اكد الدكتور بيار ترزيان، مدير مركز "بتروستراتيجي" للابحاث النفطية في باريس، ان تقلبات اسعار النفط الحالية ناتجة عن عجز المنتجين والمستهلكين عن التحكم في حركة العرض والطلب في الاسواق. واوضح ان التحكم بالاسعار عملية مستحيلة وان ذلك يتطلب تسليم المنتجين امر الانتاج الى اوبيك وتسليم المستهلكين بحجم الاستهلاك الفعلي في الاسواق. واوضح ترزيان ان العراق لا يشكل مصدر قلق لاوبيك لان قدرته على الانتاج محدودة وزيادة هذه القدرة تتطلب قطع غيار واصلاحات تحول دونها الولاياتالمتحدة. واعتبر ترزيان ان النفط ليس دائماً مصدر سعادة للبلدان المنتجة. كيف تفسّر تقلبات الاسعار في اسواق النفط وهل يمكن ضبطها؟ - تُظهر التقلبات في اسعار النفط منذ ربيع العام 1998 وحتى اليوم ان سعر البرميل الواحد انتقل من 9 دولارات الى 33 دولاراً، وان كل الاطراف المعنية بانتاج النفط واستهلاكه عاجزة عن اجراء تقويم دقيق ومحدد للعرض والطلب وبالتالي غير قادرة على تحقيق توازن بين الاستهلاك والانتاج هو الشرط الوحيد للسيطرة على الاسعار والحؤول دون تقلباتها الدورية. ونجد سوء التقدير هذا عند الدول المنتجة التي زادت انتاجها العام 1998 فانخفضت الاسعار الى مستوى شديد، ونجد سوء التقدير نفسه عند الدول المستهلكة، خصوصاً لدى منظمة الطاقة الدولية التي تضم البلدان الغربية المستوردة للنفط. فقد اكدت المنظمة المذكورة في ربيع العام 1998 انها لا تعرف كيف تسدّ النقص في امداداتها والبالغ 2 مليون برميل يومياً، ومع هذا التصريح بدأت الاسعار بالارتفاع ثم عادت الدول المنتجة لترتكب خطأ جديداً عندما اعتقدت ان زيادة الانتاج يمكن ان تضبط الاسعار في مستوى مرتفع ومستقر. وتبين هذه الاخطاء حقيقة مفادها ان احداً لا يعرف بصورة تقريبية مقدار الانتاج والاستهلاك في الاسواق النفطية قبل مضي 3 اشهر على حركة هذه الاسواق، ويحتاج الامر الى عام كامل كي نعرف بدقة حجم الانتاج والاستهلاك، ما يعني ان صناعة البترول تتم وسط غموض كبير هو المسؤول عن تقلّب الاسعار ولا احد يستطيع اليوم ازالة هذا الغموض. معنى ذلك ان حال الاسواق قدرية وعصية على المعالجة؟ - يمكن القول بالفعل انها قدرية. لكن على رغم ذلك هناك حل لوقف التقلبات يكمن في ان تنشئ الدول المنتجة آلية لنشر احصاءات فورية وصريحة بحجم انتاجها مما يسمح بمعرفة الكميات المتدفقة الى الاسواق. ومن جهة ثانية تعمد الدول المستهلكة الى انشاء آلية مماثلة تتصل بحاجة الاسواق للنفط. في هذا الحالة فقط يمكن ان يتوازن العرض والطلب ويصبح بالامكان التحكم بالاسعار. غير ان هذا الحل يُعتبر في الظروف الحالية مثالياً ويصعب التوصل اليه لان المنتجين مختلفون فيما بينهم ولا يثقون بالارقام التي يتداولونها بين بعضهم البعض. أضف الى ذلك انهم على خلاف مع المستهلكين على مواضيع كثيرة واساسية، ما يعني ان التوصل الى حلٍ يبدو مستحيلاً وان الغموض سيظل سائداً اسواق النفط وان الاسعار ستواصل تقلباتها. هل تعتقد بأن ارتفاع اسعار النفط سيستمر على المدى القريب؟ - لا اعتقد بأن الارتفاع سيتواصل وقد علّمتنا التجارب السابقة ان السعر يبدأ بالارتفاع والانخفاض عندما يبلغ سقفاً عالياً او عندما يصل الى مستوى شديد التدني. ساعتئذٍ تحدث ردّة فعل تعيد الامور الى ما يشبه التوازن ومع هذا التوازن تبلغ الاسعار درجة متوسطة بانتظار ازمة جديدة. هكذا كانت الحال من قبل وعلى هذه الصورة ستستمر في المستقبل، ما لم تطرأ تطورات اساسية وجديدة لا توجد حتى الآن مؤشرات حولها. اما بالنسبة الى الوضع الراهن فان ارتفاع الاسعار بلغ السقف الاعلى ورد الفعل بدأ يرتسم ويكمن في زيادة الانتاج التي يمكن ان تعيد الامور الى نصابها. ما اثر هذه التقلبات على الدول المنتجة؟ - لا تستفيد الدول المنتجة من هذه التقلبات، فمصلحتها تكمن في استقرار الاسعار، لأن معظم دول اوبيك تدين للنفط بكل شيء تقريباً، وبعضها يدين له 100 في المئة، ما يعني ان النفط بالنسبة اليها هو مسألة حياة او موت. ولو لم يكن الامر على هذا النحو لسلّمت الدول المنتجة امر النفط الى اوبيك لتتولى بنفسها شؤون الانتاج والبيع واتخاذ القرارات المناسبة. غير ان المنتجين لا يسلمون حياتهم النفط لمنظمة مستقلة لأن ذلك يعني التخلي عن سيادتهم او عن جزء منها. والانتاج النفطي، شئنا ام ابينا، يقع في صلب سيادة البلدان الاعضاء في اوبيك. هكذا نصل الى استنتاج مفاده ان الحل الامثل للاسعار البهلوانية القائمة يقضي بتسليم الانتاج والبيع لأوبيك كي تنظم الاسعار، وبما ان هذا الحل مثالي فان الامور لن تتغير. هل تنعكس زيادة الاسعار على الاكتشافات النفطية الجديدة؟ - ان النقطة الايجابية الوحيدة لدول اوبيك في الازمة الاخيرة، تكمن في التأثير السلبي للاسعار المرتفعة على الاستثمارات في التنقيب عن النفط. فالشركات البترولية لا تلحظ في موازناتها استثمارات في التنقيب عندما يكون سعر البرميل 30 دولاراً. وهي تضبط موازنة الاستثمار في هذا المجال على ضوء اسعار تتراوح بين 13 و16 دولاراً للبرميل. وعندما تتدنى الاسعار تضعف قدرة الدول المنتجة خارج اوبيك على منافسة هذه المنظمة فيما ترتفع قدرتها على المنافسة مع ارتفاع الاسعار، ما يعني ان ارتفاع الاسعار يُضعف فرص اكتشافات نفطية جديدة وبالتالي يقلّل من حجم المنافسة بين المنتجين خارج اوبيك وداخلها. لكن لا بد من الاشارة الى ان هذه المعادلة تصح فقط على الفترة الراهنة والموقتة، ذلك ان ارتفاع الاسعار لمدة طويلة يمكن ان يحمل الشركات النفطية على اعادة برمجة موازانتها في التنقيب عن النفط في ضوء اسعار مرتفعة لمدى طويل. ثمة من يعتقد بأن التقلبات في اسعار النفط اسبابها سياسية فهل يصحّ ذلك على التقلبات الحالية؟ - السياسة حاضرة بالتأكيد في صناعة النفط وهي لم تغب يوماً عنها. والايام الاخيرة حملت دليلاً ملموساً على ذلك. فيوم الاثنين 6 آذار مارس الماضي اعلن وزير النفط الايراني بيجان زنقاني ان بلاده ستقف ضد زيادة الانتاج ولكنه اضاف: "اذا كفّت الولاياتالمتحدة عن ممارسة الضغوط السياسية فان الاسعار تعود الى مسارها الطبيعي وتنخفض في الفصل الثاني". وفي اليوم التالي قالت واشنطن انها ستدرس تخفيف العقوبات على ايران. وفي 8 آذار زار وزير النفط الايرانيالرياض والتقى وزير النفط السعودي علي النعيمي وصدر بيان عن الطرفين يؤكد انهما متفقان على ان الظروف الحالية للاسواق وآفاقها تتطلب بأن يوفّر المنتجون امدادات نفطية مناسبة في الوقت المناسب لتحقيق توازن في الاسواق بغية الوصول الى سعر يكون مفيداً لنمو الاقتصاد العالمي. لكن بعد التصريح الاميركي حول تخفيف العقوبات، صرّح نائب وزير الخارجية الايراني مرتضى صرمدي ان بلاده قد تشتري قمحاً اميركياً اذا تمّ تخفيف العقوبات الاميركية عنها. ومعنى ذلك ان تغيّر الموقف الايراني من النفط، زيادة وانخفاضاً، ناتج جزئياً على الاقل عن اسباب سياسية وليس نفطية بحتة، وهو يؤكد ان السياسة حاضرة بقوة في صناعة النفط. يتضح من كلامك ان الولاياتالمتحدة يمكن ان تلعب دوراً حاسماً في الاسواق النفطية؟ - الولاياتالمتحدة هي المستهلك الاكبر للنفط في العالم ناهيك عن كونها القوى العظمى وعلى كل الاصعدة، وبالتالي لا يمكن الالتفاف عليها، ولا يمكن ان نتخيل للحظة واحدة انها بعيدة التأثير على اسواق النفط انتاجاً واستهلاكاً. اذا كانت تلك حالها فلماذا امتنعت عن التدخل لوقف ارتفاع الاسعار؟ - على رغم عظمتها، لا تستطيع الولاياتالمتحدة ان تفعل شيئاً معيناً، فهي غير قادرة على معرفة ما يُنتج ويُستهلك في اسواق النفط بدقة. ويصعب عليها كما يصعب على اية قوة عظمى تحقيق التوازن التام بين العرض والطلب وبالتالي تحقيق استقرار تام في الاسعار. يسود انطباع بأن زيادة الاسعار مفيدة لدول اوبيك لأن الزيادة تضخ في موازناتها مبالغ مالية جديدة وبالتالي تساعدها في مواجهة مشاكلها الاقتصادية. - البترول لا يمكن اعتباره دائماً في كل الاحوال مصدراً للسعادة في هذه البلدان، ولتبيان ذلك علينا الرجوع الى امثلة في دول معينة. ففي نيجيريا مثلاً ادى النفط الى ضرب القطاع التقليدي في الانتاج الزراعي واحدث اضطرابات خطيرة في البلاد. وفي فنزويلا ادى الى ازدياد الفقراء فقراً والى انضمام فئات جديدة الىهم. واندونيسيا وضعها دراماتيكي بسبب النفط والجزائر تعاني مما يعرفه الجميع، فلماذا يحدث ذلك؟ السبب انه عندما تكون العائدات النفطية طاغية على بقية القطاعات الاقتصادية فانها تخلق حالة من انعدام التوازن في هذه البلدان خصوصاً ان اقتصادها ضعيف وغير نام وتعتمد كلياً على العائدات النفطية. وعندما ترتفع اسعار النفط يزداد الريع ومع ازدياده تتعطل قوى الانتاج المحدودة او تضرب ويزداد انفتاح الشهية على الفساد وتضعف الاتجاهات نحو الديموقراطية وتسوء احوال ذوي الدخل المحدود ويصاب الوضع العام بشلل كبير وهذا ما نشاهده بأم العين في بعض البلدان. من هنا القول ان النفط ليس مصدراً للسعادة في هذه البلدان وان الصورة خادعة تماماً. وفي ظني أن النفط يصبح في هذه الحالة مصدر بؤس بدلاً من أن يكون مصدراً للسعادة. هل للتطورات الأخيرة في أزمة الشرق الأوسط تأثير على ارتفاع الأسعار؟ - في الظروف الراهنة، لا يوجد تداخل بين أزمة الشرق الأوسط وأسعار النفط، لأن مفاوضات السلام على رغم تعثرها والصعوبات المحيطة بها، ما زالت قائمة والآفاق المستقبلية مفتوحة على السلام وليس على الحرب ما يعني أن ما يجري في الشرق الأوسط لا يؤثر سلباً على النفط، أما اذا تبين في ما بعد ان عملية السلام وصلت الى حائط مسدود وانفتحت آفاق نحو الحرب والتوتر ساعتئذٍ يعود التأثير السلبي للشرق الأوسط على النفط. لكن اليوم يمكننا القول انه لا توجد علاقة بين الجانبين. يقال ان الانتاج العراقي يمكن أن يؤثر على العرض والطلب. - لا يؤثر العراق على العرض في أسواق النفط، ومن المنتظر أن يظل تأثير الانتاج العراقي محدوداً خلال الفترة المقبلة. فبغداد تنتج اليوم 2.2 مليون برميل في اليوم هي مجمل طاقتها على الانتاج ولا تستطيع زيادة هذه الطاقة إلا إذا حصلت على قطع غيار جديدة، وفي هذه الحالة يمكن أن تصبح عامل اضطراب في الأسواق. والراهن ان الولاياتالمتحدة لا تريد ان يمتلك العراق طاقة أكبر على انتاج النفط ولذلك تحول دون حصوله على قطع غيار جديدة وتراقبه عن كثب. لهذا كله ليس العراق مصدراً للقلق لأوبيك وللأسواق معاً. هل تؤثر أسعار النفط المرتفعة سلباً على استهلاك البترول لمصلحة استهلاك الغاز؟ - ان أحد أهم مشاكل اوبيك اليوم انها تنتهج سياسة دفاعية على أصعدة متعددة وفي وقت واحد، وبصورة خاصة تجاه الغاز الذي ارتفع استهلاكه في ربع القرن الماضي أكثر بكثير من استهلاك البترول. والنسبة اليوم لاستهلاك النفط هي 40 في المئة وللغاز 20 في المئة ومن المتوقع ان يرتفع استهلاك الغاز خلال 25 سنة في الدول الأوروبية ليصبح 30 في المئة وعندئذٍ سيصبح مساوياً لاستهلاك النفط. لذا تخشى دول أوبيك من أن تكون اجراءات حماية البيئة في العالم على حساب استهلاك النفط، وهي تخشى أيضاً من الضرائب المرتفعة جداً التي تفرضها الدول الغربية على استهلاك النفط. في مواجهة هذه المخاطر تواصل أوبيك سياستها الدفاعية وتبدو عاجزة عن التحرك لوقف هذه السيرورة ويخشى أن يؤدي عدم تحركها الى انخفاض اسهمها في أسواق النفط لمصلحة الغاز، وأظن ان عليها ان تعتمد استراتيجية جديدة في هذه المجال وفي غيره. لماذا لم تعتمد أوبيك استراتيجية واضحة حتى الآن؟ - لا توجد لديها استراتيجية لأن بناء الاستراتيجية يتطلب ان تسلم الدول الأعضاء جزءاً من سيادتها الى المنظمة، وهو ما تمتنع عن القيام به لأن النفط قضية حياة أو موت بالنسبة اليها، كما ذكرنا من قبل، ولا تسلم حياتها الى الغير، وفي غياب ذلك يصعب التوصل الى استراتيجية مرنة ومتحركة وفعالة. لكن جدول أعمال قمة "اوبيك" في كاركاس في ايلول سبتمبر المقبل يتضمن بنداً واضحاً حول الاستراتيجية، فهل تتوقع تغييراً في هذا المجال؟ - لست متفائلاً للغاية حول هذا الأمر. إذ من حيث المبدأ كان على اعضاء اوبيك ان يفكروا بجدية أكبر بعد الأزمة التي مرت بها المنظمة العام 1998، وأن يرسموا استراتيجية جديدة تقوم على تكيف أوبيك مع التطورات في الأسواق النفطية اليوم، لكن ذلك لم يحصل. ومع الأسف لا نرى حتى الآن أية اشارة تدل على تفكير صريح وصادق لدى المنظمة حول الاستراتيجية المنتظرة، وهذا يدعو الى التشاؤم أكثر من التفاؤل