حدثني صديق جزائري منذ سنوات، وهو مفكر إسلامي متميز ووزير سابق، قال لي ذات يوم إن رجب طيب أردوغان ليس مجرد زعيم حزب تركي أو رئيس وزراء لبلاده، ولكنه جزء مهم من منظومة «الحركة العالمية الإسلامية» التي تسعى بشكل غير مباشر لاستعادة الخلافة موضوعاً لا شكلاً وجوهراً لا مظهراً، لذلك فإن طموحات أردوغان وحزب «العدالة والتنمية» لا تقف عند حدود الجمهورية التركية ولكنها تتجاوز ذلك إلى أقطار العالم الإسلامي المختلفة، وأضاف محدثي إن مصر هي «الجائزة الكبرى» في تلك المنظومة على اعتبار أنها البلد الذي ولد فيه «الإسلام السياسي» بظهور حركة «الإخوان المسلمين» العام 1928 على يد الإمام الشهيد حسن البنا. لقد تذكرت ذلك الحوار عندما أدهشنا رد الفعل التركي تجاه ما جرى في مصر يوم 30 حزيران (يونيو) 2013 حيث تميز الموقف التركي من خلال الحزب الحاكم وزعيمه رجب طيب أردوغان بحالة غضب شديدة وتوتر واضح كمن كان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدف نهائي فإذا بالخطوة الأولى تنهار أمامه فجأة، ولقد تدهور الموقف بين أنقرةوالقاهرة على نحو أدى إلى تمديد تركيا لسفيرها المنقول من القاهرة ليبقى فيها حتى لا تبعث بسفير تركي جديد يقدم أوراق اعتماده للنظام القائم في القاهرة والذي لا تعترف أنقرة بشرعيته، وفي الوقت ذاته فإن سفير مصر في أنقرة قد اعتذر عن حضور الإفطار الرمضاني السنوي الذي دعا إليه رئيس الوزراء التركي أردوغان كنوع من الاحتجاج على اللهجة التي تحدث بها المسؤولون الأتراك خصوصاً أردوغان رئيس الوزراء وأحمد داود أوغلو وزير الخارجية. ويهمنا هنا أن نشير إلى المحاور التالية: أولاً: إن التركيبة التركية تبدو فريدة بالنسبة الى العالمين العربي والإسلامي، فهي دولة الخلافة الإسلامية الأخيرة التي امتد نفوذها من أواسط آسيا إلى شمال أفريقيا محتوية العالم العربي كله تقريباً بالإضافة إلى سيطرة على البحرين الأبيض والأسود وتواجد كامل في معظم دول البلقان، حتى جاء على «الرجل المريض» حين من الدهر فظل يحتضر لأكثر من قرن كامل إلى أن وافته المنية على يد الغازي مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه، وبسقوط الخلافة العثمانية ولدت تركيا العلمانية وأصبحت تعاليم «أب الأتراك» هي الدستور الضمني للدولة التركية الحديثة التي ارتبطت بعلاقات فاترة مع معظم دول المشرق العربي حيث ترسبت ذكريات أليمة لمشانق جمال باشا في دمشق وغيرها من جرائم الاحتلال العثماني، وعندما انتقلت الأبجدية التركية إلى الحروف اللاتينية كان ذلك إيذانًا بالانتقال الكامل ل «تركيا الحديثة» من الإرث الفكري الثقافي القديم والذي تجسد اجتماعياً في استبدال القبعة بالطربوش مع انزواء الألقاب والدخول في معترك السياسة الدولية بين الشرق والغرب حيث اختارت أنقرة - العاصمة الجديدة - أن تكون عضواً في حلف شمال الأطلسي وعلى صلة وثيقة بالولايات المتحدة والغرب الأوروبي. ثانياً: لم تكن العلاقات المصرية التركية منذ اتفاقية 1840 بالدرجة نفسها التي كانت عليها من قبل، فلقد انفرد أولاد محمد علي الكبير وأحفاده بحكم مصر التي خضعت للاحتلال البريطاني في العام 1882 بعد إخفاق ثورة العرابيين، وعندما تمتعت مصر باستقلال اسمي بعد تصريح 28 شباط (فبراير) 1922 اتجهت الدولة المصرية إلى إقامة علاقات ديبلوماسية ندية مع دول العالم الأخرى ومن بينها تركيا، وما زالت طرائف التاريخ تحكي عن المواجهة التي جرت في حفل رسمي عام بأنقرة بين أتاتورك والسفير المصري حقي باشا الذي كان لا يزال يلبس الطربوش فانتقده أتاتورك لذلك ورد عليه السفير رداً مفحماً في حينه، وبقيام ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 دخلت العلاقات المصرية - التركية غرفة الإنعاش وما زالت طرائف التاريخ تتذكر أن الزعيم جمال عبد الناصر قذف السفير التركي في القاهرة بمنضدة صغيرة عندما وجه إليه السفير انتقاداً حاداً حول قانون الإصلاح الزراعي بصورة تخرج على الأعراف الديبلوماسية وتتجاوز كثيراً المهمات الرسمية للسفير. لقد ظلت العلاقات بين القاهرةوأنقرة متدهورة ثم فاترة لسنوات طويلة وقد عزز من القطيعة بين البلدين قيام «حلف بغداد» المعادي لسياسات عبد الناصر والذي كانت تركيا ركناً فيه، كما أن العلاقات الإستراتيجية بين الأتراك وإسرائيل قد ألقت بظلالها السلبية على العلاقات العربية التركية عموماً وكأن «تركيا الحديثة» نسيت أن السلطان العثماني قد رفض الموافقة على إقامة «وطن قومي لليهود» في فلسطين برغم كل الوعود أو التهديدات. ولقد بدأت العلاقات المصرية التركية في التحسن بعد اتفاقات «كامب ديفيد» والانفتاح المصري على الدولة العبرية وحلفائها. ولقد حرص الرئيس الأسبق حسني مبارك على القيام بزيارات دورية للعاصمة التركية مهما كان الحاكم هناك بدءاً من الجنرال إفرين مروراً بسليمان ديميريل وتورغوت أوزال وصولاً إلى «الإمبراطور» العثماني الجديد رجب طيب أردوغان، حيث احتفظت مصر بعلاقات ودية مع الدولة التركية إلى أن فاجأ أردوغان العالم بدعمه الشديد لثوار 25 يناير 2011 ربما لأنه كان يقرأ بين السطور أن ما جرى قد يكون طريقاً لوصول حلفائه من «الإخوان المسلمين» إلى سدة الحكم في العاصمة المصرية. ثالثاً: لعبت مصر والرئيس الأسبق مبارك دوراً بناء في فتح الجسور بين أنقرةودمشق رغم الجفوة التي كانت قائمة بين سورية في عهد حافظ الأسد والدولة التركية بسبب اتهامات الأخيرة للرئيس السوري الراحل بأنه يدعم ثورة الأكراد وتمردهم داخل الأراضي التركية. ولقد قام الرئيس المصري الأسبق بزيارة سريعة في تشرين الأول (أكتوبر) 1998 لينزع فتيل مواجهة عسكرية كانت وشيكة الحدوث بين الأتراك والسوريين، والتي ارتبطت باعتقال زعيم الثورة الكردية في تركيا عبدالله أوجلان، وبوصول بشار الأسد إلى السلطة في دمشق والحديث عن التفاوض المباشر مع إسرائيل بصورة دخلت بالدولتين السورية والتركية في شهر عسل لم يدم طويلاً، إلى أن اندلعت الثورة السورية المدعومة من الأتراك فاختلفت الصورة وبدأت الحرب الإعلامية بين العاصمتين، حيث ينظر الأتراك إلى الثورة السورية بل وإلى كل ثورات الربيع العربي باعتبارها جزءاً من الأجندة التركية في منطقة الشرق الأوسط على نحو يسمح للعثمانيين الجدد بأن يقدموا أوراق اعتماد قوية استراتيجياً وهم يدقون أبواب الاتحاد الأوروبي الذي يلهثون وراءه منذ سنوات مفضلين أن يلحقوا بمؤخرة أوروبا بدلاً من أن يكونوا في مقدمة الشرق الأوسط! رابعاً: تميزت العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا بنشاط واضح حيث دخل الأتراك إلى السوق المصرية مستثمرين ومنفذين حتى أن المشروع الكبير لمطار القاهرة الدولي كان من نصيبهم، كما استهدف الأتراك الصناعات المصرية الناجحة مثل صناعة الغزل والنسيج وصناعة السجاد بل وجزءًا من صناعة السياحة في جانبها الفندقي، كما حاولوا تخريب بعض الصناعات التقليدية لصالح المنتجات التركية خصوصاً قطاعي الغزل والنسيج مرة أخرى، وعلى الرغم من محاولاتهم الاحتكارية إلا أن حكم «الإخوان المسلمين» في القاهرة قد فتح لهم الأبواب على مصاريعها وسمح لهم بالتسلل إلى قطاعات عديدة في الاقتصاد المصري، ولعل ذلك يفسر جزءاً من أسباب حالة الهلع والغضب الشديدين التي يعبر عنها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في تصريحاته المعادية بشدة لانتفاضة 30 يونيو بل ودعوته إلى عودة الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي إلى مقعد الرئاسة بدعوى الحفاظ على الشرعية! كما أن بعض التظاهرات المؤيدة لحكم «الإخوان المسلمين» في شوارع إسطنبولوأنقرة إنما تشير هي الأخرى إلى حالة الحزن التركي على رحيل الإخوان من السلطة في مصر. خامساً: تميزت زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة لمصر بترحيب شديد من «الإخوان» في البداية ولكنهم لم يودعوه بسبب تصريحاته التي كانت لطمة لهم وقد جاء فيها أنه يؤمن بعلمانية الدولة ولا يفرق بين مسلم ومسيحي ويهودي ولا حتى «لا ديني»، ومع ذلك فإن المصالح المشتركة تشد الطرفين حيث يجب ألا ننسى أن التطلعات العثمانية لدى أردوغان ورفاقه ورغبتهم في أن تكون تركيا هي زعيمة «الشرق الأوسط الإسلامي» أمام الأوروبيين هي الدافع الذي يمكن به تفسير كثير من المواقف والسياسات لتركيا حالياً، لا سيما أن أردوغان قد كسب المعركة الأولى في صراعه مع العسكر الذين يحملون مبادئ أتاتورك وتابعيه متصورين أن ما جرى في مصر هو نموذج قابل للتطبيق في تركيا، حيث تبدو تظاهرات ميدان «تقسيم» بإسطنبول بداية سلسلة احتجاجية ضد أردوغان وحزبه، ويذكر هنا أن بعض المحللين السياسيين الأتراك يرون أن ظهور مرسي وحزبه ثم سقوطه على النحو الذي شهدناه إنما هو تكرار للتجربة الإسلامية الأولى في أنقرة والتي تمثلت في حكومة نجم الدين أربكان التي لم تصمد طويلاً إلى أن وصلت الموجة الإسلامية الثانية في تركيا بقيادة الثنائي رجب طيب أردوغان وعبدالله غل. هذه قراءة سريعة لمشهد العلاقات بين مصر وتركيا والتي صنعت رد فعل مصري غاضب على المستوى الشعبي تجاه الموقف التركي الذي يريد أن يفرض وصاية سياسية دينية على مصر متصوراً أنها «ولاية عثمانية» لا زالت تخضع للحكم التركي، وهو ما تجاوزه التاريخ وما لا تقبل به سيادة الدول وحقوق الشعوب وروح الثورات. * كاتب مصري