إذا كان ثمّة أمثولة يمكن استخلاصها من الدورة السادسة ل "أيّام عمّان المسرحيّة"، فهي أن الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي على علاقة عضويّة بازدهار الفنّ المسرحي في أي من بلد من البلدان. يشهد على ذلك التفاوت الصارخ بين الأعمال الاجنبية والأعمال العربية في هذا المهرجان الأردني الخاص بالفرق المستقلّة، الذي تنظمه فرقتا الفوانيس الاردنية والورشة المصرية، وترعاه أمانة عمان الكبرى. فالعروض الأجنبية التي شاهدها الجمهور، أثارت في مجملها استحساناً لم تحظ به سوى عروض عربية قليلة. بل إن الحفاوة التي استقبل بها العملان السويسري "لن نستطيع ان نبقى مكتومي الأنفاس" فرقة ألياس، والهولندي "مذكر/ مؤنث" فيزيكال شويس ثياتر شو، استحالت نوعاً من الصدمة الفنية والثقافيّة في صفوف المبدعين والمتذوّقين، بسبب الثراء المشهدي والحركي والبصري لكلّ منهما. واعتبر كثيرون ان المسرحيتين نموذج لما يجب أن ينحو إليه المسرح العربي البديل، بعيداً عن فخاخ الايديولوجيا والفولكلور والوعظ الثقيل أو التجريب السطحي البعيد كلّ البعد عن التماسك الدرامي والجمالي. ومن الأعمال الأخرى التي أثارت الاهتمام والاقبال أيضاً، العرضُ الاسترالي الايمائي الصامت "الهبوط" فرقة تشابل أوف تشينج، والعرض الاميركي الراقص فرقة إنريكو لابيان للباليه. في حين لم يكن العرض البلجيكي "في البحر" معهد الفنون المسرحية/ لياج في مستوى العروض الأجنبية الأخرى. وربما شكلت اللغة التي اعتمد عليها العمل بشكل أساسي عائقاً أمام وصول خطابه العبثي، الفلسفي، الذي ينتمي إلى مسرح الستينات في أوروبا. من تونس إلى فلسطين لكنّ ما سبق لا يعني أن كلّ العروض العربيّة أتت مخيّبة للآمال في عمّان هذا العام. ففي المهرجان الذي استضاف قرابة عشرين عملاً، أمكن للمتابعين ان يتلمسوا عبقاً من اعمال سكنت البال، وأثارت معاني الاعجاب. ولعل المسرحية التونسية "حب في الخريف" التي قدمها المسرح العضوي، وأعد نصها والسينوغرافيا واخرجها عز الدين قنون، قدّمت اضافات فنية تستحقّ الاهتمام، وتختصر حالة الخشبة التونسيّة اليوم، ومشاغلها الجماليّة القائمة على ادارة الممثّل والجوانب البصريّة المختلفة. لكنّ بعض الهنات تشوب الكتابة الدراميّة غير المضبوطة، كما أن لمسات الفاضل الجعايبي تبدو واضحة على الأسلوب العام للعمل. لعبة الحب والغيرة هي محور الصراع القاسي الذي يحرّك مسرحيّة "حب في الخريف"، حيث يبرز كلّ من ليلى طوبال، صابرة الهميسي، فاطمة العايب وجعفر القاسمي، من خلال اداء مميّز، يخضع لرؤية اخراجيّة مدروسة ومتقنة، تدفع بالانفعالات نحو الذروة، وتعتمد على تلوين المشاعر... وصولاً الى أبعاد فلسفية تشي بذلك الانكسار الوجودي الحاد للفرد في مواجهة القدر، وللانسان حين يقف وجهاً لوجه أمام أخطائه ونقاط ضعفه الكثيرة. أما العرض الفلسطيني "المهاجر" الذي قدمه "مسرح القصبة" القدس، وأخرجه محمد خميس عن نص "مهاجر بريسبان" لجورج شحادة اعداد جورج إبراهيم، فيقوم في جوهره على فكرة موت امرأة بريئة قتلها زوجها متهماً اياها بخيانته عن طريق انجاب طفل من رجل مهاجر جاء يزور بلدته. وهذا الزائر الغريب يبدو عائداً بعد عمر، وقد أثقل الحنين كاهله، ليموت على مشارف القرية تاركاً وراءه سراً دفيناً وحقيبة ملأى بالنقود. ونكتشف في النهاية أن السائق خدع المهاجر في البداية، عندما قاده الى "دير الزيتون" موهماً اياه بأنها بلدته. ففي المشهد الأخير، يأتي سائق القرية نفسه بضحيّة أخرى. لكن المهاجر الجديد لا تنطلي عليه مزاعم السائق الذي يضطر إلى الاعتراف بأن سيارته القديمة لا تستطيع ان تصل إلى أبعد من القرية. هكذا يبدو مصير الأفراد، ومعنى الحنين والوطن، مفاهيم غامضة، نسبيّة معلّقة إلى الواقع بخطوط واهية، عبثيّة. وشخصية السائق، تحيلنا الى شخصية "ابو الخيزران" سائق الصهريج في رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، حيث ان قيادته العاجزة قادت الفلسطينيين المختبئين في الخزان الى الموت اختناقاً في صحراء الكويت! برز في "المهاجر" محمد بكري، وشاركه في التمثيل: محمود عوض، مكرم خوري، عرين عمري، سلوى نقارة، حسام ابو عيشة، خولة الدبسي، وليد عبد السلام، عرين عابدي وآخرون. مونودراما جليلة بكّار وشهد الجمهور عرضاً آخر، ينتمي بشكل غير مباشر إلى الهمّ الفلسطيني. هذا العرض المونودرامي جاء من تونس، وعنوانه "البحث عن عايدة"، من تأليف الفنانة الاستثنائيّة جليلة بكار وبطولتها، واخراج المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي. قدّمت بكّار عرضها أساساً في بيروت فاميليا للانتاج، ضمن اطار الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين. وهذه التجربة تمثّل انعطافة في مسيرتها الفنية، مع الجعايبي، إذ انّها تستند إلى جماليات وتقنيّات مختلفة، وإن كانت أمينة لتلك الرؤية التي ميّزت مسرحها وجعلته الأبرز عربيّاً. أثارت مونودراما "البحث عن عايدة" سجالات ونقاشات كثيرة، بسبب قالبها الفني المبتكر القائم على سلطة النص المروي بطريقة الحكاية المباشرة. وقد استحوذت بكّار على الجمهور برهافة ادائها، وبحضورها المتوتّر تارة والشاعري طوراً. فاندمج المشاهدون بجوارحهم في العمل القائم على خيار جمالي في منتهى الخصوصيّة. نجحت تلك الممثلة التونسيّة في اختصار خمسين عاماً من التيه والألم والضياع والكفاح، بصوتها وحركاتها ووقع كلماتها وتنفّسها وتعابير وجهها. وقد ظلمها، وافترى عليها، اولئك الذين لم يروا في العمل أكثر من درس تاريخ لتلامذة المرحلة الابتدائية! وشاركت مصر بعملين: الاول مونودراما "المشوار الاخير" عن نص لألفرد فرج أخرجته دنيا امين، ومثّلته فانيا إكسرجيان. وقد استندت هذه الممثلة التي برزت في أعمال "الورشة" "غزير الليل"، "غزل الأعمار"... إلى أسلوب يمزج الفجيعة بالملهاة في تركيبة معقّدة على رغم بساطتها الظاهريّة، فكشفت عن مخزون ادائي رفيع المستوى. اما العمل الثاني فكان "اللي يعيش" وقدمته فرقة الورشة المسرحية، وهو عبارة عن مختارات من عروضها اشتملت على المواويل والحكايا الشعبية التي تعكس ذاكرة الحياة المصرية في الثلاثينات والأربعينات. وتأتي أهمية عرض "الورشة" في كونه امتداداً للاتجاه الذي سارت عليه الفرقة المصرية، وقوامه اعادة الاعتبار إلى تقاليد الفرجة الشعبيّة، انطلاقاً من المخزون الجماعي، ومع احترام معايير الدراما العالميّة. وقدّم المخرج السوري فايز قزق مسرحيّة جان جينيه "الخادمتان"، مع فرقة مسرحيّة كويتيّة، فتميّز العمل الذي مثلته رشا مصطفى، يسرى عبد المحسن، وعبير يحيى بأسلوب فانتازي أخلص لروح العمل، موغلاً في ظلمات النفس. لكنّ العرض الذي بدأ قوياً ومقنعاً، انتهى أقلّ تماسكاً، على الرغم من حسن ادارة الممثلات. أما العرض العراقي "سيدرا" المسرح الفني الحديث، فجاء مخيّباً للآمال على رغم الحضور التمثيلي القوي لعزيز خيون واقبال نعيم وفيصل جواد ورياض كاظم والآخرين... ذلك أن النصّ الذي كتبه خزعل الماجدي، وأخرجه فاضل خليل، يفتقر إلى الوضوح الدرامي والتماسك، ويشكو من التشوّش والذهنيّة، ويستعير من نصوص شكسبير هاملت، ليدي ماكبث، عطيل، ريتشارد الثالث... عناصر يجمعها من غير مبرّر في عظة فلسفيّة، لا تعرف من التراجيديا سوى شكلها الخارجي. ولعل هذا العمل يختصر الحالة الثقافيّة العراقيّة التي عانت من طول انغلاق، وباتت تفتقر إلى مصادر الوحي والنظرة النقديّة. خيبة أردنيّة أما المشاركة الأردنية في المهرجان، فأجمع الجمهور على أنها جاءت مخيبة للآمال. فدورات المهرجان السابقة، لم تعرف اخفاقاً كالذي سجّله "مسرح الفوانيس" هذا العام، مع "أحلام شهرزاد في ليلة زفافها" التي أخرجها هشام حمادة ومثّلها محمد القباني النصّ من تأليفه! وسهير اياد. خلت المسرحيّة من أي اشارة إلى انجازات تلك الفرقة التي وصلت، في السنوات الأخيرة، إلى مرحلة لافتة من النضج. فقد اعتبر النقاد وأهل المهنة أن عرض هذا العام لا يرقى الى المسرح المدرسي. كما أن كميّة الادعاء تجريبيّة، إلخ... التي يحملها، ساهمت في اغراقه في مستنقع الملل والتكرار والرتابة. وقد اعتذر القباني نفسه عن التجربة، مدركاً أنّه تسرّع في الارتماء في عمل يفتقر إلى النضج، ولا يقيم وزناً لوظيفيّة العناصر، وأبسط قواعد اللغة المشهديّة. ولن نعود هذا العام إلى الخناقات الهامشيّة العقيمة التي شككت في نزاهة المنظّمين، وألمحت بعصبيّة مثقلة بالبارانويا إلى "تعامل المهرجان مع جهات مشبوهة" من دون تقديم أي دليل. فقد استنفد هذا النوع من الكلام قيمته ومعناه، وقدرته على التأثير في الرأي العام الأردني والعربي. فأي منطق يمكن أن يقبل التهمّ العنيفة التي وجّهت إلى فنّان من حجم محمد بكري، معتبرة ايّاه في خانة الأعداء لأنّه ينتمي إلى الأراضي العربيّة المحتلّة العام 1948؟! وقد ردّ مدير المهرجان نادر عمران بقسوة على هذه التهم البليدة في ختام المهرجان. ومن جهة أخرى تميزت دورة هذا العام بانتقال العروض الى مدن أردنيّة مثل اربد ومأدبا والعقبة. كما تميزت باتاحة الدخول المجاني للعروض، ما خلق بعض الارباكات التنظيمية. كما وجّهت تحيّة خاصة إلى السينمائي المصري الكبير شادي عبد السلام، إضافة الى ورش العمل التي تعد اغناءً حقيقياً لهذه التظاهرة، وللحركة المسرحية الأردنيّة والعربيّة. لكنّ مهرجان "ايام عمان المسرحية" مُطالب في دورته المقبلة بتجاوز عثرات هذا الموسم، والتدقيق اكثر في مستوى العروض المقدمة حفاظاً على ديمومته وصدقيّته، وسعياً إلى تعميق خياراته الجمالية