لم يصدق احد، ان تمر "ايام عمان المسرحية" بلا تشويش، وبلا تراشق اعلامي... وبلا اتهامات. سارت الايام التي أسدلت الستارة على موسمها السابع قبل أيّام، من دون ان يعكر صفوها اي شيء، بعكس المواسم السابقة التي كان يحتدم فيها الجدل حول القضيتين التقليدتين المتفجرتين: التمويل الاجنبي والتطبيع. ولعل انتخاب هيئة ادارية جديدة لنقابة الفنانين مناهضة في برنامجها وتطلعاتها لسابقتها التي كانت بمثابة رأس حربة في التصادم مع "ايام عمان"، مهد للمهرجان الذي يقام سنوياً بالتعاون ما بين فرقة "الفوانيس" الاردنية، و"الورشة" المصرية، ان يسير وفق ما هو مخطط له، ما جعل كثيرين يعدون هذه الدورة انجح الدورات لجهة التنظيم و"المأسسة"، على الرغم من الانتقادات التي وجّهت إلى مستوى بعض العروض المشاركة. واول ما يلفت الانتباه في العروض "الضعيفة"، المسرحيات الاردنية، وبالتحديد العرضان الأردنيان اللذان قدمهما مسرح الفوانيس، "جسر العودة" من نص واخراج نادر عمران، و"غندرة" التي كتبها وأخرجها خالد الطريفي. اما العمل الاردني الثالث فكان "حكي جرايد" لرشيد ملحس الذي نظر اليه المراقبون باعتباره خطوة متقدمة يخوضها هذا المخرج الشاب فيما يشبه المغامرة الابداعية التي جسدها برفقة: اياد نصار، محمد الابراهيمي، احمد ابوخورما ومنذر رياحنة، عن نص مترجم بعنوان "في البحر" للكاتب سلافومير مروجيك. عرض تونسي - أردني وشهد المهرجان عرضا اردنيا تونسيا مشتركا بعنوان "نواصي" في تجربة هي الاولى من نوعها في هذه التظاهرة، قام بتنفيذها عزالدين قنون عن نص كتبه بمشاركة ليلى طوبال التي ادت دورا لافتاً برفقة الممثلين الاردنيين محتسب عارف، وسحر خليفة، والممثلين التونسيين توفيق العايب، سيرين قنون، ومنعم شويات. ولعل التجربة التي انطلق فيها المسرحي التونسي عز الدين قنون هي نموذج ينبغي احتذاؤه على مستوى مسارح عربية مختلفة... على رغم تحفظات الممثل الأردني محتسب عارف الذي شكى من عدم تفاهمه مع المخرج الذي مارس "ديكتاتوريته المعهودة"، والذي ابدى استياءه لكون قنون تجاهل آراءه اثناء العمل، لكنّه اعترف "بالاستفادة العميقة" من العمل تحت ادارته. وفي ضوء مسرحيّتي عمران والطريفي، نجد ان المهرجان مدعو في سنواته المقبلات الى التشديد على مستوى العروض، من خلال لجنة فنية متخصصة، لئلا يتكرر ما حدث هذا العام. نادر عمران: تصفية حسابات في "جسر العودة" اجتهد نادر عمران في صياغة عمل يقدم القضية الفلسطينية على نحو بانورامي، لكنه اخفق في تلمس الجوهري في العملية المسرحية، فغرق في مياه الهجاء السياسي الذي افضى بالضرورة الى موقف عدمي يخوّن كل انسان، ويقلب ظهر المجن للحقائق، وللشهداء وللأطهار. وتنزع المسرحية وهي تتوقف عند ابرز المحطات في رحلة الالام والمنافي والعذاب الى سخرية سوداء معطوفة على نقد سياسي حاد "بل ومتطرف في بعض الاحيان" للعناصر والجهات التي ساهمت في اكتمال حلقة المأساة الفلسطينية. ويترافق ذلك كله مع ذاكرة ارشيفية وثائقية يقدمها التلفزيون المعلق في اعلى فضاء العرض في حين تقوم الموسيقى نصري خالد، والغناء نادرة عمران وسواها، والراوي، بما يشبه التعليق على الاحداث من خلال قراءة معانيها بالاستناد الى موروث من الغناء الشعبي الفلسطيني، وموروث الادبيات الثورية العربية من غناء واناشيد وشعارات. ولاحظ الجمهور المطلع، أن العرض انطوى على تصفية حسابات داخليّة مع الخصوم والمنتقدين فالمخرج واجه عدداً لا يحصى من المشاكل في السنوات الأخيرة، إضافة إلى تصفية حساب مع تاريخ المأساة الفلسطينية، لصالح التطهر من عبء الصمت. هكذا تختار فرقة الفوانيس اللحظة التي تعلن من خلالها العصيان على التواطؤ المريب أمام الكارثة... ولعل في مثل هذا الاختيار عبر الشكل الذي قُدم فيه، عودة ميمونة للارض التي تأسس عليها هذا المسرح قبل زهاء عشرين عاماً، رافقتها انهيارات وانشطارات ليس على مستوى الكينونات الفردية للفرقة فحسب، بل وايضا على مستوى الرؤية والخطاب اللذين جنحا في اكثر من تجربة نحو التهويم والتجريب المعلق في الهواء. ولئن كانت تصفية الحساب قد اصابت في مجملها الندوب الناتئة في جسد الفكرة الفلسطينية، بما هي احالة عميقة الى الحلم، فان تلك الوضعيّة انطوت على اسقاطات شبه مباشرة على حال "الفوانيس" ومستقبل "ايام عمان المسرحية"، على خلفية الاتهامات التي تعرضت لها الفرقة، وتعرّض لها المهرجان... ولم تغب هذه العلاقة بين الذاتي والموضوعي، عن بال نادر عمران إذ شرع يؤثث نصه بمفرداته الدرامية. ولكن هل كان النجاح حليف هذا المسعى؟ لعل هذا السؤال يدخلنا إلى مركز العمل ونقطته المحورية. فمسرحيّة "جسر العودة" كانت مسلية ومؤلمة على حد سواء، وجرى تنفيس احتقانات مخبأة في الصدور، كما جرى الجهر بكل المشكلات بدءاً من عدم قدرة الجوار العربي على احتمال الفلسطيني، وانتهاء بقتله والتمييز بينه وبين سواه في العمل والوظيفة وفرص العيش. ولم يتردد عمران من الاعتماد على هويته وجذوره ومسقط رأسه مرورا بمحطات الرحيل والطرد والمنفى ومأساة الخليج الثانية في اعقاب الاجتياح العراقي للكويت. وتقوم مسرحيّة عمران على جهود ممثلين مقتدرين: زين غنما، مروان حمارنة، اشرف العوضي الذي ادى دورا لافتاً، في حين اجتهدت لانا ابراهيم في تقديم دورها، لكنّها - لأنها تخوض هنا تجربتها الاولى ربّما - لم تنجح في ايصال الاحساس الدرامي، حيث سار اداؤها لجهة الصوت والتعبير وحركات الوجه، فيما يشبه المسار الثابت الذي يحتاج الى العمق وهذه مهمة المخرج!. واذا كانت "جسر العودة" انطوت على فرجة مسرحية ما، فان "غندرة" الطريفي كانت مؤسسة على الهذيان المفتوح والمشرع على جميع الاحتمالات. لقد كان العمل باعثا على سأم دفع الجمهور الى مغادرة المسرح الرئيسي... وكانت القاعة الكبرى 500 مقعد قد غصّت بمشاهدين جاؤوا يكتشفون عمل الطريفي الذي يعد ابرز المخرجين المسرحيين في الاردن، وهو لم يقدم عملاً مسرحياً منذ ثلاث سنوات. قام عمل الطريفي على التفكك وقارب مناطق تعبيرية مسكونة بالحلم والرغبة في تغريب العرض المسرحي معتمدا على لازمة الحنين للجد، كرمز للمحافظة على الاصالة. لكن النجاح لم يحالفه في هذا المسعى وظل يراوح في الحديث عما سماه "الاشي" يقصد الشيء. ولم يوفق في الوصول الى ذرى درامية في العمل، ولولا طاقة بعض الممثلين وبالاخص صبا مبارك لبدت "غندرة"، التي قوبلت بهجوم عنيف في الصحافة وفي اروقة المهرجان، علامة سلبية فارقة في مسيرة المخرج الاردني المعروف. وساد اعتقاد ان الاعمال الاردنية باستثناء "حكي جرايد" لرشيد ملحس كانت متواضعة وشهدت تراجعا يذكّر ببعض ما جرى في الدورة السابقة. وهو ما نفاه مدير المهرجان نادر عمران الذي قال في تصريح ل "الوسط" ان المسرحيات الاردنية كانت "جيدة واشاد بها كثيرون" لافتا الى ان "وجهات النظر المتصلة ببعض العروض الاردنية تؤكد على ان هذه العروض مثيرة للجدل". نضال الأشقر: جرعات من الجرأة جمهور المسرحية اللبنانية "3 نسوان طوال" لنضال الاشقر إداء كارمن لبس، رندا الاسمر، وندى ابوفرحات، عن نصّ للأميركي إدوارد ألبي، لم يتحمل - على الرغم من نخبويته - جرعات الجرأة الزائدة التي يمتاز بها العمل. ورأى بعضهم في هذه الجرأة تجاوزاً جرى الاحتجاج عليه بمغادرة المسرح. وعبر بعضهم الآخر عن استهجانه مما وصفوه "خروجا على الأعراف والقيم الاخلاقية والاجتماعية". وأخذت الموقف نفسه بعض الصحف الاردنية اليومية في تغطياتها لفعاليات المهرجان. وكانت الممثلة كارمن لبس التي تؤدي في المسرحية دور امرأة في الثانية والخمسين من عمرها اشارت الى ان جرعة الجرأة في "3 نسوان طوال" لا تعني ان "المسرحية مبتذلة". وأضافت في تصريح ل "الوسط" عشية العرض الاول بأن "المسرحية جادة وتقدم خطابها ممزوجاً بالالم والاحساس الوجودي الفادح". وأكّدت أن ما يجري الحديث عنه في المسرحيّة، "موجود في حياتنا ولا يقوى احد على تجاوزه". واعتبرت أن "الجمهور الاردني سيتقبل العرض لانه مهتم بالبحث عما هو جديد في المسرح". ولم يتدفق الجمهور بالكثافة المتوقعة على العرض اللبناني على الرغم من ان ادارة المهرجان كانت اخذت احتياطاتها مسبقا لتفادي اي ازدحام على المسرح الدائري الذي يتسع لزهاء مئة شخص. ومن مفارقات المهرجان أن أحداً لم يتنبه الى العرض الهولندي "أحمر يا ورد" الذي قدمته كريس نيكلسون من اخراج ران بونزيل رغم ان ثياب الممثلة انحسرت وتميّزت بشفافيتها. ورأى بعضهم أن السبب هو كون العرض اجنبياً، لا عربياً، وبالتالي فان المعيار يختلف! وكانت مسرحية اردنية شاركت في المهرجان الرابع قدمها مسرح الفوانيس الاردني اثارت عاصفة احتجاجات عنيفة استمرت طويلا بسبب مشهد - وصف بالجرأة، وهو في منتهى العاديّة - بين الممثل محتسب عارف والممثلة سهير فهد... ولا شك في أن هذا التناقض في استقبال العروض، والتعامل معها بمعزل عن خطابها الجمالي والفكري والانساني، انطلاقاً من أفكار مسبقة واعتبارات خارجة على الابداع، أمر مثير للاستغراب، ويستحقّ التأمّل والدراسة... وتراوحت العروض الأخرى بين التميز والركاكة. ففي باب العروض التي حازت اعجاب الجمهور وانتباههم، برز العرض الفرنسي "سيمفونية الجُعْل". جاء العمل في اطار سيرك مسرحي راقص اعتمد على طاقات الممثلين ومهاراتهم الادائية العالية، المترافقة مع ايقاعات شعرية غاية في الشفافية والكثافة. كريمة منصور ورجاء بن عمّار: بعيداً عن الخطابة أما المسرحية المصرية الصامتة "ترويض"، التي تعتمد على الموسيقى والجسد والجانبين التعبيري والبصري، وتنتمي إلى الرقص المعاصر، فقد استأثرت باعجاب الجمهور لنجاحها في التعبير بالايماء والرقص والصمت، عن تحولات الكائن الذي تسلط المسرحية الضوء على اختلاجاته وهواجسه منذ فجر الكينونة آدم وحواء... وحتى الامواج الجارفة للمدنية بسطوتها التي تشظي الاحلام وتفسخها. وقد نجحت مصممة العرض ومخرجته كريمة منصور في ادائه بطاقة احاسيس عالية بمرافقة هاني المتناوي اعتمادا على نص ادبي للكاتبة نورا امين. وفي السياق نفسه تندرج المسرحيتان التونسيتان "المنشار الحائر" و"الأمل" اللتان اخرجتهما رجاء بن عمار والمنصف الصايم انتاج مسرح فو. فكل من العملين ينطوي على خيارات فنية مغايرة، تقطع مع المسرح العربي السائد، وتقدّم مقترحات جمالية خلاقة. ففي أعمال من عمّار تقوم الرؤيا على الاصغاء للنص - الجسد، ويكتسي الأسلوب حلّة تعبيريّة خاصة، تقوم على تفجير طاقة الممثل واستثمار تعبيراته المختلفة بعيداً عن الاستطراد والحشو والخطابة... عصام بوخالد: مفاجأة المهرجان ومن مفاجآت "أيّام عمّان" هذا العام مسرحيّة "أرخبيل" وهي العمل الثاني لعصام بوخالد تمثيل روجيه عساف، برناديت حديب، سوسن بوخالد، بشارة عطاالله. يفرض هذا الممثل والمخرج اللبناني الشاب النصّ من تأليفه حضوره كأحد أبرز فنّاني جيله، لبنانيّاً وعربيّاً، بل كأحد أهم المخرجين في المسرح العربي. يقدّم "ارخبيل" رؤيا هاذية لعالم سفلي متصدّع، يعاني أهله من شلل في حواس معيّنة، ومن فقدان التوازن في العلاقة مع العالم الخارجي.... فيما العالم الفوقي قائم على المقاولات والحروب، وتسليع الأفراد والقيم. ومن الطبيعي أن نجد في هذه المناخات العبثيّة، اللامعقولة، التي تغرف من مسرح بيكيت وأداموف ويونسكو، أصداءً للتصدّع اللبناني، في مرحلة اعادة ابناء الخارجي، السطحي، من دون البعد الروحي والحضاري.... لكنّ رؤيا بوخالد السوداويّة، تندرج أيضاً في اطار عالمي، في زمن العولمة والأتمتة وخواء الروح. وبرزت الفنانة السوريّة مها الصالح في مونودراما "عيشة" التي كتبها حكيم مرزوقي، واخرجتها رولا الفتال. الا ان العمل الآخر "ذاكرة الرماد" للفرقة نفسها مسرح الرصيف، بدا مفككاً على الرغم من أنّه عرض في مهرجانات عربيّة ودوليّة عدّة. فالايقاعات الدرامية بدت هنا اشبه بنوبات غير متماسكة، أو منطقيّة، واختلطت مخارج الحروف في حلق محمد آل رشي، فغاب الفهم كلياً او كاد، وتحديدا في لحظات الانفعال التي شاهد فيها المتلقون صراخاً لم يدركوا مراميه! فرنسوا أبو سالم : خيبة غير متوقّعة المسرحية العراقية "انسوا هيروسترات" نص غريجوري غرين، تمثيل: صاحب نعمة، اقبال نعيم، هيثم عبدالرزاق، ريكادوس يوسف وجبار خماط جاءت موفقة، وعكست بصمات مخرجها فاضل خليل الذي مثل العراق عن كلية الفنون الجميلة. في حين قاطعت نقابة الفنانين العراقيين المهرجان من خلال بيان اصدره النقيب داود القيسي اتهم فيه ادارة المهرجان ب "الضلوع في التطبيع وشبهة التمويل الاجنبي" ! وقدمت المغرب "رأس الحانوت" التي تقرأ تاريخ امرأة متعددة المسارات شخصت دورها فاطمة عاطف عن نص كتبه واخرجه بوسلهام الضعيف. كما أشاد الجمهور والنقد بمسرحية ساحل العاج "الاسى" التي قدمتها فرقة تشي تشي، وتحكي عن اربع راقصات يرحلن مع عازف ناي الى اعماق الايقاع، عبر مغامرة تتخذ من الجسد وتلويناته محورا اساسيا في بنيانها. وخيّب العرض الفلسطيني "منطق الطيور" لفرانسوا ابوسالم آمال الجمهور، لضعف بنيانه وافتقاره إلى وضوح الروىا الفنيّة، وإلى التجديد. وتساءل الجمهور: كيف يمكن أن يصدر عمل بهذا الوهن، عن المخرج الفلسطيني الذي أسس "مسرح الحكواتي" المقدسي، وقدّم عروضه في العالم أجمع، قبل أن يتحوّل في السنوات الأخيرة إلى اخراج العروض الأوبراليّة الضخمة في سالزبورغ، حصن الأوبرا المنيع ؟ ولعلّ المهرجان هو المسؤول عن سوء التفاهم هذا. فمسرحيّة "منطق الطير" المأخوذة عن فريد الدين العطّار، ليست عملاً ابداعيّاً من توقيع أبو سالم، بل خلاصة عمل "المخترف" الذي أداره في غزّة مع ممثلين لهواة لأسابيع قليلة. وربّما كان الأجدر بادارة المهرجان أن توضح الأمر للجمهور، وتقدّم العمل في اطاره الصحيح، منعاً للالتباس وسوء التفاهم... ومهما يكن من أمر، فإن مهرجان "أيّام عمّان" الذي تنظّمه فرقة "الفوانيس" بالاشتراك مع "مسرح الورشة" المصري، فرض نفسه هذا العام أيضاً، رهاناً ناجحاً، وموعداً حيويّاً للمسرح الأردني والعربي، لعلّه الوحيد الذي يرفع راية الفرق المستقلّة، ويرفض كلّ أشكال التبعيّة للمؤسسة الرسميّة لكن ذلك لا يمنعه من التعاون مع كلّ الأطراف الرسميّة والأهليّة طبعاً. فالجمهور المسرحي يبدو أكثر نضجاً، عاماً بعد آخر، والمحترفات المتخصصة جسد، صوت، اداء، اضاءة، تقنيات التي تمتاز بمستوى تقني لائق، تقدّم للفنانين الشباب فرصة التكوين المتين، وتشرّع بذلك أبواب المستقبل