على مسافة 13 كيلومتراً جنوبالقدس العربيّة، هناك بلدة فلسطينيّة صغيرة اسمها بيت جالا... بلدة عاديّة لم يكن ليسمع بها أحد لولا العنف غير العقلاني الذي انهال عليها في الأيّام القليلة الماضية... ولا شكّ في أن أهل بيت جالا كانوا بغنى عن هذه الشهرة، كما كانوا بغنى عن جيرة سكّان مستوطنة جيلو المواجهة، بعنفهم وعدائيّتهم وعنصريّتهم وغطرستهم وممارساتهم الاستفزازيّة. وإذا كان كل مشاهدي التلفزيون في العالم يعرفون اليوم بيت جالا، فذلك لأنّهم تفرّجوا طوال الأيّام الماضية على مشهد القذائف تتساقط على البلدة، زارعةً الرعب والموت. هذا الصور دارت حول العالم، وتسابقت على بثّها محطّات التلفزيون : مصابيح متراصة تضيء ليل فلسطين، وتحمل معها الموت، مشهد يليق بفيلم شهير للأميركي فرانسيس فورد كوبولا. "الرؤيا الآن"، لا في الفيتنام كما لدى صاحب "العرّاب"، بل في فلسطين، حيث يقف شعب بأسره مطالباً بحقّه، معبّراً عن غضبه بأسلحة وأدوات بدائيّة، وفي مواجهته جيش احتلال متطوّر مدجج بالأسلحة والآليّات والجنود، أما هذا الاختلال الفظيع في موازين القوى، فيبدو لكثيرين أمراً في منتهى الطبيعيّة : مجرّد صراع بين طرفين "متكافئين" يتقاسمان مسؤوليّة الأحداث الدامية! بات الناس يعرفون "بيت جالا". لكن ما لا يعرفه الناس، أن فيها مسرحاً يقاوم. فقد تعرّفنا عن كثب إلى هذه البلدة الفلسطينيّة وأهلها، من خلال فرقتها المسرحيّة، حين التقينا قبل سنوات سيّدة شابة في منتهى الشفافيّة، لا تقلّل رقّتها من حدّة تلك النظرة المصمّمة، ولا يخفي الهدوء الظاهري الذي تتحلّى به حمم البركان المعتملة في أعماقها. كان ذلك في "أيّام عمّان المسرحيّة"، أما الفنّانة الفلسطينيّة المذكورة فهي رائدة غزالة. وقد اختارت لمسرحها اسماً معبّراً هو "عناد". كانت رائدة دائماً منشغلة في النقاشات، ولم تكن تترك ورشة عمل أو محترف من تلك التي يديرها محترفون من المسرح العالمي خلال "أيّام عمّان..." إلا وتشارك فيها. وفي أوقات استراحتها كانت تروي لنا تجربتها في فلسطين، كامرأة وكانسان وكممثّلة ومخرجة مسرحيّة. وقبل أشهر حين دعاها مسرح "رويال كورت" اللندني العريق لتقديم تجربتها، والمشاركة في مناقشات وقراءة نصوص، اكتشف الجمهور الأوروبي تلك الفنّانة الفلسطينية، صاحبة الموهبة الأكيدة والنضج المشاكس. هذه الأيّام يستلم أصدقاء "مسرح عناد" في العالم أجمع، ممن نسجت معهم رائدة غزالة ورفاقها مارينا ابراهم... علاقات حوار وتفاعل وشراكة، يستلمون رسائل إلكترونيّة عبر الانترنت، من البلدة المحاصرة التي انهال عليها الجيش الاسرائيلي بنيران حقده، وقصفها بمدفعيّته ودبّاباته. هكذا توصل جماعة "عناد" أخبارها وأخبار بيت جالا وأهلها إلى العالم : "نحن بخير، لكنّ مبنى المسرح قصف، وخبأت الأم التي تسكن الدور الثالث أطفالها في دولاب الأحذية فنجوا من الموت بأعجوبة... فيما أصيبت الأم بصدمة، وأغمي عليها ونقلت إلى المستشفى". "نحن محاصرون، لا نستطيع مغادة بيت جالا، ولا يستطيع أحد الدخول إليها. جاءتنا تلفزيونات من العالم أجمع، فحاولنا أن نروي لهم مأساتنا". "القذائف والعيارات الناريّة تأتي من جيلو، لكنّنا نقسم أن طلقة واحدة لم تخرج من بين جالا"... وأيضاً: "اكتبوا إلى حكوماتكم ورؤسائكم كي يتدخّلوا لايقاف هذه المذبحة".