفوض المصري لدى تركيا في ذلك الوقت عبدالملك حمزة بك الذي احدثت قضية طربوشه ازمة ديبلوماسية كادت تعصف بالعلاقات بين تركيا ومصر، لولا ما ابدته الحكومة المصرية من الحلم وضبط النفس. ولكنها كانت ازمة لا تخلو من الطرافة، شغلت الاوساط الديبلوماسية في تركيا وخارجها واهتمت بها الصحف المصرية والتركية ردحاً من الزمن. كان عبدالملك حمزة بك ديبلوماسياً مصرياً معروفاً بكياسته وكفاءته. ولد سنة 1886 ودرس القانون ومارس المحاماة وانتمى الى الحزب الوطني الذي اسسه مصطفى كامل وكان سكرتيره. ولما نشبت الحرب العالمية الاولى تطوع في الجيش العثماني لمقاتلة الانكليز، ورافق الحملة التركية الى قناة السويس. ثم عاد الى مصر بعد الحرب، ومارس المحاماة وعرف بذكائه ونشاطه، وأخذ يميل الى حزب "الاحرار الدستوريين"، وعينه محمد محمود باشا مستشاراً للسفارة المصرية في لندن، ثم احاله النحاس باشا على المعاش، فلما تولى صدقي باشا الحكم عينه وزيراً مفوضاً لمصر في انقرة، فقدم اوراقه الى رئيس الجمهورية الغازي مصطفى كمال باشا قبل ان يتسمّى بأتاتورك في تشرين الاول اكتوبر سنة 1930، ولما وقعت حادثة الطربوش كانت قد مضت عليه في انقرة سنتان تقريباً. حدث ذلك مساء 29 تشرين الاول اكتوبر 1932، وهو اليوم الوطني للجمهورية التركية. وتقام بهذه المناسبة احتفالات رسمية وشعبية كبيرة، منها دعوة عشاء رسمية يحضرها رئيس الجمهورية وتدعى اليها الهيئة الديبلوماسية الاجنبية والوزراء وكبار الشخصيات، تعقبها حفلة ساهرة بالو. وكانت الحفلة في تلك السنة تقام في فندق "انقرة بالاس" الذي كان اكبر فنادق العاصمة التركية في ذلك الوقت، وكان اللباس المطلوب ارتداؤه هو "الفراك" الذي يسمى ايضاً "الربطة البيضاء" او ملابس التشريفة الموشحة بالقصب مع السيف، لممثلي الدول التي تعتمد مثل هذه القيافة. وكان بين المدعوين الى الحفلة سفراء الدول المعتمدون في تركيا، بمن فيهم الوزير المفوض المصري، عبدالملك حمزة بك، وكان بينهم ايضاً الأمير زيد، وزير العراق المفوض الذي روى لي ما حدث خلالها، وكذلك السفير البريطاني السير جورج كلارك الذي وصف ماجرى في الحفلة في تقرير ارسله الى وزارة الخارجية البريطانية الملف رقم: 16089/371FO فضلاً عن سفراء الاتحاد السوفياتي وايطالياوالولاياتالمتحدة وغيرهم. مخالفة البروتوكول وصل الغازي مصطفى كمال رئيس الجمهورية الى مكان الدعوة، وكان - على رواية السفير البريطاني - يبدو وكأنه تناول قدراً كبيراً من الخمرة قبل جلوسه الى المائدة. وكان المألوف في امثال هذه المناسبات التي يحضرها رئيس الجمهورية ان تسودها فترات طويلة من الصمت ينصرف فيها المدعوون الى تناول الطعام، وتقطعها محادثات رسمية قصيرة مع من يكون جالساً الى جواره من الضيوف. اما في هذه المرة - كما جاء في تقرير السفير البريطاني - فان الغازي اخذ يتكلم منذ اللحظة الاولى التي جلس فيها، وكان لا يأكل شيئاً، ويدخن من دون توقف، ويحتسي كأساً بعد اخرى بلا انقطاع. بدأ الحديث اولاً مع السفير البريطاني، الذي كان يجلس قريباً منه، فقال له، مشيراً الى السفير السوفياتي سوريتز الذي كان جالساً في الجهة المقابلة من المائدة، "ان الرفيق سوريتز كان صديقاً حقيقياً ومخلصاً له، بل انه اقدم اصدقائه بين الحاضرين هنا، ثم استدرك قائلاً ان له صديقاً آخر يضعه في الطبقة نفسها من اصدقائه "وهو أنت" رأى السير جون كلارك ومضى قائلاً انه يود غيرهم ايضاً، ولكن هذين الاثنين يحتلان لديه مكانة خاصة. وكان السكون يسود المائدة بينما كان الغازي يتكلم، ولذلك سمعه الحاضرون جميعاً. واستدار الغازي بعد ذلك يميناً حيث كان يجلس بعض السفراء الآخرين، فخاطب كل فرد منهم على التوالي، فكان لطيفاً في اشارته الى فرنسا وسفيرها مسيو دى شامبرون، والاتفاقية التي عقدت اخيراً بين تركياوفرنسا، ثم هنّأ السفير البولندي على تجديد كيان بولندا التي اصبحت "دولة عظمى" تتأهب للقيام بدور مهم في الميدان الدولي، ثم التفت الى السفير الاميركي الذي سبق له ان القى عدة محاضرات عن تركيا في اميركا، فقال له انه يعدّه الآن سفيراً لتركيا في اميركا اكثر منه سفيراً لأميركا في تركيا.ولم يلبث ان فاجأه بطلب غريب نوعاً ما، اذ دعاه لالقاء كلمة في الحاضرين وقد اثار هذا الطلب غير المألوف استغراب الجميع، ثم كان مبعث استغراب اكبر ان رفض المستر شيريل تلبية هذا الطلب من رئيس الجمهورية. ثم جاء دور السفير الايطالي الذي كان حديث العهد بتركيا ويحضر للمرة الاولى مناسبة رسمية مهمة فيها. فسأله الغازي "ما هي انطباعاته عن تركيا؟" فانتهز السفير الجديد السينيور لوجاكونو الفرصة للتأكيد على العلاقات الوثيقة بين تركياوايطاليا بقوله ان السرور العظيم الذي شعر به لدى قدومه الى تركيا عززته وضاعفته العلاقة الخاصة بين الدولتين الفتيتين وكانت الاشارة الى قيام الجمهورية في تركيا ونظام موسوليني في ايطاليا ولكن الغازي اجابه بحدة صدمت السفير قائلاً: لا يحق لشخص قادم من روما العريقة ان يصف ايطاليا ب"الدولة الفتية". اما بالنسبة الى تركيا فانها "قديمة قدم الانسانية". وفي نهاية حديثه مع السفير الايطالي نهض الغازي رافعاً كأسه بيد تهتز بعض الشيء، وشرب نخب "وحدة شعوب العالم". وكانت فترة محرجة للجميع، وخصوصاً لرئيس مجلس النواب التركي الذي كان مجلسه قريباً جداً من رئيس الجمهورية وهو في البروتوكول التركي يتقدم على رئيس الوزراء وكان طيلة الوقت يحاول الحد من اندفاع رئيسه في اقواله وتعليقاته. واتجه الغازي، يتبعه ضيوفه الى قاعة "لبالو" وكانوا قد نهضوا معه ووقفوا انتظاراً لخروجه. فلما وصل الى مكان وقوف الوزير المفوض المصري، عبدالملك حمزة، ابتسم له محيياً، ثم خطا خطوات نحوه ليصافحه، فأسرع عبدالملك بك اليه وحياه باحترام، وكان عبدالملك حمزة من الديبلوماسيين المحبوبين لدى الغازي الذي كان يذكر اخلاصه "للدولة العلية" وتطوعه في صفوف الجيش العثماني في ما مضى. وكان عبدالملك حمزة مرتدياً بذلة التشريفة مع طربوشه الذي كان جزءاً من قيافته الرسمية حسب البروتوكول المتبع في مصر. ولعل الخمرة اطلقت كوامن نفس الغازي من عقالها ضد هذا الشعار الذي الغاه فيما الغى من مظاهر الدولة العثمانية وآثارها في تركيا، فاقترب من الوزير المصري وربت على طربوشه بلطف قائلاً: "قل لمليكك ان مصطفى كمال امرك ان لا تلبس طربوشك هذه الليلة.." ثم التفت الى احد الخدم، وقال له "ان سفير مصر يود ان يخلع طربوشه فخذوه منه". وحينئذ رأى عبدالملك حمزة ان يخلع الطربوش بنفسه تفادياً لما قد يقع ما فيه مزيد من الاحراج. ووضع الطربوش سيء الحظ على صينية رفعها الخادم عالياً امام رئيس الجمهورية، وسار بها ماراً امام صف طويل من المدعوين الذين كانوا ينتظرون خروج الرئيس، قاطعاً القاعدة من اقصاها الى اقصاها الى المكان الذي تحفظ فيه المعاطف والقبعات، كما كان يفعل ذلك النادل الذي شاهدناه في المطعم اليوناني رافعاً ذراعه بالصينية التي تحمل البطيخة الحمراء التي اعادت الى ذاكرة الأمير زيد طربوش عبدالملك حمزة بك.ويقال ان الضيوف الذين لم يكونوا على مقربة من رئيس الجمهورية والوزير المصري تساءلوا عن سر خروج الطربوش وحده، دون صاحبه. وساد القاعة وجوم هائل، وبينما كان رئيس الجمهورية يواصل مسيرته نحو القاعة، لمح المدعوون الوزير المصري يختلي بسكرتير المفوضية، توحيد السلحدار، ثم رأوهما منصرفين دون توديع احد مما لفت انظار المدعوين الذين لم يكونوا على مقربة من مكان الحادث. وقصد نعمان منمنجي اوغلو، وكيل وزارة الخارجية، دار الوزير المصري بعد منتصف الليل للاعتذار عن الحادث، فلم يُفتح له الباب. وفي اليوم التالي قصدها وزير الخارجية الدكتور توفيق رشدي آراس فاستقبله الوزير المفوض ليقدم اعتذاره. برقية صحافية وكان بين المدعوين الى السهرة مندوب جريدة "ديلي هيرالد" الانكليزية، فطيّر الخبر ببرقية الى جريدته، فتناقلته الاسلاك البرقية، واطلع عليه الجمهور المصري في البرقيات التي نشرتها الصحف المصرية نقلاً عن لندن. ولكن الحكومة المصرية لم تشأ ان تتخذ اي قرار في الموضوع قبل ان تتلقى تقرير وزيرها المفوض عن الحادث، فلما تلقته ودرسته كتبت الى الحكومة التركية محتجة على ماوقع لممثلها،فكان رد الحكومة التركية ان بعض الصحف أساء تفسير ما دار بين الغازي وعبدالملك بك، وعللت الحكومة التركية ما حدث بأن الغازي اشفق على وزير مصر المفوض من الحر، فاقترح عليه ان يخلع طربوشه توخياً لراحته… وردت الحكومة المصرية بمذكرة اخرى قالت فيها ان الطربوش هو شعار الرأس الرسمي لمصر، وانه يجب على ممثلي مصر ان يلبسوا الطربوش في جميع المناسبات الرسمية وانه ليس لأحد ان يعترض على ذلك. واضافت الحكومة المصرية انها تقبل اعتذار الحكومة التركية فيما يتعلق بهذا الحادث ولكنها ترجو ان يكون آخر حادث من نوعه. وشنت الصحف المصرية هجوماً شديداً على تركيا ورئيسها بسبب هذا الحادث،وكتبت مجلة "المصور" في 25 تشرين الااول "نوفمبر"1932 العدد 424 مقالة بعنوان "حادث وزير مصر المفوض في انقرة" جاء فيه: "أما من حيث المبدأ والعرف الدولي، فانه ليس للغازي او لأي رئيس جمهورية آخر، او لأي ملك من الملوك ان يأمر ممثلي الدول الاجانب، او ان يصدر اليهم تعليماته، لأنهم لا يأتمرون الابأوامر ملوكهم او رؤساء جمهورياتهم وحكوماتهم. فلم يكن للغازي والحالة هذه ان يطلب من ممثل مصر نزع طربوشه او عدم لبسه ما دام الطربوش هو شعار مصر القومي ولباس مليكها". "وفي مصر اكثر من وزير مفوض اجنبي لا يلبس القبعة او الطربوش. ومع ذلك لم يقل لهم احد انه يجب ان يستبدلوا شعار رأسهم القومي بالقبعة اسوة بسائر زملائهم، او بالطربوش لأنه لباس المصريين القومي. فسعادة السيد محمد صادق المجددي، وزير افغانستان المفوض يلبس العمامة في المناسبات الرسمية وغير الرسمية، وهو يلبسها على بدلة الردنجوت والفراك كما يلبسها على بدلة التشريفة. فلم يتعرض احد لحريته. وسعادة جواد سنكي، وزير ايران المفوض، يلبس القلنسوة السوداء البهلوية في الحفلات والتشريفات الرسمية، ولا يخلعها عن رأسه في اثنائها لأن تقاليد بلاده تقضي بأن يظل محتفظاً بها خلال مدة الحفلة، فلم يقل له احد أنه يجب ان يخلعها عند مثوله في الحضرة الملكية لأنها تشبه القبعة.والدكتور احمد قدري، قنصل العراق العام في مصر يلبس "الفيصلية" السدارة في المناسبات الرسمية، فلم يقل له احد لماذا لا تلبس الطربوش". بل ان ممثل تركيا نفسه في مصر لم يوجه اليه أي اعتراض او انتقاد حين ابدل الطربوش بالقبعة حتى انه يشهد الحفلات الدينية الاسلامية الكبرى، كحفلة ليلة المعراج وغيرها بالقبعة فيقابل بالاحترام والحفاوة. ويشهدها وزير افغانستان المفوض بعمامته فيلقى نفس الاحترام والحفاوة، لأن ممثلي الدول ليسوا خاضعين لتقاليد البلدان التي يمثلون حكوماتهم فيها، بل جل المطلوب منهم ان يحترموا مراسمها، ويشترط في هذه المراسم ان لا تقيّد شيئاً من حريتهم. وانتقلت آثار حادث طربوش عبدالملك حمزة الى البرلمان العراقي، ففي الجلسة 24 من الاجتماع غير الاعتيادي لمجلس النواب في دورته الرابعة لسنة 1933، المنعقدة في 4 حزيران يونيو 1933، اثير موضوع لبس السدارة والقبعة، وكان البروتوكول المتبع في العراق يقضي بلبس السدارة في داخل الابنية تحت السقف ومع الملابس الرسمية، كما كان المتبع مع الطربوش في مصر. وعلى اثر حادث طربوش عبدالملك حمزة، تقرر ابدال ذلك واصبح خلع لباس الرأس معمولاً به في الاجتماعات والدعوات التي تقام في داخل الابنية، وارتداؤها خارجها فقط، كما هي العادة المتبعة مع القبعات. بقي عبدالملك حمزة ممثلاً لمصر في تركيا ولكن حادث الطربوش بقي يلاحقه بل لعله اصبح حجر عثرة في سبيل تقدمه. اذ ارادت وزارة الخارجية المصرية ان تراعي مبدأ "الاقدمية" في تعيين وزير مفوض لمصر في واشنطن، خلفاً لسيداروس باشا الذي احيل على المعاش، وكان الدور يقضي بأن يعهد هذا المنصب الى عبدالملك حمزة، ولكن الحكومة المصرية خشيت اذا هي نقلته، ورقّته وزيراً مفوضاً من الدرجة الاولى في الولاياتالمتحدة، ان تعتب الحكومة التركية على ذلك، وتذهب الى الظن ان هذا النقل جاء على أثر حادث الطربوش المعروف وبسببه. بينما كان الأمير زيد يروي لي ذكرياته عن هذه الحادثة الديبلوماسية الطريفة مرّ بجانبنا نادل آخر، حاملاً صينية عليها بطيخة حمراء اخرى تشابه طربوش عبدالملك حمزة وهو يرفعها عالياً، قاطعاً قاعة المطعم من اقصاها الى اقصاها