"الواحات المشمسة" عنوان مجلّة أدبيّة لافتة، يندر أن نجد مثلها في العالم العربي على مستوى المجلاّت المتخصّصة، لجهّة رصانتها وتخصصها، وطريقة معالجتها للانتاج الأدبي والنقدي، وعمق طرحها للمواضيع. ويزيد من خصوصيّة هذه المطبوعة الدوريّة، كونها تصدر في المملكة العربيّة السعوديّة التي تعاني حركتها الابداعيّة من ظلم واجحاف خارج الخليج إلا في حالات نادرة اخترقت الحواجز، نتيجة حالة من الجهل والكسل تكبّل الحياة الثقافيّة العربيّة، ونتيجة عدد لا حصر له من الأفكار المسبقة والحواجز الوهميّة. وعلى الذين ما زالوا يقولون بعدم وجود حركة أدبيّة متكاملة، لها روافدها واتجاهاتها، في السعوديّة، أو ينظرون بفوقيّة إلى ما ينتج وينشر في المملكة، على هؤلاء أن يتصفّحوا "الواحات المشمسة"، هذا "الملفّ الدوري المتخصّص في السرد وقضاياه"، الذي يصدر عن "نادي القصّة السعودي" التابع ل "الجمعيّة العربيّة السعوديّة للثقافة والفنون". فهم سيكتشفون كميّة من الأسماء الابداعيّة والنقديّة، كما سيلمسون بأنفسهم مدى الجديّة والعمق والرقيّ في طرح القضايا، والقراءات النقديّة، ومناقشة الاشكاليّات الابداعيّة على اختلافها... ناهيك بمجموعة الاقلام القصصيّة التي يشكّل اكتشافها - أو اعادة اكتشافها - مقداراً من المتعة التي قد لا تتوافر بكثرة في مدن عربيّة أخرى ما زالت تدّعي لنفسها الريادة الأدبيّة أو النقديّة. في افتتاحيّة العدد المزدوج الجديد 7 و8 من "الواحات المشمسة"، هذا العدد الذي تتصدّر غلافه لوحة للفنّان السعودي سمير الدهّام، يذكّر محمد بن أحمد الشدي، رئيس مجلس الادارة، باختيارات المجلّة وتوجّهاتها ورهاناتها: "كانت خطوتنا في اصدار الواحات المشمسة بوصفه ملفّاً نصف سنويّ، محاولة للدخول إلى عالم المطبوعات المتخصّصة في المجال الأدبي، لا سيّما في بلادنا التي تسير الحركة الأدبيّة فيها بشكل تصاعدي مفرح، ومبهج. وما ترشيح مدينة الرياض لتكون عاصمة ثقافيّة للعام 2000 م إلا دليل على ذلك النجاح". ويضيف الشدي في افتتاحيّته التي تحمل عنوان "شمس الثقافة الجديدة": "إن الواحات عمل مهمّ ضمن أعمال نادي القصّة السعودي الذي بلغ هذا العام عشرين عاماً من العطاء والانتاج والمشاركة الفاعلة في حركة الجمعيّة العربيّة السعوديّة للثقافة والفنون التي تولي الحركة الشاملة كلّ اهتمام وتواصل معها، وللنادي أعمال أخرى لا تقلّ أهميّة عن هذا الملفّ في اشتباكها مع المتلقّي ... أما تفاعل المطبوعات الثقافيّة مع قصّتنا القصيرة، فليس بمستغرب أبداً، حيث أثبت الكتّاب والكاتبات في وطننا أن الكتابة القصصيّة فن راق متجاوز ومتطوّر، آخذ بكلّ جديد وتقني يخدم آلية الكتابة ذاتها، ولهذا تفاعلت تلك المجلات لاصدار ملفات خاصة حول الخطاب السردي في المملكة...". ازدحام المشهد الثقافي ويزيد محمد العبّاس تعميق هذه المسألة في دراسة له بعنوان "القصّة كإشارة حضور - مقدّمات في جماليّة النظام اللغوي"، إذ يعتبر أن اكتظاظ المشهد الثقافي السعودي بأسماء واصدارات قصصيّة متزاحمة، "نتيجة طبيعيّة لحالة النموّ الشاملة التي تأهّلت ضمن تربتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، تمثّلات ثقافيّة محتمة، يتقدّمها القص كبنية فوقيّة عاكسة، ومفسّرة لبنى تحتيّة". ويعتبر العبّاس أن ما تشهده الساحة القصصيّة السعوديّة ليس صراع أجيال، بالمعنى الاصطلاحي، "يتمثّل اللبوس الفنّي والأداة التعبيريّة، بقدر ما هو اصرار كلّ جيل على معايشة لحظته والتعبير عنها بصدق، من خلال اللغة التي تلبّي بنية العلاقات الاجتماعيّة، وما ينعكس منها على بقيّة البنى على قاعدتي الزمان والمكان". القصّة النسائيّة القصيرة وتتناول فوزية محمد بريون "القصّة النسائيّة القصيرة"، رابطة ازدهارها بالتحولات التي عرفها المجتمعان العربي والسعودي. وتلاحظ أن البدايات الملعثمة إذ "أقبلت الكاتبات على القصة من دون ثقافة فنية أو دربة عمليّة، فجاء انتاجهنّ ضعيفاً يحمل فجاجة البداية. ومع ذلك فقد لاقى انتاجهنّ التشجيع الرسمي من النوادي الأدبيّة...". وبعد أن تستعرض بعض تجارب رائدات السبعيانات خيرية السقّاف، شريفة الشملان، نجاة خياط، فوزيّة البكر، حصّة التويجري، سلطانة السديري...، تقف مليّاً عند تجربتي مريم الغامدي وبدريّة البشر. ونستخلص من هذه القراءة ملامح عدّة لتجارب تأسيسيّة ترسّخت مع جيل الثمانينات والتسعينات : من الاحتفال البالغ بالمكان... إلى تمرّد المرأة على لعبة تقسيم الأدوار الاجتماعيّة. ويحفل العدد بقراءات نقديّة لمجوعات قصصيّة أو لقصص سعوديّة، نتعرّف من خلالها إلى ملامح من تجارب مختلفة، ولا يمكن إلا أن نقف معجبين أمام الرصانة الأكاديميّة في تناول الانتاج الأدبي، في زمن طغت عليه السطحيّة والسرعة والاختزال، تحت تأثير النقد الصحافي، أو النقد الانطباعي. هكذا تقرأ الدكتورة كلثم جبر المجموعة الرابعة لخليل ابراهيم الفزيع "بعض الظنّ"، ويخوض الدكتور أحمد السعدني في مجموعة أحمد اليوسف "أزمنة الحلم الزجاجي"، فيما يقدّم الدكتور حسين علي محمد تجربة القاص الشاب حسن النعمي، من خلال قصّة "هوامش في سيرة ليلى" التي سبق نشرها في مجلّة "الواحات المشمسة" نفسها. كما يدرس صالح ابراهيم الحسن دور الأسطورة في مجموعة إبراهيم الناصر العميدان "نجمتان... للمساء". ومن حلب في سوريّة يحاول خالد زغريت إلتقاط سمات لغويّة وجماليّة في القصّة السعوديّة الجديدة، انطلاقاً من "التباس الحياة في اللغة لتنسيق عالمها الداخلي، من دون ابتسار وقسر لما توفّره لها من تحرّر في العمق...". وهكذا يدرس في بحثه ابداعات محمد المنقري، عبدالله عبدالرحمن العتيق، أميمة خميس، نورا الغامدي، شريفة الشملان، فوزيّة جارالله، عبدالله المسفر. ونصل هنا إلى الدراسات المحوريّة التي ترصد موضوعاً محورياً أو ثيمة محدّدة في مجموعة من الأعمال القصصيّة. فنقرأ دراسة نقديّة تطبيقيّة لفؤاد نصرالدين حسين بعنوان "الجنون في القصّة السعوديّة". ويتجوّل الباحث في أرجاء الأدب السعودي متنقّلاً بين عبدالله الجفري، فهد العتيق، عبدالله العتيق، خليل إبراهيم الفزيع، جميلة فطاني، خالد اليوسف، حسن النعمي، ليلى الأحيدب وآخرين... سوسيولوجيا وقد يضيق المجال عن استعراض مختلف المقالات والأبحاث، ومختلف الباحثين والأدباء التي ترد مساهماتهم أو يشار إلى أعمالهم في "الواحات المشمسة"، لكن القاسم المشترك بين معظم الدراسات هو الهمّ النقدي والتحليلي والمعرفي الذي يتجاوز الاطار الأدبي الحصري إلى هموم ومشاغل سوسيولوجيّة وسيكولوجيّة وفكريّة وجماليّة متنوّعة. وهناك رصد كامل للمراجع والمؤلفات التي يتناولها كتّاب الملفّ. كما تتضمّن المجلّة في جزئها الأخير رصداً بيبليوغرافيبّاً دقيقاً لأحدث الاصدارات داخل المملكة وخارجها. ولا يجب أخيراً أن نغفل محتويات القسم الثاني من "الواحات..."، وهو مخصص للجانب الابداعي البحت. هكذا ننتقل من الهمّ النظري والتحليلي، إلى المتعة الأدبيّة الصرف، ونتمكّن من الاطلاع على شريحة متنوّعة الروافد، من الانتاج القصصي الراهن في السعوديّة : خالد عبدالرحمن العوض، عبدالحفيظ الشمري، شريفة الشملان، كلثم جبر، فراس عالم، ناصر الحجيلان، هناء حجازي، وفاء الطيب، أحمد زلط، حسين المناصرة، محمود عوض عبدالعال، نايف النوايسةحسين الحسن، نجلاء علام... ونأسف فقط لكون المجلّة لا تتضمّن تقديماً مقتضباً للكتّاب، خصوصاً أن بعضهم يخطو هنا خطواته الأدبيّة الأولى. "الواحات الأدبيّة" هي المرجع الأساسي لأي قارئ عربي يريد متابعة حركة القصّة السعوديّة. تحمل رسوم العدد الداخليّة توقيع فهد حجيلان، أما الاخراج الفنّي فهو لناصر الموسى، وقد تولّى المراجعة والتدقيق عبدالله عبدالعزيز الصالح. وللمجلّة مستشارا تحرير يعاونان محمد بن أحمد الشدّي: إبراهيم الناصر الحميدان وحسين علي حسن. أما مسؤول التحرير، فهو: خالد بن أحمد اليوسف.