سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فاوست المصري يواجه فويتسك البحريني والسيرة الهلالية تلامس الكلاسيكية . مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الحادية عشرة : ذاكرة مثخنة بالجراح ، وعالم سفلي مسكون بالخيبات والهزائم
على عادتها كلّ عام شرّعت القاهرة أبوابها لضيوف المسرح العربي والعالمي، وسلّطت الضوء في مهرجانها التجريبي على مجموعة من الأعمال والأسماء المصريّة والعربيّة المميّزة. "الوسط" حضرت هذه التظاهرة الدوليّة، ودخلت دوّامة التجريب، وعادت ببعض الانطباعات والملاحظات. "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" أشبه بأدغال أمازونيّة، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. وليس في هذه النظرة أي بعد سلبي على الاطلاق، بل محاولة للتعبير عن حالة الدوار الدائم والزوغان المتواصل، التي تستبدّ بكلّ من يقترب من تلك التظاهرة الحيويّة. مع العلم أن الدورة الحادية عشرة التي أسدل عليها الستار أخيراً ليست من أفضل دورات هذه التظاهرة العريقة التي يشرف عليها فوزي فهمي، والتي صارت محطّة أساسيّة، عربياً وعالميّاً، بفضل حفنة من القيّمين على المشروع، العاملين بصمت في الكواليس، بعيداً عن أضواء الشهرة واغراءات الرواج. ما ان تطأ قدمك أحد أماكن المهرجان، من مسارح وباحات فنادق وقاعات ندوات المركز الجديد للمجلس الأعلى للثقافة، حتّى تجد نفسك عنوة داخل الدوامة. الأسئلة والنقاشات، المواقف المتعاطفة أو الراديكاليّة في انتقادها، فنّانون من جهات العالم الأربع يأتون حاملين تجاربهم واضافاتهم، يوزّعون على الجمهور النهم المتعطّش جرعات من الدهشة أو الخيبة... وتدور طاحونة الكلام. فهنا التقت، بعد غياب، رموز من شتّى الأقطار، للوقوف على أوضاع المسرح العربي وهو للأسف ليس في أفضل حالاته مطلع القرن الجديد. نقاد ومخرجون وممثلون من شتّى الأجيال، وأسماء شابة تشقّ طريقها على الساحة العربيّة للمرّة الأولى، معتبرة أن المرور في القاهرة هو أولى خطوات النجاح والتكريس. ودوّامة التجريبي مردّها أيضاً إلى كثرة المشاركين، وكثرة العروض... فحين تقرأ عنواناً لمسرحيّة وقربها اسم الدولة فقط مصر مثلاً، تبدأ رحلتك الشاقة للسؤال عن اسم المخرج والمؤلّف والممثلين، عن مكانة الفرقة على الخريطة المسرحيّة، وعن أهميّة التجربة قياساً إلى ركام التجارب الأخرى. في القاهرة عليك أن تعرف كيف تحصل على المعلومات الثمينة وتختار بسرعة، كيف تشمّ الرائحة في الوقت المناسب... وتحزم أمرك قبل فوات الأوان: قبل أن يفوتك العرض الأهمّ وأنت لم تسمع به، أو تمتلئ القاعة بالمشاهدين المتدافعين، وتبقى أنت في الخارج مع الجمهور الغاضب الذي سرعان ما تتصاعد حدّة توتّره وصراخه. حدث ذلك هذا العام في وكالة الغوري حيث كان التونسي عز الدين غنّون يعرض "حبّ في الخريف"، وحدث ذلك - ككلّ عام! - عند أبواب القاعة الصغيرة التي يعرض فيها انتصار عبد الفتّاح طقسه الاحتفالي. والطقوسيّة أصبحت في القاهرة أكثر من موضة، باتت تشكّل تياراً انضمّ إليه الكثير من المخرجين الشبان. فإضافة إلى انتصار عبد الفتاح الذي سنعود بالتفصيل إلى تجربته "طبول فاوست"، واصل مخرج مصري آخر هو ناصر عبد المنعم، في "حكايات ناس النهر" سبر أغوار الأدب بعد يحيى الطاهر عبدالله، بهاء طاهر... مع نص لحجاج أدول عن أهل النوبة وأحلامهم في قلب الطوفان. وكثرت الملابس الفولكلوريّة، والأدوات التقليديّة من سرد ولهجات وأكسسوارات وتقنيات سرد وغناء وحكي... هكذا قدّم الفنان المصري الشاب سعيد سليمان، في "بيت زينب خاتون"، "طقسيّة شعبيّة موسيقيّة" بتعبيره عنوانها "القبيلة"... مكرراً المفردات نفسها التي نجدها في أكثر من عرض مصري راهن. أما الندوات التي ينظّمها "مهرجان القاهرة التجريبي" فواصلت طرح الأسئلة نفسها بأشكال مختلفة، وحشدت وجوهاً كثر استهلاكها في مختلف مجالات النقد والبحث والاعلام مع بعض الاستثناءات طبعاً. "أوقفوا هذه الندوة، أريد أن أنزل" صاح بالمشاركين كاتب مسرحي شاب، كثير الشغب، كأنّه في قطار فُقدت السيطرة عليه، معبّراً عن سأمه من الطروحات والنظريات التي تتطاير حول المنصّة. لكن ذلك لم يمنع بعض الدراسات والمناقشات من وضع اليد على قضايا شائكة وراهنة في المسرح العربي. وقد تمّت مناقشة عروض المسابقة الرسميّة بحضور مبدعيها، فطرح التونسي عزّ الدين غنّون اشكال اللغة العامية والفصحى بطريقة راديكاليّة وجريئة، وناقش عدد من النقّاد التجريب في المسرح العربي من خلال اشكاليّة "التبعيّة أو التثاقف؟" ثم "تجليات الحاضر وامكانات المستقبل". كما تمّ دراسة مسرح جرزي غروتوفسكي في انعكاساته على المسرح العربي. بين المشاركين العرب نشير إلى معجب الزهراني، يوسف الحمدان، سمير سرحان، صبري حافظ، المنصف السويسي، ماري إلياس، مخلوف بوكروح، محمد المديوني، فؤاد الشطّي، عبدالرحمن بن زيدان، بول شاوول، عبدالكريم برشيد، محمود أمين العالم، نهاد صليحة، موسى زينل، رضوان حمزتوف، صلاح القصب، رياض عصمت... وأصدر المهرجان، على عادته كلّ عام، 18 عنواناً جديداً من الترجمات الابداعيّة والنظريّة، عن لغات عالميّة عدّة، تجيء لتغني المكتبة المسرحيّة العربيّة. من مسرحيّات مارغريت دورا لاموزيكا، العشيقة الانكليزيّة وآرثر ميلر علاقات السيد بيترز، إلى كتب تقدّم تجارب داريو فو وفرانكا رامي، أوجينيو باربا، أنجيه فابيدا، أريان منوشكين ومسرح الشمس، إلخ... و"مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي" هو أيضاً مناسبة لاحتفاليات لا حصر لها، لعلّ أبرزها أمسية الافتتاح حيث أحيت فرقة "تياترو دول بوراتو" الايطاليّة في دار الأوبرا عرضاً بالدمى وخيال الظلّ عنوانه "طيري أيّتها الفراشة"، بعد أن تم تقديم أعضاء لجنة التحكيم والمكرّمين، وأعلن وزير الثقافة المصري فاروق حسني افتتاح الدورة. وكانت الأمسية الختاميّة التي أعلنت فيها الجوائز، محطّة مهمّة أيضاً، حيث تمّ تكريم الفنانة اللبنانيّة نضال الأشقر والفنان المصري محمد صبحي. ولا بدّ من الاعتراف بقلّة العروض الأجنبيّة التي كانت تستحقّ الاهتمام هذا العام في القاهرة، مثل عمل الفرقة النمساويّة "أتيمبوري" الذي ينتمي إلى المسرح الراقص والمأخوذ عن رواية كافكا "المسخ"، وعمل الفرقة البولونيّة "سينا بلاستيزنا" "البوابة" الذي يعطي للفضاء والضوء والحركة التعبيريّة والمناخات والجسد والعناصر الطبيعيّة كالماء الدور الأساسي في بناء العرض... كما تجدر الاشارة إلى تخلّف الفنّان وليد عوني عن موعده هذه الدورة، بسبب تمزّق عضلي حاد في قدمه أقعده عن الرقص وحرمنا من عرض "حارس الظلّ" ل "فرقة الرقص المسرحي الحديث". وكثرت العروض العربيّة والمصريّة، فجاء بعضها لافتاً، وبعضها الآخر في منتهى العاديّة يعكس هاجس ادارة المهرجان في مراعاة التوازنات الاقليميّة والاعتبارات الديبلوماسيّة... ولعلّها من المشاكل الشائكة التي يواجهها "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي". وبين المسرحيّات العربيّة نشير إلى العرض القطري "غناوي الشمال" عبد الرحمن المناعي، والعرض السوداني "سلمان الزعرات سيد سنار" علي مهدي. وإذا كانت السعوديّة قد غابت هذا العام من ناحية الانتاج المسرحي، فقد وقعنا على نشرة مسرحيّة بعنوان "الورشة" تصدر عن "ورشة العمل المسرحي" التابعة ل "جمعيّة الثقافة والفنون في الطائف"، وتبعث هذه النشرة في عدديها على الأمل والتفاؤل بمستقبل المسرح السعودي، إذ تطل بسعة أفق على الساحة المسرحيّة، عربياً وعالميّاً. ومن الجزائر جاءت فرقة تابعة ل "المسرح الجهوي" في قسنطينة لتقدّم "المرسطان" خالد بلحاج التي تنتمي إلى المسرح الواقعي والاجتماعي. والخطاب السياسي والاجتماعي نفسه، جاء لدى الفرقة اللبنانيّة "نقش"، أثقل من مقدرة العرض على الاحتمال المرأة في المجتمع العربي، الجسد كوسيلة تحرّر. من هنا أن مسرحيّة "برمة حوض" التي تحمل توقيع جنى الحسن جاءت ضعيفة، تعكس ملامح الهواية والارتجال، مع العلم أن هذه الفنانة حققت حضوراً مقبولاً في القاهرة قبل عام، حين صمّمت رقصات "مخدّة الكحل" لانتصار عبد الفتاح. وتمثّلت فلسطين ب "فرقة عشتار" المقدسية التي تجرّأت على تقديم نصّ أدبي لحنان الشيخ هو رواية "مسك الغزال". في اطار يتأرجح بين السردي والواقعي، قدّمت الممثلات الأربع إيمان عون، تهاني سليم، منيرة زريقي، فاتن خوري تحت ادارة المخرج السويسري بيتر براشلار، حالة الاغتراب التي تعيشها نساء أربع في بيئة مغلقة تحكمها مجموعة من المحظورات والمسلّمات والأفكار المسبقة. وجاء الاخراج خفيفاً، يستعمل تقنيات الفيلم التلفزيوني. أما العرض الأردني "ملهاة عازف الكمان" فرقة وزارة الثقافة، فلفَتَ الأنظار باشتغاله على عناصر الفرجة بطريقة بصريّْة. فقد غلّب المخرج حكيم حرب القالب الشكلي على النصّ المستوحى من مسرحيّة لألبير كامو، هي "سوء تفاهم"، أساسها اللغة والحوار والبعد الفلسفي. فتوصّل إلى تصوير حالة اليأس الوجودي لدى شخصيات محطّمة، يقودها عازف الكمان في بحثها عن سعادة ليست إلا سوء تفاهم عميق بين البشر. وقدّم حكيم حرب في القاهرة أيضاً، مسرحيّة "ميديه" لجان آنوي التي جاءت في السياق نفسه. المفاجأة المصريّة الأولى كانت في "مسرح الطليعة" الذي يديره المسرحي المعروف محسن حلمي، حيث اكتشفنا عن طريق المصادفة عرضاً ممتعاً من اخراج عصام السيّد يذكّر بعلاقة هذا المخرج الوطيدة بالمسرح الجاد، على رغم المغامرات التي خاضها في أحضان مسرح أكثر قرباً من "التجاري". مسرحيّة "الأرنب الأسود" تأليف عبدالله الطوخي التي لم تقدّم ضمن اطار المهرجان، قائمة على ثنائي نسائي لافت : سناء يونس والممثّلة الكبيرة أمينة رزق التي تتحدّى الزمن وتقدّم هنا أحد أجمل أدوارها على الخشبة. رفع عصام السيّد الحواجز بين الخشبة والقاعة، فإذا بنا في بيت فلاحي، يتحوّل حلبة صراع بين الأم الطاغية لكثرة تسلّطها والأبنة التي تحاول أن تفلت من تلك السلطة. هل المجتمع المحافظ هو الذي يتكلّم على لسان الأم، ويمنع اختراع آفاق جديدة للحريّة؟ السؤال تتم الاجابة عنه بعفويّة ممتعة، اذ يتوازى الاطار الواقعي للحدث، مع خفّة الدم الشعبيّة، وعبثيّة البحث عن الأرنب الأسود الذي أفلت في الظلمة والذي يشكّل العثور عليه نوعاً من التحدّي لعائشة، وتخلق أشعار سعيد الفرماوي التي ينشدها علي الحجّار، مسافة نقديّة بين المتفرّج واللعبة المسرحيّة التي تحاصره. وهذا الاطار الواقعي الذي يحمل رموزاً وأبعاداً سياسيّة واجتماعيّة هو أيضاً نقطة انطلاق "مسرح الرصيف" الدمشقي في "ذاكرة الرماد" التي قدّمت آخر أىّام المهرجان، بعد أن واجهت مصاعب تقنيّة. ينطلق الحكيم المرزوقي من حبكة واقعيّة، رمزيّة الأبعاد، ليغوص في العالم السفلي لمجتمع يواجه تمزّقه وضياعه وتفتت أوهامه السياسيّة. لكنّ المعاناة لدى هذا الكاتب التونسي المقيم في دمشق تتخذ أبعاداً فرديّة بحتة : فالشخصيات تواجه مصائرها معزولة، وقد لفظها المجتمع... إنّها إذاً على هامشه، ترزح تحت عبء الذاكرة المثخنة، والخيبات والهزائم والاحباطات، وفشل أي طموح بالارتقاء الاجتماعي والرخاء والافلات من الجحيم المادي والمعنوي المحيط. العلاقة السادو مازوشيّة التي تجمع بين الراقصة المتعبة التي تحمل آثار تشوّهها، والطبّال الذي يجرّ عجزه خلف مظهر الذكورة المدوّية، تخفي صداقة قديمة هي امتداد لظلال زمن آخر، الزمن السعيد، لحكاية وذاكرة جيل سابق، اهتمّ بالأحلام الكبرى ونسي الأساسي، ولم يبقَ منه إلا صدى شاحب وأغنية لأم كلثوم، بعض الصور والخطابات ورائحة الكاز وشظايا قنابل اسرائيليّة من العام 1967، وشيء من الحنين إلى عالم مجهض. لكن المخرجة السوريّة رولا الفتّال، لم تتعامل مع النصّ بأسلوب واقعي، تعليمي، بل ذهبت إلى مناخات تأثيريّة، وجرّدت الخشبة من أي شبهة طبيعيّة. اعتمدت على الاضاءة كعنصر حيوي، وعلى اداء الممثّلين الفنّانة البارزة مها الصالح والممثّل الواعد نوّار بلبل، وعلى الايقاع الداخلي الموازي لشعريّة الحوار، تاركةً للشخصيّات أن تتأرجح بين المجرّد والملموس، بين قضايا اجتماعيّة ووطنيّة لا يمكن التغاضي عنها، ومعاناة فرديّة مطلقة تحكي عن الخيبة والغربة والهزائم الصغيرة في كلّ زمان ومكان... العرض المصري الآخر الذي يستحقّ الاهتمام في مهرجان التجريبي الأخير، هو "طبول فاوست" لانتصار عبد الفتّاح. بطل غوته كان هذا الصيف في كلّ مكان، في مهرجان سالزبورغ حيث قدّمت فرقة "لا فورا ديلس باوس" الكاتالانيّة نسخة "سيابر - بانك" عن "فاوست"... وفي دورناك السويسريّة، على بعد ستة كيلومترات من بال، حيث يحيي أتباع الفيلسوف وعالم الانتروبولوجيا رودولف ستاينر احتفالاً طقوسياً في مركزهم الغوتيانيوم كل عام، فيقدّمون المسرحيّة كاملة في عرض يمتدّ على 23 ساعة متواصلة. رهان انتصار عبد الفتاح بدا أكثر تواضعاً، مع انّه لا يقلّ تطرّفاً في استنطاق أشكال التعبير الاحتفاليّة والصوفيّة. في صالة صغيرة تتسع لعدد من المشاهدين يوازي عدد الممثلين والعازفين والراقصين، توزّعوا بشكل مستطيل حول الحلبة التي يتنازعها قطبان متواجهان : منصّة سجن الدكتور فاوستوس أحمد عبد الوارث الباحث عن الحقيقة، ومنصّة ميفيستو سامي العدل/ جائزة أفضل ممثّل الذي يستدرجه إلى بيع نفسه، وفي أسفلها مجلس هيلينة صفاء الطوخي التي تمثّل التجربة والرغبة والغواية محاطة بعنصرين من الجوقة: رجل وامرأة يؤديان الايقاعات والاغنيات النوبيّة. من الصعب أن ننقل إلى القارئ كلّ عناصر العرض الذي يعتبر استكمالاً لما بدأه الفنّان قبل عام في "مخدّة الكحل". فالانشاد الصوفي يتوازى مع الطرب الشرقي، الانشاد مع التعاويذ الافريقيّة، الايقاعات البدائيّة مع الرقص التعبيري، الكلمة مع الفراغ، لخلق حالة مأسويّة تتسع لتلك المواجهة بين المتناقضات، في رحلة شاقة هي رحلة البحث عن الحقيقة. ووسط الاحتفال يقف عبد الفتّاح كالمايسترو، يقود الاحتفال، الذي رسمه وفقاً لتصور هندسي. فالأشكال الهندسيّة المستطيل والمربّع والمثلّث والدائرة، لا تقتصر على الاطار السينوغرافي، ولا على الخطوط التي يرسمها الممثلون والراقصات، بل تتعدّى ذلك كلّه إلى بنية العمل نفسه. فالحالات تتعاقب، لتواكب الحوار المسرحي، في حركة تصاعديّة نحو الذروة. لكن نقطة ضعف العمل هي النص الذي يبقى أفقياً، فتكرار المشاهد لا يأتي تصاعديّاً بالمعنى الدرامي، كما هي حال عناصر الفرجة الأخرى. ولعلّ الهاجس البوليفوني، الطقوسي، التأمّلي، لدى انتصار عبد الفتّاح يتوصّل إلى خلق حالات شعوريّة، كان لا بدّ من كتابة مسرحيّة فعليّة توصلها إلى اكتمالها. أما مسرح "الصواري" البحريني، فتحرّر من أعباء النصّ أصلاً، لينقله عبر وسائل وجماليات أخرى. هكذا جاء عرض "ضوء/ ظلّ" المستوحى من مسرحيّة "فويتسك" لبوخنر سينوغرافيا واخراج سلمان العريبي، ليشكّل واحدة من أجمل لحظات المهرجان القاهري هذا العام. فهذه الفرقة الخليجيّة البارزة التي قدّمت "مأساة الحلاج" و"الليلة العلميّة" و"القربان" و"اختطاف" بين أعضائها: ابراهيم خلفان، يوسف الحمدان، عبدالله السعداوي، مصطفى رشيد...، تعمل بمعايير مسرحيّة صرفة، وتستحضر بيتر بروك وأنطونان آرتو وأحياناً غروتوفسكي، ولا تترك مكاناً في عروضها للثرثرة والحشو والخطابة. المعاناة حالة شعوريّة، وجماليّة أوّلاً، بالنسبة إلى جماعة "الصواري"، والعرض المسرحي مجموعة من المفردات الايقاعيّة والبصريّة والصوتيّة التي تنسج الطقس المشهدي. يبدأ المسرح هنا - وهي سابقة فريدة من نوعها في الخليج - من الهمّ الشكلاني الذي يوازي القول والتجربة، وحجر الأساس في العرض المسرحي هو العمل على الجسد والشعور والتقنيات. كل ذلك يتجلّى بامتياز في "ضوء/ ظلّ" الذي يشكو من بعض القصر، كأنّه خلاصة ورشة مسرحيّة لم تبلغ بعد تمامها. نحن في قاع السفينة الخشبي، نواكب فويتسك، الانسان المعذّب، في رحلة انهياره وانسحاقه. وهذه الحالة تتطوّر عبر حركات بطيئة، يتحوّل عبرها جسد الممثّل محمد الصفّار، يكبر أو يضمر، يزحف ويسعى إلى الوقوف. تمغط الدقائق حتّى ينتابنا شعور بتلاشي الزمن. كل عضلة تنضح بهذا التحوّل، في جسد يستجمع قواه لمقاومة الجاذبيّة، جسد مخلّع، مكمّم، مقيّد، يلعق دائرة الضوء على الجدار الخشبي، فتتناثر حبيبات مستحيلة.... يفكّك العرض آليات القهر التي تتحلّل معها العناصر، تعبر الصور على جانبيّ هذا القفص، كأنّها انعكاس لزمن آخر، كأنها أضغاث حكايات وذكريات وحالات وتجارب في منطقة اختلال الوعي وفقدان التوازن... كل ذلك في منطقة غامضة من اللاشعور هي بين الضوء والظلام. في خلفيّة هذه الزنزانة الخشبيّة تعبر الفضاءات والأشكال... ويسبح المشهد في أضواء باردة أو دافئة ترسم حدود الفضاء الضيّق، وتواكب الضحيّة في رحلة الجنون وفقدان الصواب: نشرف على الاختناق. المؤثرات الصوتيّة تحاصرنا أكثر فأكثر صوت الماء، أما الموسيقى المركّبة، المشوّهة كما في الكوابيس، فتحدّد الزمن، وتخلق بايقاعها الرتيب المناخات الهستيريّة، الهاذية. وبين حين وآخر، يغرق مشهد العمق في الظلام، ليسلّط ضوء على مقدّمة المسرح حيث تدور "بكرتا" المسجّلة التي تبثّ الموسيقى، إننا إذاً في غرفة العمليّات التي تقاد منها هذا اللعبة الشيطانيّة؟ المؤكد أن لدى جماعة "الصواري" أشياء كثيرة يقولونها، وأنّهم يقفون اليوم في منطقة متميّزة من الحركة المسرحيّة العربيّة. وفي القاهرة أيضاً أعدنا مشاهدة عرضين بارزين، هما من أهمّ ما احتضنته الخشبات العربيّة في السنة الأخيرة، بين تونسوالقاهرة وعمّان: "حب في الخريف" لعز الدين غنّون المسرح العضوي/ تونس، و"عزل الأعمار" لحسن الجريتلي ومسرح "الورشة" المصري. عندما شاهدنا عمل غنّون للمرّة الأولى، رأينا فيه كل مقوّمات المسرح التونسي الذي يشكّل موقعاً متقدّماً في المسرح العربي: أولويّة النصّ المرئي على النصّ المكتوب، الجسد على الوعظ، الحركة على الفكرة، إضافة إلى مكانة الممثّل، وطريقة التعاطي مع الفضاء المسرحي. لكن "حبّ في الخريف" بدا لنا في مكان ما عملاً مفتعلاً، مشوّشاً، يفتقر إلى حلقة أساسيّة ما، ويرزح تحت عبء الصراخ والهستيريا السهلة. وها هو عزّ الدين غنّون يفاجئنا في القاهرة، بعمل ناضج تصفّى من شوائبه، ووجد نبرته الداخليّة وايقاعه. بتنا أكثر تقبّلاً لنصّ مركّب كي ينسجم مع الرؤيا الاخراجيّة، بعد أن اكتملت خلفيّة الشخصيّات وتبلورت ملامحها، وصارت تجربتها متماسكة. كما صارت ليلى طوبال متمكّنة من شخصيّتها وواكبتها صابرة الهميسي تقاسمتا جائزة أفضل ممثلة، والأمر نفسه ينطبق على توفيق العايب وجعفر القاسمي. أما فاطمة الفالحي فكانت شخصيّتها مكتملة واداؤها متماسكاً منذ العروض الأولى. ولعلّ استعمال غنّون الموفّق لفضاء وكالة الغوري، جعل معطيات المكان تتلاقح مع عناصر المسرحيّة التي تدور أحداثها في باحة بيت محاصر بالأنواء، يشهد الصراعات والتمزّقات وقصص الحب المجهضة. وقد وفّق المخرج في استعمال هذا الديكور الطبيعي، بما في ذلك الطابق العلوي والأبواب والبركة التي صارت جزءاً من التصوّر السينوغرافي الجديد. هنا بدا لنا هذا المسرحي التونسي وقد تحرّر من الأعباء الزائدة، فبانت قدرته الابداعيّة الفعليّة، واتضح تحكّمه بالحيّز المسرحي وبادارة الممثلين لخلق حالات مشهديّة كثيفة. لذا سنكون أكثر تطلّباً منه في العمل المقبل، الذي نتمنّى أن يحمل أسلوبه ولمساته الخاصة في بلد يعجّ بالممثلين والمخرجين المميّزين. ونصل أخيراً إلى عرض فرقة "الورشة" الذي يستعيد الصلة بتقاليد قديمة قدم المسرح الاغريقي، ويستمدّ نسغه من تربة ثقافيّة عربيّة ما زالت في منتهى الغنى والخصوبة. يعمل الجريتلي ورفاقه منذ سنوات على السيرة الهلاليّة التي لم ينجزوا منها حتّى الآن إلا جزءآً واحداً. وقد توصّلوا مع الوقت، إلى تنقية هذا الجزء حتّى لامس الشكل الكلاسيكي الملحمي، في بساطته، وفقره، وتقشّفه، واستيعاب كل جزء منه معاني انسانيّة مطلقة، وأبعاداً ودلالات جماليّة هي من صلب التقاليد "الشفاهيّة" العربيّة التصوّر الدراماتورجي لنجيب الجويلي وهدى عيسى وآخرين. نصب جماعة الخيمة خيمتهم في مرأب سيارات الأوبرا، وعلى هامش "التجريبي" قدّموا عملهم الذي استدرج لجنة التحكيم الدوليّة، وكثيراً من الفنانين والضيوف، إضافة إلى الجمهور الفعلي، وبينه من يعود مراراً لمشاهدة الاحتفال، مؤكداً ابعاده الكلاسيكيّة: فالمشاهد يعرف الحكاية، لكنّه يعود ليعيشها ويشارك في الاحتفال حتى التطهّر. في هذا الفضاء الذي صمّمه طارق أبو الفتوح، وتتقاطع فيه المستويات مثل الحكاية، كما تلعب الاضاءة على بدائيّتها المتعمّدة دوراً أساسيّاً، يفترش الممثلون - الرواة - الراقصون الرمل، يجلسون في صفين متوازيين في مقدمة الجمهور الموزّع على الجهتين أيضاً، وبينهم ساحة الصراع المستطيلة التي تختصر المسافات والأسفار، وتكثّف الأزمنة والحكايات. وفي هذا المناخ القائم على النقاء والتجرّد، ترنّ الأبيات الشعريّة التي تروي قصّة نفي رزق بن نايل سيد رجب وعودته ليحارب عدوّ بني هلال، وهو ابنه من خضرة فانيا اكسرجيان، وكان أنكره لأنه "عبد أسود" أبو زيد الهلالي. أسلوب "الورشة" قائم على رفض الجماليّة المفرطة التي تتنازل عن مكانها هنا، لصالح "شعريّة" هي جوهر التراجيديا مشهد حوار رزق والسهم الذي ينوح على ماضيه السعيد. وفي هذا الاحتفال الذي يتعاقب فيه السرد والتشخيص، تتحكّم الموسيقى بايقاع العرض، ويلطّف الانشاد من حدّة المشاعر. ينبعث أبطال الملحمة أمامنا فوق الحلبة الرمليّة، قبل أن يتلاشوا على جناح موّال، تتواتر التناقضات في ايقاع هادئ: العنف والرقّة، الفرح والحزن، الخير والشر، الشجاعة والجبن، الوفاء والخيانة، العدالة والظلم، الضوء والظلام، الأنوثة والذكورة، المنزّه والأرضي... ويساعد الاخراج المؤسلب في تحريك المشاعر، واثارة الخيال ومخاطبة اللحظة الراهنة