تأتي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى الهند بعد ايام من زيارة ناجحة قام بها رئيس الوزراء الهندي أتال بيهاري فاجبايي الى الولاياتالمتحدة واسفرت عن تقارب بين واشنطنونيودلهي. وعلى رغم انهيار الاتحاد السوفياتي والمشاكل التي تعانيها روسيا حالياً، الا انها تبقى الحليف الاستراتيجي للهند. وورثت روسيا عن الاتحاد السوفياتي السابق إرثاً ضخماً من التعاون مع الهند. وأدركت أهمية هذه العلاقات مع الهند لما لها من موقع استراتيجي في المنطقة وكذلك لثقلها السياسي والاقتصادي. وبقيت الصداقة الحميمة مع الهند حجر الزاوية للسياسة الروسية في شبه القارة. وسعت موسكو عبر السنين الى تعزيز نفوذها في المنطقة للحد من نفوذ منافستيها الولاياتالمتحدةوالصين. ولم تستطع اي حكومة في موسكو تجاهل هذا الإرث السوفياتي خصوصاً في مجال التعاون العسكري، اذ ان الجيش الهندي ظل يعتمد في تسليحه على المعسكر الاشتراكي، فهي أكبر مشتر للاسلحة الروسية وآلاف الوظائف في الصناعات العسكرية الروسية تعتمد بشكل أساسي على طلبات المعدات والأسلحة من الهند، وهذه الصناعة العسكرية هي الصناعة الرئيسية التي بمقدور روسيا ان تنافس من خلالها بنجاح الولاياتالمتحدة والدول الغربية. بيد ان انهيار الاتحاد السوفياتي وتدهور الاقتصاد الروسي واعتماده كلياً على مساعدات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أدت الى انخفاض الانتاج بنسبة 40 في المئة، والى ارتفاع حاد في الاسعار وانخفضت العملة الروسية الروبل وزادت نسبة البطالة وأصبح اكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر، بينما 7 في المئة من الروس صاروا من أغنى السكان وبدأت هجرة الاموال الروسية خارج البلاد. هذه التطورات المتسارعة أثرت بشكل سلبي على مقدرة الجيش الهندي وفعاليته، وتسببت بوقوع نقص حاد في قطع الغيار ما أضر بشكل خاص بالقدرات العسكرية الجوية والبحرية الهندية التي تعتمد على السلاح الروسي. وأعطت هذه التطورات الهند درساً جديداً في الاعتماد على النفس وتنويع مصادر أسلحتها وتعزيز مصالحها القومية من دون الاعتماد على قوة عظمى واحدة. ومن هنا بدأت ببناء ترسانة عسكرية حديثة تعتبر آخر ما توصلت اليه التكنولوجيا العسكرية، خصوصاً السلاح الاسرائيلي والطائرات الحربية الفرنسية والمروحيات البريطانية وغيرها من الأسلحة المتطورة والمعدات الالكترونية واجهزة الرادار والتجسس. وشعرت روسيا بأنها بدأت تفقد احد الشركاء الرئيسيين واكبر زبون لمعداتها العسكرية. وجاءت زيارة الرئيس السابق بوريس يلتسن للهند في 1993 لتعيد المياه الى مجاريها الطبيعية، وبالتالي فإن زيارة بوتين للهند تعد فرصة للدولتين للتباحث في عدد من قضايا التعاون الاستراتيجي بعيداً عن علاقة بائع الكلاشنيكوف والزبون الطموح. فهناك العديد من القضايا المشتركة مثل: التعددية الثقافية والدينية والعرقية والمشاكل الحدودية والمجتمع الديموقراطي وقضايا الارهاب ومكافحة تجارة المخدرات وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، خصوصاً في حقول الالماس حيث تعد روسيا اكبر منتج لهذه المادة والهند أكبر معالج لها. وفي عالم أحادي القطب تجد الهندوروسيا أنهما في موقع واحد للبحث والسعي نحو عالم متعدد الأقطاب، والعمل على وضع استراتيجية مشتركة للتعاون في مواجهة الحزام الاسلامي الممتد من آسيا الوسطى الى افغانستانوباكستان، وكذلك فتح بوابة أسواق آسيا الوسطى أمام البضائع الهندية. وشهدت العلاقات التجارية المشتركة تدنياً ملحوظاً منذ 1994، اذ انخفض حجم التبادل التجاري من خمسة مليارات دولار الى 1.5 مليار دولار، حالياً، وان يكن حجم التبادل زاد منذ نيسان ابريل 1999 بنسبة 37 في المئة. واتجه التركيز خلال هذه الزيارة على تعزيز التعاون الاستراتيجي في مجال الابحاث والمشاريع التجارية المشتركة وتجديد اتفاق للتعاون الطويل الأمد في مجال العلوم والتكنولوجيا الذي وقع عليه البلدان في 1987، وينتهي أجله هذه السنة ويعد هذا البرنامج الأكبر من نوعه في العالم، اذ أدى الى انجاز اكثر من 300 مشروع للابحاث المشتركة. وترغب الهند في انتاج أقراص السليكون بمساعدة روسية لمخاوفها من الاعتماد على الغرب في تحقيق طموحها للريادة في عالم تكنولوجيا المعلومات. كما سيتم التوصل الى اتفاق نهائي حول صفقة دبابات ت - 90 المتطورة، وحاملة الطائرات "ادميرال غوزشكوف" وطائرات ميغ - 29/ك الحربية، وشراء غواصتين روسيتين، وتعزيز التعاون في مجال الطاقة النووية للاغراض السلمية على رغم معارضة الولاياتالمتحدة لنقل التكنولوجيا المزدوجة الاستخدام، لقناعتها بأن الهند ستستغلها لتقوية ترسانتها النووية وتقدمها ايضاً في مجال الفضاء، مما ينافس الهيمنة الاميركية. صفقات ومحاور ضد القطبية تجدر الإشارة الى ان الولاياتالمتحدة تطمح للاستثمار في سوق الطاقة النووية الهندية للأغراض السلمية والذي يقدر حجمه بحوالي 50 مليار دولار. وهناك ما لا يقل عن 16 اتفاقية بين الهندوروسيا سيتم التوقيع عليها خلال هذه الزيارة. وتبلغ قيمة الصفقات العسكرية ما بين 12 و16 مليار دولار. واعربت روسيا عن استعدادها لمساعدة الهند في بناء الطائرات الحربية المتطورة سوبر - جيت للقرن الحادي والعشرين. وهذا العرض يأتي ضمن خطة الاتفاق الطويل الأمد لنقل التكنولوجيا العسكرية الى الهند لمرحلة 2000 - 2010. واكدت مصادر روسية ان الخبراء العسكريين الهنود اكتسبوا الخبرة والتكنولوجيا في عملية بناء وتصنيع طائرة سوخوي 30 أم.ك.آي. وكانت الهند أبرمت صفقة لشراء 50 طائرة من طراز سوخوي - 30 من روسيا على مراحل، والطراز الأخير من الطائرة الحربية المتعددة الأدوار سوخوي 30 أم.ك.آي معزز بمحرك موجه ومعداتها الالكترونية معقدة. ويتم اجراء التجارب عليها حالياً في روسيا. وتوصل فريق من سوخوي وشركة "هندوستان ايرونوتيك" المحدودة لمنح الرخصة للهند لانتاج 140 طائرة من طراز سوخوي 30 أم.ك.آي. وسيتم تشكيل لجنة حكومية مشتركة للتعاون التقني العسكري برئاسة نائب رئيس الوزراء الروسي ايليا كليبانوف المسؤول عن الصناعة العسكرية وجورج فرنانديز وزير الدفاع الهندي. هذا وسيتباحث الطرفان بتفاصيل فتح طريق عبر الهند وايران وروسيا لدخول اسواق دول آسيا الوسطى. كما تسعى الهند للتأكيد على ضرورة زيادة شراء روسيا لمادتي الشاي والدخان من الهند. وتستورد روسيا سنوياً 50 ألف طن بما يعادل 150 مليون دولار لكنها انخفضت في الآونة الأخيرة. تعد روسيا شريكاً حيوياً للصين لضمان بقاء القوى العظمى في عالم متعدد الأقطاب بعيداً عن أحادية القطب الحالي. واستطاعت بكين شراء معدات عسكرية متطورة من موسكو عقب انهيار الاقتصاد الروسي. وتقيم حالياً مشاريع عسكرية ضخمة مشتركة زادت مخاوف الهند من معرفة غريمتها الصين لأسرارها العسكرية الروسية المنشأ. ومع نهاية الحرب الباردة انتهى صراع الايديولوجيات وأفرز النظام العالمي الجديد عدداً من السلبيات والايجابيات. ومن السلبيات ارتفاع حدة الصراعات العرقية والدينية والتطرف السياسي والشعوبية والقوى الانفصالية. والهندوالصينوروسيا من الدول المتضررة من هذه السلبيات. وكثر الحديث بين الخبراء ورجال السياسة في الآونة الأخيرة عن ضرورة تعزيز التعاون بين الدول الثلاث وتشكيل محور جديد لحماية مصالحها القومية، ومع ان هذه الدول قللت من احتمالات انشاء مثل هذا المحور، الا ان الهيمنة الاميركية على العالم وتوسع حلف الناتو شرقاً، وهو ما تعارضه موسكو، قد يدفع الدول الثلاث الى بناء تحالف لتحقيق استراتيجية على المدى البعيد، وان كانت الخلافات القائمة على المدى القريب بين الدول الثلاث في هذا الشأن. ويقول السفير الروسي المعتمد لدى الهند الكسندر ميخائيلوفيش كاداكين ان التعاون بين الدول الثلاث ليس تحالفاً جديداً موجهاً ضد أحد، وانما هو للتعاون المشترك بما فيه خدمة مصالح الدول المعنية وشعوبها. موسكو والاولويات الآسيوية واكد السفير ان دعم موسكولنيودلهي لم يتوقف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى حرب كارغيل العام الماضي في اقليم كشمير المتنازع عليه، اذ قدمت موسكو كل المساعدات العسكرية والمعدات للجانب الهندي. وعلى رغم محاولة موسكو الحفاظ على توازن في علاقتها بين الجارتين المتناحرتين الا انها تنظر الى الهند كحليف استراتيجي وزبون عسكري والى باكستان الاسلامية كدولة صديقة، وطرف عينيها ينظر بقلق الى دول آسيا الوسطى الاسلامية المستقلة، ومخاوفها من ان يهدد الامتداد الاسلامي في افغانستان والشيشان مصالح روسيا. نمت العلاقات الهندية - السوفياتية في منتصف الخمسينات وبدأت موسكو بتوسيع نفوذها ومصالحها في الستينات. وكان الدعم اللوجستي السوفياتي واضحاً خلال الحروب الهندية - الباكستانية 1971- 1975. وتحولت باكستان الى دولة مواجهة عقب الاجتياح السوفياتي لافغانستان، خصوصاً بعدما فضلت الميل الى جانب الولاياتالمتحدة مما أدى الى استياء وسخط شديدين لدى القادة الروس. وفي التسعينات انخفض اهتمام موسكو بدول جنوب آسيا ولم تعد تتصدر أولوياتها، لكن حرب الشيشان والوضع في افغانستانوباكستان قد يدفع بالهندوروسياوالولاياتالمتحدة للتباحث جدياً حول ذلك، لأن الدول الثلاث تعتبر افغانستانوباكستان مصدري قلق للأمن العالمي. علاقات موسكو الخارجية وزيارة مبعوث بوتين الى اسلام اباد لطمأنة باكستان والزيارة المرتقبة للرئيس الروسي الى باكستان تصب في معادلة المد والجزر والابتزاز للتوازن في علاقات موسكو الخارجية، خصوصاً ان التقارب الهندي - الاميركي أصبح أقوى بكثير من ان تتجاهله موسكووبكين. كما ان باكستان النووية قوة لا يستهان بها. ومن شأن هذه الخطوة الروسية ان تلقى استياء لدى نيودلهي التي تشن حملة ديبلوماسية لعزل باكستان دولياً، وستلقي بظلالها على النتائج المرتقبة لهذه الزيارة وحول قضية افغانستان. يقول اندر كومار غوجرال رئيس الوزراء الهندي السابق صاحب المذهب المعروف "بمذهب غوجرال" ان رئيسة الوزراء السابقة انديرا غاندي عارضت بشدة الغزو السوفياتي لافغانستان في اجتماع خاص مع اندريه غروميكو وبحضوره شخصياً، وحثت موسكو على الانسحاب الفوري، ومع ذلك فإن الهند لم تنتقد الغزو في المحافل الدولية. ومن هنا فإن المصالح الروسية - الهندية الاستراتيجية تتوافق حول باكستانوافغانستان، اذ ان الهند تتهم باكستان بدعم المقاتلين الكشميريين الذين يشنون حرباً انفصالية ضد القوات الهندية المرابطة في الاقليم. وتعتبر باكستانوافغانستان مصدراً للجهاد الاسلامي في كشمير. وبدورها تتهم موسكواسلام اباد وحكومة "حركة طالبان" بدعم وتدريب المسلحين الشيشان. وهددت اكثر من مرة بشن هجمات عسكرية في العمق الافغاني. كما ان تجارة المخدرات من افغانستان تعد احدى القضايا التي استحوذت على اهتمام المجتمع الدولي في محاربة تجاربة المخدرات. وتعتبر افغانستان الممول الرئيسي ل70 في المئة من اجمالي انتاج الأفيون في الاسواق العالمية. ومع ذلك ظهر في الآونة الأخيرة موقف أكثر ليونة من موسكو تجاه حركة "طالبان" والجنرال مشرف، لقناعة صانعي القرار في موسكو بأن الانخراط في حوار مع الجارتين الاسلاميتين من شأنه ان يخفف حدة التوتر في القوقاز، وان كان الموقف الهندي على عكس ذلك. وسيحاول القادة والمسؤولون الهنود اقناع الرئيس بوتين بموقفهم تجاه اسلام اباد وكابول، وبأن باكستان "ترعى الارهاب" ولا بد من التعاون بين الهندوروسياوالولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي لمواجهة "الحزام الاسلامي". لكن الهند تتجاهل سياسة الأمر الواقع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة والنظام العالمي الجديد حيث تتحكم المصالح الاقتصادية بالأهداف السياسية، وان باكستان وكذلك افغانستان لم تفقدا اهميتهما الجغرافية الاستراتيجية لتحقيق مثل هذه الطموحات في انشاء أنابيب للنفط والغاز الطبيعي من دول آسيا الوسطى الى اسواق جنوب وجنوب شرقي آسيا. معاهدة الحظر الشامل وعلى رغم التحفظات الاميركية على قيام روسيا ببيع مفاعلات نووية للهند ونقل تكنولوجيا تتعلق ببرنامج الهند الفضائي، فإن ذلك لم يمنع موسكو من تزويد نيودلهي بالخبرة في هذا المضمار. وعلى رغم الغاء صفقة المفاعلات النووية الروسية بعد الضغوط الاميركية الا ان روسيا زودت الهند بغواصات نووية حديثة. وتدرك نيودلهي ان مواقف موسكو الحالية اكثر عرضة للضغوط الخارجية طالما ان اعتمادها الكلي على مساعدات المؤسسات المالية الدولية. وكان واضحاً في موقف موسكو الأكثر ميلاً لدول النادي النووي الخمس ومطالبة دول المجموعة الصناعية الهند بالتوقيع على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. ويقول السفير الروسي الكسندر ميخائيلوفيش كاداكين ان موسكو ترحب بمصادقة نيودلهي على المعاهدة، لكنها لن تمارس أي ضغوط عليها لأجل ذلك. ومن المعروف ان الهندوباكستان واسرائيل لم توقع على المعاهدة حتى الآن. ويذكر ان موسكو لم تفرض عقوبات اقتصادية على الهند عقب قيامها بتجاربها النووية في 1998. وتعتبر موسكو ان توسيع حلف الناتو شرقاً يمثل خطراً على أمنها القومي، وهي تعارضه بشدة. صحيح ان روسيا ورثت إرثاً ضخماً من العلاقات السوفياتية - الهندية القديمة والحميمة، وهذه الصداقة هي حجر الزاوية للسياسة الروسية في شبه القارة. إلا ان بوتين ليس خروتشوف أو برجينيف. والمعادلة غير متكافئة بين روسيا الدولة العظمى المنهارة التي تحاول استعادة عافيتها، اقليمياً على الأقل، والهند القوة العظمى الناهضة التي تريد لنفسها دوراً دولياً واقليمياً. ولكن استراتيجياً وعلى المدى الطويل اذا اجتمع الدب الروسي والفيل الهندي وانضم اليهما التنين الصيني، فإن من شأن ذلك ان يهز عرش النمر الاميركي.