بعد أيام قليلة على الانكفاء الإسرائيلي من الشريط الحدودي في الجنوب، قال الأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصر الله في معرض إجابته عن دور تنظيمه وموقعه في المرحلة المقبلة، "لقد صرنا أكبر، حزباً أكبر من الوطن، وأكبر من الطائفة". يومها خيل لبعض متتبعي سيرة هذا الحزب السياسية والعسكرية، أن الرجل أخذته نشوة النصر الذي حققه حزبه من خلال تحرير الجنوب بعد 22 عاماً على احتلاله الى المدى الأقصى، خصوصاً أن ثمة من بدأ يعتقد بأن انتهاء دور سلاح المقاومة بزوال الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب، يعني انتهاء دور الرافعة التي دفعت بهذا الحزب الى الواجهة وجعلته في موقع "النجومية" وفي مقدم القوى والأحزاب في لبنان والعالم العربي عموما، وأن تطور اركان البندقية المقاومة سيفضي عاجلاً أم آجلاً الى نكوص هذا الحزب، الذي برع في استخدامها طوال نحو 18 عاماً، الى متاهات اللعبة السياسية اللبنانية ودهاليزها مع ما يعني ذلك من انشغال بتقاسم الحصص والمواقع والأدوار داخل الطائفة الشيعية، وأخذ أداء الحزب في معركة الانتخابات النيابية الأخيرة، وتحالفاته غير المبنية على قواعد ثابتة وشفافة، جزءاً من البريق السياسي الذي تجمع حول هذا الحزب بعد التحرير مباشرة. وطوال الأشهر الخمسة التي انقضت بعد تحرير الجنوب انصرفت قواعد الحزب الى محاولة رسم إجابة على سؤال: "ما العمل" بعد التحرير، وأي خط سينتهجه الحزب مستقبلاً في ظل الساحة اللبنانية التي تعج بالتناقضات وثقلها الأزمات؟ واستتباعاً أين هو موقعه؟ أفي صف الموالاة حيث مد جسور علاقات وثقى مع العهد وسيده؟ أم في ساحة المعارضة حيث منبته ونشأته وعلة وجوده بالأصل. ويؤكد قياديون من الحزب أن الرد على هذه التساؤلات والهواجس أخذت حيزاً واسعاً من المناقشة لا سيما أن الحزب كان مطالباً من جمهوره ومن اللبنانيين عموماً بتحديد صورته وهويته الجديدة المميزة بعدما فقد الصورة التي عرف بها منذ انطلاقته العلنية العام 1983 وهي صورة المنصرف بكليته الى مقاومة الاحتلال، والقليل من الاهتمام بما عداها لأن لها عنده الأولوية المطلقة في نهجه وإيديولوجيته، ولها المكانة الرفيعة في عمل كوادره وعناصره، حتى أن الجسم المقاوم في الحزب امتلك الكلمة الفصل داخل الحزب، حتى كاد يهيمن عليه، وزاد في صعوبة وضع الحزب بعد التحرير أن إيران راعيته الأولى وسورية حاضنته فرضتا عليه نوعاً من التصالح الكلي مع منافسه الأساسي في الساحة الشيعية حركة "أمل"، إذ أجبر من خلال اتفاق تم التوصل إليه في مقر السفارة الإيرانية في بيروت وبإشراف وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي على الإقرار ضمناً بتثبيت زعامة الرئيس نبيه بري، وبالقبول بالسير في ركابه سياسياً. في ظل هذه الأجواء والمناخات التي شكلت مجتمعة مؤشرات على أن هذا الحزب الذي عرف بانطلاقة متمردة لا تعترف بما هو قائم كلياً، يدجن ويفرض عليه الانخراط في معادلات سياسية داخلية لا تتناسب وحجم حضوره ولا تتلاءم مع دوره النضالي والجهادي، جاءت الانتفاضة في فلسطينالمحتلة لتشكل عامل إنقاذ وتعيد الحزب الى الواجهة وإلى موقع النجومية، سياسياً وعسكرياً. في ذروة الانتفاضة، وفي قمة التعاطف العربي غير المحدود معها، وفي لحظة دخول القيادة الإسرائيلية في عنق الزجاجة، وفي قاع الأزمة يتمكن "حزب الله" من اختطاف ثلاثة من الجنود الإسرائيليين من مزارع شبعا، الأرض اللبنانية المتنازع عليها، ويضفي على العملية مسحة بطولية، إذ يعلن أن عملية الخطف لم تتجاوز الثلاث دقائق وأن الإسرائيليين لم يكتشفوها إلا بعد نحو 35 دقيقة، وبعد ساعات يصير الحزب قبلة أنظار الوسطاء الدوليين المتنوعي الانتماءات، وتشهد دروب الضاحية الجنوبية الضيقة والمكتظة وصول الموفدين إليها في طريقهم الى مقر شورى الحزب وأمانته العامة، وتتحدث مصادر الحزب عن طموحه لمبادلة لا يكون ثمنها أقل من 1600 أسير لبنانوفلسطيني وسوري وأردني في السجون الإسرائيلية، ويطلب السيد نصر الله ثمناً للإفصاح عن وضع الجنود الإسرائيليين المختطفين إطلاق دفعة أولى من هؤلاء الأسرى. ويصير المشهد أكثر دراماتيكية عندما يعلن نصر الله امام جمع من المثقفين والسياسيين العرب تعدى عددهم ال130 شخصاً كانوا مجتمعين في فندق "الكارلتون" في بيروت في إطار المؤتمر القومي العربي - الإسلامي، عن تمكن الحزب من أسر ضابط مخابرات إسرائيلي برتبة عقيد، وترك إسرائيل في حيرة من أمرها عندما رفض البوح بأية معلومة عن شخصية هذا الضابط وعن سبل القبض عليه، وكأنه أراد الدخول في لعبة الأحاجي والألغاز مع الإسرائيليين الذين صدمهم النبأ. وبين التكهنات والأقاويل عن أن عملية أسره تمت خارج لبنان، أعلن نصر الله في اليوم التالي أن هذا الضابط استدرج الى بيروت واعتقل فيها بعدما اعترف بهويته، كما أعلن نصر الله ان هذا الرجل هو من ضمن صفقة المبادلة التي ينتظر الحزب أفضل العروض لإتمامها. وفي غضون ذلك سرت معلومات امنية في بيروت مفادها أن زوجة الضابط الإسرائيلي المعتقل دخلت الى بيروت أيضاً بجواز سفر اميركي، وأنها نزلت في أحد فنادق العاصمة اللبنانية، ولكنها اختفت، فبدأت الأجهزة الأمنية حملة للبحث عنها. وسواء صحت رواية "حزب الله" عن طريقة اعتقال هذا الضابط، أم أن الأمر تم في الخارج بدعم من مخابرات دول اخرى بينها ايران، وفق الرواية الإسرائيلية، فإن قياديين من الحزب يجزمون أنهم نجحوا من خلال عمليتي خطف الجنود الثلاثة ثم أسر الضابط في الوصول الى أهداف عدة أبرزها: - توجيه ضربات موجعة لمؤسسة الجيش الإسرائيلي بفرعيها العسكري والأمني. - تقديم دعم معنوي لانتفاضة الشعب الفلسطيني من خلال إظهار صورة ضعف الآلية العسكرية الصهيونية، والقدرة على اختراقها وإلحاق الأذى بها. - تأكيد الالتزام بالعهد الذي أطلقه الحزب وأمينه العام قبل التحرير مباشرة وبعده بأن المقاومة لن تلقي سلاحها ولن تستكين ما دامت السلطة اللبنانية تعلن أن التحرير لم يكتمل وأن ثمة أرضاً لبنانية ما برحت في قبضة اليد الإسرائيلية، وما دامت إسرائيل تحتفظ بمعتقلين لبنانيين 19 معتقلاً في سجونها. تلك هي باختصار العناوين العريضة التي يقول قياديو الحزب علانية أنهم شاؤوها لحظة قرروا الدخول مجدداً في مواجهات مع إسرائيل وفتح أبواب الصراع العسكري الأمني معها. غير أن الدخول في مناقشة أعمق مع قياديي الحزب وكوادره وفي ضوء قراءة لسيرة هذا التنظيم الذي بدأ يعود في الآونة الأخيرة تدريجاً الى باطنية النشأة الأولى، تظهر أنه رسم مرامي أكثر بعداً، جوهرها العريض، مقاربة أكثر للوضع الإقليمي، والذهاب الى مسافات أبعد من عمق الصراع العربي - الإسرائيلي تتخطى الى حد ما الحدود اللبنانية المألوفة لهذا الصراع ويترافق ذلك مع حديث ما زال هامساً عن عودة إيرانية متجددة الى صلب القضية الفلسطينية، غيبها الى حد كبير تناقضات إيران نفسها، التي أوجبت في مرحلة غير بعيدة تقليصاً للحضور الإيراني في قضايا الخارج ومنها قضية فلسطين. وتحديداً ماذا في عقلية الحزب الباطنية حيال هذا الأمر كله؟ المعلومات تشير الى أن الحزب يريد المحافظة على الصورة الزاهية التي كونها عن نفسه في الوجدان العربي إبان أعوام مقارعته الآلة العسكرية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، ولا يريد تبديدها سريعاً في متاهات اللعبة اللبنانية الداخلية. ولم يعد خافياً أن السبيل الذي يكاد يكون وحيداً لذلك هو الولوج بعيداً في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي يراهن الحزب في نقاشاته وأدبياته على أنه طويل ومعقد ولن تنهيه التسويات التي جرت أو تلك التي تعد. من هذه القناعة التي تتملك الحزب حالياً، كان ذلك التغير النوعي في علاقة الحزب مع حركة "فتح" بزعامة ياسر عرفات والخروج من دائرة علاقاته مع حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، والفصائل الأخرى المعارضة. وحسب المعلومات فإن ثمة نقاشات عبر وسطاء لبلورة هذه العلاقة المستجدة والتي كان يرميها الحزب في السابق بالجرم، انطلاقاً من طروحاته ل"تخوين" عرفات لتفريطه بحقوق شعبه. وحسب المعلومات نفسها فإن قنوات التواصل المستجدة بين الحزب "وفتح" تتم مع قيادة التنظيم الفلسطيني في الأراضي المحتلة وليس مع قياديي "فتح" في لبنان. إلى ماذا تفضي هذه العلاقة المحدثة؟ في المرحلة الأولى الى كسر الجليد والدخول في حوارات تمهيداً لبلورة شكل من أشكال التعاون خصوصاً أن الاتصالات تتم مع جزء من قيادة "فتح" لا يشك الحزب بنقاوتها ووطنيتها واندفاعها، ولا يشك أولاً أن حضورها طاغ ومتجذر في الوسط الفلسطيني. أما المراحل الأكثر تقدماً مع القيادة الفلسطينية فما زالت موضع بحث. هل يتطور الأمر الى حدود الدعم الميداني؟ الأمر لم يعد صعباً ما دامت وثيقة الحزب الأولى التي صدرت عام 1986 تحدثت صراحة عن أن تحرير القدس قضية مركزية عند الحزب لا تقل أهمية عن تحرير الجنوب. وفي المحصلة يسعى الحزب لدور إقليمي أكبر، ما دامت أبواب الصراع مع إسرائيل مفتوحة في الجنوب، حيث للحزب قوة بشرية مقاومة ذات خبرة ونحو ألف منصة صاروخ كاتيوشا معدل بإمكانها أن تصيب صفد وأطراف حيفا. وما دام الحزب يقبض على أعناق أربعة عسكريين إسرائيلين يعرف تماماً أن قيمتهم حالياً تعادل عند قادة تل أبيب 400 جندي. والحزب في غضون ذلك لا يزال يراهن على أن باراك ليس الآن في وضع يسمح له بتوجيه ضربة الى لبنان، وهو يؤكد أنه حتى لو حصل فلكل فعل ردة فعل محسوبة بدقة، والسلاح المألوف صار أكثر فاعلية بعدما صارت منطقة الجليل الأعلى في مرماه