ترى ماذا أنجز الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة خلال العام الأول من عهده الرئاسي الذي بدأ بانتخابه في 15 نيسان ابريل من السنة الماضية؟ هذا السؤال الذي يطرحه أنصار الرئيس وخصومه، على حد سواء، بعد مرور عام على انتخابه، ينبغي النظر فيه من خلال ثلاث أولويات التزم الرئيس بوتفليقة تحقيقها أو بالشروع في تحقيقها، وهي: - تحقيق الوئام المدني. - انعاش الاقتصاد الوطني. - استعادة دور الجزائر مكانتها على الصعيد الدولي. بداية ينبغي التذكير بأن هذه الأولويات ما هي سوى حلقة في "استراتيجية الخروج من الأزمة" التي أقرتها أطراف فاعلة في السلطة الجزائرية ويجري تنفيذها تدريجاً باشراف الرئيس بوتفليقة الذي يمزج الواقعية بالدهاء في تعامله مع مختلف عوامل الأزمة وأطرافها في آن واحد. ويمكن القول في هذا الصدد إن الرئيس الجزائري قطع شوطاً مهماً في مسار الوئام المدني خلال السنة الأولى من عهده. ويكفي للدلالة على ذلك، التذكير بأن عدد المسلحين الذين عادوا إلى ديارهم يزيد على ستة آلاف مسلح، و"حركية التوبة" هذه ما تزال مستمرة في شتى أنحاء الجزائر. وقد تقلصت لذلك أعمال العنف، خصوصاً المجازر بشكل ملحوظ. لكن هل يعني ذلك ان خصوم "الوئام المدني" ألقوا بأسلحتهم هم أيضاً؟ لا طبعاً. فمسار "الوئام المدني" ما يزال محفوفاً بشتى أنواع المكامن. فهناك أولاً بقايا الجماعات المسلحة التي تتمركز خصوصاً في الجبال الواقعة شرق العاصمة وغربها، وتقوم من وقت إلى آخر بعمليات تستهدف قوات الأمن على وجه الخصوص، ايهاماً بأن هناك "بقايا قضية" لا تزال تدافع عنها. وهناك "العنف المشبوه" الذي انتقل من المجازر الشنيعة إلى اغتيال رعاة المواشي، في محاولة مكشوفة للتشويش على "مسار الوئام" ومن ثمة على "استراتيجية الخروج من الأزمة" ذاتها. ويصب هذا العنف في "استراتيجية الانهيار الشامل" التي جاءت الاستراتيجية الأولى كبديل لها، حسب اعتقاد بعض المراقبين الذين يشيرون بأصابع الاتهام إليه في اغتيال عبدالقادر حشاني القيادي السابق في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة وعدد من "التائبين" بعده. وهناك أيضاً "الارهاب الإداري"، حسب المصطلح الشائع، ويحاول هذا "الارهاب" عرقلة دمج المسلحين العائدين في الحياة العام. ويصف أحد هؤلاء حاله - ورفاقه - نتيجة العراقيل الإدارية المختلفة، قائلاً: "لقد وجدنا أنفسنا في الوضعية نفسها التي دفعتنا إلى حمل السلاح مطلع التسعينات. وإذا استمرت هذه الحال، سأجدني مضطراً بدافع الحاجة إلى السرقة أو المتاجرة بالمخدرات". هناك إذاً خطوات تم قطعها على مسار الوئام المدني الذي لا يزال مع ذلك بحاجة إلى قرارات جريئة إضافية، تحميه من مخاطر الانتكاس وتقطع خط الرجعة على خصومه من أنصار "استراتيجية الانهيار الشامل". وعلى صعيد الانعاش الاقتصادي - الذي يعتبر الوئام المدني أحد شروطه - شهدت الجزائر خلال العام الماضي حركة استطلاع مهمة، نشطها مستكشفون عرب وأجانب لامكانات الاستثمار المتاحة. وقد بدأت هذه الحركة تؤتي ثمارها مع المستثمرين العرب والأميركيين خصوصاً، وفي انتظار المستثمرين الأوروبيين وفي مقدمهم المستثمرين الايطاليين والألمان، علماً ان موقف الفرنسيين ما يزال مشوباً بالتردد. ويفسر المراقبون ذلك بأن "تزكية باريس للرئيس بوتفليقة ما تزال دون تزكية واشنطن". وبداهة ان الانعاش الاقتصادي من الصعب تحقيق فتوحات كبيرة فيه خلال سنة واحدة، نظراً إلى الوضع الصعب للبلاد من الناحية المالية خصوصاً، فضلاً عن مضاعفات عملية التحول إلى اقتصاد السوق وما تستوجبه من تكيّف هيكلي بطيء ومكلف في آن واحد. ويمكن تلخيص الوضعية المالية للجزائر حسب آخر الاحصاءات في الأرقام الآتية: 1- ديون خارجية بلغت نهاية العام الماضي أكثر من 28 مليار دولار، أي ما يعادل 58 في المئة من اجمالي الدخل القومي. 2- فوائد ديون تقدر بحوالي 39 في المئة من قيمة صادرات السنة الماضية التي بلغت 5.12 مليار دولار. 3- ديون داخلية باهظة، سددت منها الخزينة في موازنة العام الحالي مثلاً ما لا يقل عن 290 مليار دينار حوالي 4 ملايين دولار. إن مثل هذه الأرقام وحدها كافية لتبيان صعوبة المهمة على صعيد الانعاش الاقتصادي، الأمر الذي جعل الحكومة الجزائرية تفكر للمرة الأولى بالمطالبة بمحو جزئي للدين الخارجي لتمكين عملية الانعاش من الانطلاق الجدي. وإذا كانت مهمة الرئيس بوتفليقة صعبة على مسار الوئام المدني، وأصعب على صعيد الانعاش الاقتصادي، فقد كانت عكس ذلك أسهل نسبياً على الصعيد الدولي، حيث كان الهدف الأول هو استعادة دور الجزائر ومكانتها. فالرئيس الجزائري يقود منظمة الوحدة الافريقية منذ مؤتمرها الخامس والثلاثين الذي انعقد في نادي الصنوبر في منتصف تموز يوليو من العام الماضي، وبهذه الصفة شارك في تحضير ورئاسة القمة الافريقية - الأوروبية التي انعقدت أخيراً في القاهرة، وحرص الرئيس بوتفليقة على عقد هذه القمة في موعدها على رغم المناورات التي استهدفت تأجيلها إلى النصف الثاني من هذه السنة. أي بعد تسلم باريس رئاسة الاتحاد الأوروبي خلفاً للبرتغال، وتولي التوغو رئاسة منظمة الوحدة الافريقية خلفاً للجزائر التي تنتهي فترة رئاستها في تموز المقبل. وفضلاً عن ذلك، شارك الرئيس بوتفليقة خلال السنة الأولى من عهده في عدد من المنابر الدولية الاقتصادية بهدف لفت انتباه أصحاب الحل والعقد على هذا المستوى إلى فرص الاستثمار التي تتيحها الجزائر التي تعيش مرحلة نشيطة من تجاوز أزمتها الداخلية والانفتاح على الاقتصاد العالمي في الوقت نفسه. عائق الرباطوباريس غير أن الرئيس الجزائري وجد صعوبة مع المغرب وفرنسا خصوصاً، فقد كانت خطواته الأولى غداة انتخابه توحي بأنه يفضل "البدء من البداية". أي من بوابة الرباط ثم باريس، لكن الصعوبات اضطرته إلى مراجعة أولوياته، في انتظار ما ستسفر عنه زيارته المقبلة إلى فرنسا. وإذا كانت حصيلة سنة من حكم الرئيس بوتفليقة تبدو متفاوتة النتائج، قياساً بالأولويات الرئيسية الثلاث التي حددها لنفسه، كما سبقت الإشارة، فإن الساحة السياسية الداخلية لم تشهد خلال الفترة نفسها تطوراً مهماً، باستثناء ما شهدته في الآونة الأخيرة من تجاوز ل"مرحلة الذهول ومراجعة الحسابات" التي أعقبت الانتخابات الرئاسية وزيارات بوتفليقة المدوية على الصعيد السياسي الإعلامي والتي وصفت في حينها ب"اعصار بوتفليقة". فالأحزاب الأربعة التي ساندت المرشح بوتفليقة، وهي التجمع الوطني الديموقراطي وجبهة التحرير الوطني وحركة "حماس" ثم حركة "النهضة"، ما تزال على وفائها الأول. وقد انضم إليها بمناسبة استفتاء 16 أيلول سبتمبر الماضي حول الوئام المدني "التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية". ولم تشهد "لجان مساندة الرئيس" تغييراً يذكر، ما عدا تعيين منسقها السابق محمد زعاف ممثلاً للجامعة العربية في بروكسيل. وعلى رغم انقشاع غمامة الذهول التي ضربت المجتمع السياسي عقب استحواذ الرئيس المنتخب على زمام المبادرة، فإن أحزاب المعارضة عجزت عن إصدار بيان تقييمي لحصيلة الرجل بعد مرور سنة على انتخابه. ويعيد المراقبون ذلك إلى مرض السيد حسين آيت أحمد، زعيم جبهة القوى الاشتراكية، التي تمر، فضلاً عن ذلك، بأزمة داخلية أدت أخيراً إلى فصل 8 نواب من الأعضاء القياديين في الحزب، وإلى انشغال الشيخ عبدالله جاب الله بالمهام التنظيمية لحركة الاصلاح الوطني، الحزب الذي أسسه بعد تمرد الأمانة العامة لحركة "النهضة" عليه، واجباره على الانسحاب منها في ظروف الانتخابات الرئاسية العام الماضي. ووجدت "حركة الوفاء والعدل" برئاسة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية السابق، نفسها أمام إشكال خاص، يتمثل في رفض وزارة الداخلية اعتمادها على رغم توافر كل الشروط القانونية، وآخرها عقد المؤتمر التأسيسي في منتصف كانون الأول ديسمبر الماضي. ولم يعد "حزب العمال"، بقيادة السيدة الويزة حنون، يبدي حماساً كبيراً للتنسيق مع الأحزاب المذكورة لأسباب تبدو غير واضحة. ومع تعذر القيام بمبادرة موحدة من هذه الأحزاب، وجد الدكتور طالب الإبراهيمي نفسه مضطراً للتحرك بمفرده، انطلاقاً من بيروت ودمشق. فقد سربت الأمانة العامة ل"حركة الوفاء والعدل" أخيراً خبراً مفاده "أن الرئيس حافظ الأسد استقبل زعيم الحركة" الذي استقبل في لبنان أيضاً من كبار المسؤولين "يتقدمهم رئيس الحكومة سليم الحص ورئيس مجلس النواب نبيه بري". وتزامنت هذه المبادرة العربية من الدكتور الإبراهيمي مع إصدار بيان داخل الجزائر، يتهم ضمنياً الرئيس بوتفليقة بتوفير "غطاء سياسي لحل استئصالي في حقيقته"، مضيفاً "ان تكريس مثل هذا التوجه من شأنه أن يطيل في عمر الأزمة القائمة". وتبنى بيان الحركة الدفاع عن "الأغلبية المسحوقة" ضد "أقلية من المستفيدين... تعيش في بحبوحة بسبب استغلال الوظائف والنفوذ". ويعتقد المراقبون ان طالب الإبراهيمي يمكن ان يشكل، بمثل هذا الخطاب، تحدياً حقيقياً للرئيس بوتفليقة في الاستحقاق الرئاسي المقبل، سواء كان عادياً أو سابقاً لأوانه. ويمثل طالب الإبراهيمي، الذي يعتبره بعضهم الفائز معنوياً بانتخابات الرئاسة العام الماضي، التحدي الشعبي في مقابل "التحدي الاستئصالي"، ممثلاً في سيد أحمد غزالي رئيس "الجبهة الديموقراطية"، التي لم تعقد مؤتمرها التأسيسي بعد، الذي يراهن على دعم لوبي في فرنسا وعلى جزء من الحركة البربرية النشيطة داخل البلاد وخارجها. ويركز رئيس الحكومة السابق 1991 - 1992 هجماته على الرئيس بوتفليقة شخصياً، محاولاً في تصريحاته الأخيرة، بجرأة غير معهودة كسر الحلقة التي تربط الرئيس بالجيش خصوصاً. فقد استغل جدلاً بين اللواء المتقاعد خالد نزار وزير الدفاع السابق والرئيس علي كافي رئيس المجلس الأعلى للدولة سابقاً، اختلقه حلفاؤه في الحركة البربرية، ليتهم الرئيس بوتفليقة "بازدواجية الخطاب ازاء الجيش، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحميله مسؤولية المآسي التي تعيشها الجزائر منذ وقف المسار الانتخابي" مطلع 1992. واعتبر موقف غزالي من قبيل ذم الجيش لكن في قالب المدح