المطاعم الأميركية التي تنتشر في بلادنا هي الشكل الأوضح لعصر العولمة. يمكن الواحد ان يغمض عينيه ثم يرمي اصبعاً على خريطة العالم، وحيث يقع الإصبع يعثر على دولة تحوي مطاعم ماكدونالدز، أو مقاهي ستارباكس، ودانكن دوناتس. لا يحدث هذا في حالٍ واحدة، وهي سقوط الاصبع المذكور في بحرٍ أو محيطٍ. لكن حتى في هذه الحال علينا أن نتذكر البوارج والسفن حاملات الطائرات: على هذه السفن طباخون يشوون اقراص لحم على المناقل الكهربائية ويعدون الهامبرغر. العراقيون مقبلون في أيامٍ آتية على تغييرات أكيدة في نظامهم الغذائي. هذا مفهوم. لكن التبدل لا يطال الطعام فقط. غداً وغداً وغداً ستطلعنا وكالات الأنباء على تغيرات لا تُحصى في حياة الناس اليومية البسيطة، في بغداد، في البصرة، وفي كركوك. الجيوش لا تأتي بالموت فقط، تأتي بالحياة أيضاً. في النهاية نحن نشاهد تداخل عوالم، تداخل حضارات ومشارب مختلفة، وتداخل بشر. ماركو بولو وصف الصين في القرن الثالث عشر. بعد قرون طويلة خرج باحثون بخبرٍ مثير: ماركو بولو لم يبلغ الصين أبداً! وكل ما كتبه كتبه من الخيال، بينما يقيم في اسطنبول! في "رحلات ماركو بولو" وصف للطعام والحيوان والنبات يؤثث أمامنا فراغ التاريخ وفراغ الجغرافيا معاً. التاريخ الصغير أقرب الى القلب والعقل من التاريخ الكبير. متى دخل أول راديو ترانزيستور الى القاهرةودمشقوبيروت؟ في 1951 أم 1952 أم 1953؟ كمال الصليبي يتذكر أنه كان عائداً بالبحر من لندن الى بيروت في 1952، حين سمع على الراديو الذي بدأ ينتشر آنذاك، أخبار المارينز الذين ينزلون على ساحل لبنان بطلبٍ من الرئيس كميل شمعون. ما الأهم في هذا الخبر؟ ما يُذكر عن انتشار الترانزيستور للمرة الأولى، أم ما يُذكر عن نزول البحارة الأميركيين على شاطئ بيروت؟ التاريخ الصغير تاريخ تفاصيل تثير الخيال. أسد رستم كتب في 1926 مقالاً عن الفتح المصري لبلاد الشام ذكر فيه أن دخول الكلسات الجوارب الى بيروت يعود الى تلك الفترة 1831 - 1840. في تلك الفترة أيضاً خلع الأمير بشير الثاني عمامته واعتمر طربوشاً بإيعازٍ من ابراهيم باشا ابن عزيز مصر محمد علي باشا الألباني. خلع الأمير عمامته فقلدته الرعية. بعد ذلك شاع الطربوش. كانوا في البدء يستوردونه من المغرب. ثم بدأوا يخيطونه هنا: في دمشق وفي حلب وفي طرابلس وفي صيدا. أسد رستم لم يكتب هذا التاريخ الصغير. مع ان أسلافنا فكروا في الطرابيش وفي كيّ الطرابيش أكثر مما فكروا يوماً بإبراهيم باشا أو باللورد بالمرستون، أو بالصراع الأوروبي - العثماني على البحر الأبيض المتوسط. الياباني هاروكي موراكامي مدمن على ذكر متجرٍ DUNKINص DONUTS في رواياته. يجد في هذه الحيلة واسطة لدفع القارئ الى التماثل مع أبطاله. كلنا ندخل هذه المتاجر لنشرب القهوة الأميركية ونلتهم الفطائر المحلاة المقلية في الزيت. همنغواي جعل أبطاله يُدخنون. التدخين حيلة أيضاً. تدخين السيجارة أو تدخين السيجار أو تدخين الغليون. كابريرا انفانتي كتب تاريخاً صغيراً للتبغ. لم يكتبه بالاسبانية، لغته الأولى. كتبه بالانكليزية: كأنه احتاج الى الهرب الى لغةٍ أخرى ليكتب هذا "اللهو"، هذا "اللعب". هذا "اللعب" الذي نسميه التاريخ الصغير ليس لعباً. انه الوجه الآخر للتاريخ الكبير. ولعله الأصدق. ولعله الأبعد عن بَلَهِ العصبية وبله المواقف الصاخبة. اليوم غابت الطرابيش عن الرؤوس. في قرى الجبال يمكن احصاء الطرابيش على أصابع اليد الواحدة. اندثر زمنٌ وحلّ زمن جديد. بعد الطربوش سادت القبعة الافرنجية... لكن هذه لم تلبث ان غابت أيضاً. عراة الرؤوس نمشي اليوم. كل شيء يتبدل. ووحدها الشمس تشع ثابتة، في الأعالي، وسط السماء التي لا تتغير.