من بين مئات الرسائل والعرائض والبيانات المتعلقة بالانتفاضة، التي يتلقاها بصورة متواصلة بريدي الالكتروني، حطتْ أمامي على الشاشة، كعصفور مذعور، رسالة من بيت جالا، وهي بلدة صغيرة تلاصق القدس. كانت أحرف الرسالة تخرج من تحت القصف الذي تواصل على البلدة طوال الليل: "مبنى مسرح العناد يُقصف، لا نعرف بعد مدى الإصابة لكن الناس القاطنين حوله يهربون من منازلهم. وما زال القصف مستمراً. وهذه الرسالة لإخباركم ان اعضاء فرقة مسرح العناد لم يقض عليهم القصف السابق يوم العشرين من تشرين الأول اكتوبر. والليلة ايضاً، وفي هذه اللحظة، تقصف بيت جالا من مستعمرة جيلو". تخيلت كاتب/ كاتبة الرسالة شابة في السنوات الأخيرة من الدراسة الثانوية، مليئة مرحاً وحيوية وحباً للحياة، متوسطة الجمال، ترتدي جينزاً وقميصاً واسعاً وحذاء رياضة. وتخيلتها عنيدة كمسرحها. يا الله! مسرح في بيت جالا! له مبنى دائم وهو يحتل صرة الكون، يُقصف وينجو وقد يُصاب... ثم تقول الرسالة: "نعرف ان أكثركم يفكر بنا هنا في فلسطين، لكن ذلك ليس كافياً"، فتأمرنا الفتاة - هل كانت فتاة؟ - بأن نوجه رسائل احتجاج الى حكوماتنا والى الأمين العام للامم المتحدة. مذّاك خشيتُ عليها هي بالذات، وعلى سائر اعضاء الفرقة المسرحية الذين نجوا في المرة الماضية، والذين لم أعرف مصيرهم هذه المرة. أرسلت أرجوها ان تطمئنني الى أخبارهم صبيحة كل يوم، كما يفعل المرء منا إزاء عزيز غائب. ورحت أخاف الخبر السوء! بعدها بعثتُ رسالتها الصغيرة المتوترة الى من أعرف من المسرحيين، عسى تضامنهم مع "مسرح العناد" في بيت جالا يقيه الشرور، عساه يدفّئ قلب هؤلاء الشبان. وقد حضرت، بسرعة البرق قافزة فوق عشرين عاماً، تلك الأحاسيس التي خلناها اندثرت، حين كنا نتلقى القصف على رؤوسنا، فيما يحيط بنا الحصار، فترتعش نفوسنا كلما جاءنا صحافي أجنبي أو اتصلت بنا احدى الاذاعات الخارجية أو أبدى ممثل بلد أو حتى جمعية التضامن معنا وأعرب عن قلقه علينا. كانت طاقتنا على الاحتمال تقوى وتزداد لأننا كنا نرى عبرهم الأمل. ولا يعرف معنى تلك الوحشة المتولدة عن الاحساس بالتخلي الا من تعرض للحصار والقصف. هذا للقول ان الانفعال العاطفي ليس هباء منثوراً وان تكرار وتصعيد علامات التعاطف مع الشعب الفلسطيني له أهمية سياسية وعملانية اكيدة وأن ما قامت به الفضائيات العربية من مبادرات، وأن أوبريت "القدس حترجع لنا" التي نفذها على عجل كبار فناني مصر، هي أسلحة بمضاء سواها، عدا عن كونها تعيد التربية بعد انقطاع. لكن، وكما تقول رسالة الصبية، ذلك لا يكفي، كما لم تعد تكفي تلك المظاهرات التي نكرر تنظيمها لنصرخ غضبنا، وربما عجزنا عن سوى ذلك. يكشف وصول المشروع الصهيوني الى مأزق تأزم خياراته كافة، كل نواقصنا نحن ضحاياه من فلسطينيين وعرب. فقد باغتنا هذا الانعطاف في التاريخ، اذ كنا ألفنا، بفضل اعتياد بليد، ملامح المرحلة السابقة، التي سادت فيها نظريات ليبرالية فجة وبدائية، تستخف بقيمة وقوة الثقافة وتنكر وجود حيز فاعل للتصورات حول الحقوق ولقدرة فعل الانتماءات. نظريات صبت جهدها في البرهنة على الأولوية المطلقة لمنطق السوق وان عقلانية مجردة ستدفع باسرائيل الى خيارات تسمح لها بالاندماج بالمنطقة حتى لا يقال بالسيطرة عليها. ولكن أي جاذبية في ذلك؟ هكذا انصرف الناس الى شؤونهم الصغيرة، الى تدبر حياتهم، وكان اكثرهم عناداً أولئك الذين وضعوا لأنفسهم حدوداً ذاتية. مجموعة قيم في المسلك الشخصي، يتمسكون بها، فيما الرهط يقول مشفقاً: يا للحالمين الاغبياء! لعل أولى المهمات اليوم هي ادراك اللحظة. ادراك ان مرحلة انتهت وان مرحلة جديدة تبدأ، تماماً كما كانت هزيمة 67 انعطافاً وظهور العمل الفدائي انعطافاً واجتياح لبنان عام 82 انعطافاً وحرب الخليج ومدريد وأوسلو آخر انعطاف عرفناه. بل لعل هذا الذي نعيشه اليوم، أخطر من تلك كلها، بمعنى انه أشد دلالة من الناحية التاريخية. ليست الأزمة الحالية مجرد استعصاء في المسيرة السلمية، كذلك لا يؤدي هذا بالتأكيد الى افتراضات من نوع انفجار وتعمم الثورة غداً. لعل اللحظة تشبه في أهميتها الانعطافة الأولى لهذا التاريخ المتلاحق، أي نكبة 1948، أو لعلها وصول نكبة 48 الى مآلها. ليس هذا الكلام شعراً. لقد أعادت ترتيبات العملية السلمية الصراع الى أرض فلسطين أو فوق أرض فلسطين، وهذا أهم ما نتج عنها. ثم ان مسائل من قبيل نشوء دولة فلسطينية - ما كان مشروع التقسيم ينص عليه - أصبحت قاب قوسين أو أدنى، كما أصبحت مسائل من قبيل عودة اللاجئين - حقهم المبدئي والمطلق في العودة وهي فكرة لا تقل أهمية عن ترتيبات العودة نفسها - مطروحة بديهياً مهما حاولت اسرائيل المراوغة. بل ان المطروح اليوم على النقاش الفعلي هو طبيعة اسرائيل نفسها وطبيعة المشروع الصهيوني: هل تستطيع اسرائيل العيش كمعسكر امامي دائم الاستنفار؟ هل تستطيع العيش كقوة عنصرية غاشمة تمارس قمعاً مستديماً والقتل العاري عند أدنى نأمة، تمارس التمييز اليومي في تفاصيل الحياة؟ ها أن شعاراً قديماً يقول بدولة ديموقراطية يعود الى لتداول، وفي ذلك كله اعادة استكشاف ما هو ملائم اخلاقياً وتاريخياً، اي ما هو قابل للديمومة والحياة. إدراك اللحظة اذاً أولى المهمات. وهو يتطلب استعادة أو توليد حيوية فكرية تستمع الى الواقع، وتتأثر بتشابكاته، متحررة قدر الإمكان من المسبقات والقوالب الجاهزة، تستجيب للتوقع الشغوف للناس، قادرة على تحريك واستقطاب اهتمامهم. ثم إدراك وتحسس النواقص. فإذا كان الانفعال العاطفي ضرورياً وانما غير كافٍ، فإن الاستجابة السريعة للظروف ضرورية لكنها هي الأخرى ليست كافية أبداً. وبهذا الصدد، يمكن تلمس ثلاثة جوانب أظهرت المواجهات الحالية إلحاحها الشديد، وهي تتولد الواحدة من الأخرى. أولها الحاجة الى انطلاق المبادرة الشخصية والجماعية في كل الميادين. فلإننا نعيش في ظل أنظمة فقدت منذ زمن ليس بقصير مرتكزات شرعيتها وباتت موجودة بحكم قوة الاستمرار وبالاستناد الى مزيج من القمع وتعميم الفساد وقوة الاحباط الناجم عن الهزائم والخيبات المتكررة، فقد تغلغل في عقولنا ونفوسنا تصور عن ثبات الاحوال واستسلام بائس للاسوأ واقتناع عميق بلا جدوى كل شيء. ولعل بدء تغير هذه الحال المدمرة يكون بتأسيس مبادرات بإمكانات قليلة، لكن بأهداف محددة، قد تكون متواضعة، إلا انها تمتاز بالاستمرار والفعالية، وهما الميزتان اللتان تنقصان الفعل العربي، الرسمي منه - وهذا قد يكون مفهوماً - والخاص، الذي لم يعد منذ زمن مؤمناً بنفسه. ما الذي يمنع انقلابات بيضاء في المؤسسات العفنة الرتيبة للسياسة والثقافة في بلادنا. ما الذي يمنع المبادرات الشخصية والجماعية من الانطلاق في كل مكان، فتموت حالة الاتكال على السلطات التي عززتها وقامت بتغذيتها مختلف الأنظمة، تحت ألف حجة وبألف أسلوب فقتلت الروح فينا وخلطت المقاييس وأعدمت المحاسبة؟ ثاني الجوانب، اعادة الاعتبار الى شبكات التضامن مع فلسطين، أو اعادة تأسيس مثل هذه الشبكات، بسرعة وفاعلية، لمواجهة الحاجات المتعلقة بالنواحي الاعلامية والتعبوية والتمثيلية، والتي ربما اختص بعضها ايضاً بكافة اشكال الدعم العملاني واللوجستي. وأخيرها سؤال يتعلق بالبنية المركزية القادرة على الاستفادة من النقطتين السالفتين. فالجميع يعلم ان مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية قد أ ضافت الى أمراض تجربة الشتات، أمراضاً خاصة بقصر النظر السائد في ما يخص "عملية السلام" التي اطلقتها مدريد وأوسلو. واذا كان التساؤل حول اعطاب هذه المؤسسات مشروعاً تماماً، فقد تكون قسوة الظروف الحالية وما هو متوقع في المدى المنظور، فرصة لتسهيل انطلاق عملية الاصلاح الهائل المطلوب. الا أنه يمكن فوراً وبيسر نسبي تجنب تكرار بعض أخطاء الماضي القاتلة. ولعله يمكن البدء بتفصيل بسيط. فيا للفارق بين أجساد الفتية شبه العراة، يلقون الحجارة في عملية كرّ وفرّ لا متناهية، وتلك العراضات المسلحة لشباب يدعون اخفاء وجوههم - تستراً امنياً ام توّهم سلطة للغموض؟ - يحملون أسلحتهم الرشاشة بتباهٍ مُنفّر، يطلقون الرصاص في الهواء بينما هم على أرض الاحتلال! ملعونة كل رصاصة تطلق في الهواء، فهي لا تفعل غير تعزيز الاحتلال. هؤلاء ليسوا هم مثال أقرانهم من الشباب العرب في مختلف أصقاع العالم، هؤلاء كالخارجين من كابوس الماضي البغيض الذي مسه العجز بالتفاخر الفارغ، كلاماً وسلوكاً أجوف، فيما كلمة السر، تلك التي يتلهف اليها، من مسقط وحتى موريتانيا أبناء هذا الشعور العارم بالرغبة في المساهمة في الأحداث، أبناء هذا الشعور العارم بالحجة الى المبادرة والابتكار، كلمة السر هي ببساطة: الفعالية.