سيظل كارلوس مُحاطاً بالأسرار مهما تكشّف منها. وكلما أطلّ اسمه تتجدد الاسئلة حول شخصه وكذلك حول المحطات التي أودت به الى السجن الفرنسي الذي يقبع فيه منذ اربعة اعوام. وبين تلك الاسئلة سؤال مستمر عن المحطة السودانية وملابساتها والاسباب التي مكّنت رجال الامن الفرنسيين من اعتقاله او "خطفه" واقتياده الى المحكمة الفرنسية ومكتب القاضي جان لوي بروغيير. صحيح ان العالم الذي كان يوفّر الحماية لكارلوس وأشباهه لم يعد قائماً. لكن لماذا اختار كارلوس الذهاب الى الخرطوم بالذات ولماذا لم يتمكن من مغادرتها الى عاصمة اخرى وما هو ثمن تسليمه وهل صحيح انه عرض خدماته على السلطات السودانية فرفضتها. في شباط فبراير الماضي سألت "الوسط" رئيس المجلس الوطني البرلمان السوداني الدكتور حسن الترابي عن قصة كارلوس فأجاب انه دخل السودان من دون علم سلطاته التي سارعت الى مطالبته بالمغادرة حين اكتشفت هويته الحقيقية المختبئة خلف جوازه الديبلوماسي العربي وان امتناعه عن المغادرة كان السبب في تسيلمه الى فرنسا. وفي حزيران يونيو الماضي تحدث المسؤول الفلسطيني محمد عوده ابو داوود عن "صديقه" كارلوس وحمل بعنف على موقف السودان منه وقال: "قرأت ما قاله الترابي في "الوسط" عن كارلوس والأعذار التي ساقها لتبرير تسليمه. أنا اعتبر ما قاله الترابي نقيصة في حقّ السودان وفي حق فكر الترابي نفسه لأن الاسلام لا يقرّ أبداً خيانة الحليف والصديق". وأصرّ ابو داوود على ان كارلوس دفع "ثمن صفقة أبرمها الترابي مع الفرنسيين". مصدر سوداني رافق قصة كارلوس في الخرطوم وشارك في بعض فصول المحادثات بين فيليب روندو مسؤول في المخابرات الفرنسية ومسؤولين امنيين سودانيين نفى، رداً على ابو داوود، وجود صفقة. طرحت "الوسط" مجموعة اسئلة على المصدر ففضّل الرد برواية كاملة عن كارلوس منذ دخوله السودان الى موعد تسليمه. وها هي "الوسط" تنشر رواية المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه، وقد لوحظ انه أغفل مسألة تخدير كارلوس قبل تسليمه نظراً الى ما ترتبه من عواقب قانونية. وهنا رواية المصدر السوداني: دخل كارلوس الخرطوم على متن طائرة الخطوط الجوية السودانية القادمة من العاصمة الأردنيةعمان في 14 تشرين الأول أكتوبر 1994، وكان يحمل جواز سفر ديبلوماسياً غير مزور من اليمن الجنوبي، باسم عربي مزور هو "عبد الله بركات". وكانت بصحبته زوجته الأردنية وهي طالبة في السنة النهائية في كلية طب الأسنان في الجامعة السورية، وثلاثة من مرافقيه الذين ظل اثنان منهم، على الأقل، معه دائماً في الخرطوم حتى ساعة تسليمه الى فرنسا في 12 تشرين الأول أكتوبر 1995. توجه كارلوس ومجموعته من المطار بسيارة أجرة الى "الفندق الكبير" المطل على النيل الأزرق، وهو أقدم صرح فندقي في البلاد منذ أن أسسه الانكليز العام 1904. وقضوا نحواً من أسبوع طافوا فيه بعض البنايات في الخرطوم وعقدوا صفقة إيجار مبدئية لمكتب تجاري في ما يعرف ب "العمارة الكويتية" المطلة كذلك على النيل الأزرق، وغير بعيد من الفندق الذي أقاموا فيه. ويبدو أن سائق عربة الأجرة اقترح عليهم ذلك المكان. قدمت المجموعة نفسها الى بعض صغار رجال الأعمال السودانيين باعتبارهم كذلك رجال أعمال قدموا الى السودان للاستثمار وبرأسمال جيد. وقُدّم كارلوس خاصة على أساس أنه عربي الأب ومن أم أميركية لاتينية، لتلافي الحرج الذي قد يثيره السؤال عن لكنته غير العربية الواضحة. وقد اقترحت عليهم المجموعة العمل في مجال تصدير الحبوب، وسافرت معهم الى منطقة الدمازين شرق السودان لتعريفهم مباشرة على أكبر المناطق إنتاجاً لحبّة الذرة، وهي السلعة الرائجة من صادرات السودان آنذاك. استطاعت المجموعة استئجار شقة من أربع غرف في منطقة امتداد الدرجة الأولى حي العمارات، في الشارع الذي يحمل الرقم 33، وهي مطلة على الشارع الرئيسي الذي يفصل الحي عن مطار الخرطوم. واشترت سيارة يابانية ماركة كريسيدا، بيضاء اللون، موديل العام 1984. وظلت معهم في تحركاتهم حتى ساعة التسليم، وكذلك الإقامة في الشقة. بدأ كارلوس - بصحبة زوجته وأحد مرافقيه - بعد سفر الآخرين - التحرك بحذر في المنطقة المحيطة بحي العمارات بسبب جهلهم بالمدينة وعدم توفرهم على أصدقاء بعد. ولحسن الحظ فإن المنطقة المحيطة تضم مجموعة من الأسواق الصغيرة الجاذبة للأجانب، وعدداً من الأندية الأجنبية الألماني والسوري والأرمني. وهي الأماكن التي أضحت محل تردد كارلوس المستمر في العام الذي قضاه في الخرطوم، إضافة الى فندق هيلتون الذي حصل على بطاقة عضويته وأصبح ممن يسبحون بانتظام في حوض السباحة الملحق به. وكذلك فندق ميريديان الذي حزن "جرسوناته" كثيراً عندما علموا أن كارلوس الذي سلمته الخرطوم هو نفسه "سيد عبد الله" الذي عرف بأنه أسخى دافع "بقشيش" يشهده تاريخ الفندق. أثناء طواف كارلوس على الأحياء والأسواق المحيطة انتهى به طوافه الى محل لبيع المصنوعات اليدوية الفنية السودانية الأناتيك. ولفت انتباهه مشهد لصورة فوتوغرافية في المحل بالزي العسكري لضابط سوداني كبير. وعند سؤال صاحبة المحل أوضحت له أنه زوجها الذي توفي قبل بضعة أيام، وكان أحد أبرز قادة حركة الإنقاذ التي استولت على السلطة العام 1989، لكنه توفي في السنة نفسها. فتحت هذه الإجابة لكارلوس باباً مهماً ظل يبحث عنه طوال أشهر طوافه في الخرطوم: كيف يجد مدخلاً للوصول الى القيادة السياسية في البلاد؟ وكانت تلك السيدة هي نفسها التي عرفت في الصحافة العربية والأجنبية بعد تسليم كارلوس بأنها زوجته السودانية. أضحت السيدة السودانية صديقاً ملازماً لكارلوس بعد سفر زوجته الأردنية لإكمال عامها الدراسي الأخير في دمشق. وعن طريق تلك السيدة السودانية تعرف كارلوس الى مجتمع الخرطوم السوداني والأجنبي، وكان ذلك أفضل مدخل، لأن السيدة صاحبة المحل التجاري ذات علاقات واسعة وهي متحدثة جيدة بالفرنسية والانكليزية. إضافة الى أن محلها يستقطب الأجانب، وعن طريقها أصبح "عبد الله" كارلوس صديقاً حميماً لعدد من الديبلوماسيين العرب، يرتاد الحفلات المشتركة بينهم وبين السودانيين. ومن ذلك شريط فيديو لحفلة زواج بهيجة صوره ديبلوماسي مصري معني بالمتابعات الأمنية وظهر فيه كارلوس. وقد بثه التلفزيون المصري حين اشتدت الأزمة مع السودان بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس حسني مبارك. وعن طريق السيدة السودانية حاول كارلوس اجراء اتصالات بثلاث شخصيات: الدكتور حسن الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي آنذاك، والفريق عمر البشير رئيس الجمهورية، والعميد عبد الرحيم محمد حسين وزير الداخلية. وقد دلته السيدة الى مقر المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي ووعدته بعمل جهدها للإتصال بالشخصيات التي حددها. رصدت الأجهزة الأمنية تحركات كارلوس ومجموعته. وبدا مؤكداً أن المجموعة المحيطة به ذات أصول عربية مئة في المئة. أما الشخص الذي يمثل محور المجموعة فهو غير عربي. ورأت الأجهزة أن الجواز اليمني الجنوبي يشير الى ارتباطات لا يتوقع منها خير للسودان، لكن مسؤولي تلك الأجهزة لم يتوصلوا إلى معلومات من جهة عربية رسمية أو شعبية تشير الى مجموعة من هذا القبيل. فاضطرت السلطات الأمنية الى الاتصال بالرجل مباشرة للسؤال عن هويته وطبيعة مهمته في السودان. أجاب كارلوس بأنه شخصية سياسية مهمة جداً، وأنه لا يستطيع التحدث إلا مع القيادات السياسية العليا في البلاد. الأمر الذي اضطر المسؤول الأمني الذي تولى الإتصال به الى تغيير مداخله مؤكداً أنه يمثل الجهات الأمنية العليا المتصلة مباشرة بالشخصيات السياسية الحاكمة، وأنه ليس جزءاً من الأمن الرسمي بأي حال من الأحوال، وأبلغه بأنه سينقل رغبته الى تلك الجهات وسيتصل به لاحقاً لنقل الرد. ووضعت الجهات الأمنية منذ ذلك اليوم مجموعة مراقبة ثابتة حول شقة كارلوس ومجموعة متحركة تلاحقه في حله وترحاله. لاحظ كارلوس إحكام الرقابة عليه، فأبدى ضيقاً وتبرماً من ذلك. وحاول مرة استدراج المجموعة الثابتة الى شقته واستعمل أساليب تظهر مقدرة وموهبة كبيرة في المراوغة عن المراقبة المتحركة، خصوصاً في أسلوب قيادته لسيارته، مما ضاعف شكوك الأجهزة الأمنية وأدى الى تتالي لقاءاته مع المسؤول الأمني الذي قابله المرة الأولى، مما أدى بدوره الى توثيق الصلة بينهما، من دون أن يزيد المسؤول الأمني أمله في تلبية رغبته في مقابلة الشخصيات الكبيرة التي طلب مقابلتها. بعد فترة قصيرة أعلن كارلوس عن شخصيته الحقيقية، مبدياً استعداده للتعاون في ما يطلب منه لأداء أي عمل تريده السلطة "الثورية" في السودان، مسخراً لذلك إمكاناته ومواهبه وعلاقاته. لكن مفاجأة كارلوس كانت كبيرة حين نقل اليه المسؤول وجهة النظر السياسية والفكرية الرسمية السودانية بأنها لا تقر فكرياً أساليب الإرهاب، وترفض مواقفه سياسياً، ومن ثم فهي لا تستطيع التعامل معه، بل تطلب منه مغادرة السودان الى أي جهة يريدها. لم يقتنع كارلوس نهائياً برد صديقه المسؤول الأمني، وحمل خطاه ليجرب أسلوب الإتصال المباشر وليأتي بنفسه الى مكتب الإستقبال الخاص بالمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي ليطلب مقابلة الشيخ حسن الترابي، معرّفاً نفسه من خلال نسخة حملها معه من كتاب "الى نهاية الأرض" TO THE END OF THE EARTH الذي كتبه الصحافي البريطاني ديفيد يلوب حول قصة كارلوس من البداية وحتى سنوات بيروت. وطلب تقديم نسخة الكتاب الى الدكتور الترابي، وتحديد موعد لمقابلته، الأمر الذي لم يتم الى حين تسليم كارلوس. لم يمض شهران على وصول كارلوس الى السودان حتى وصل الى مطار الخرطوم مسؤول فرنسي رفيع في جهاز الاستخبارات الفرنسية الداخلية D.S.T وهو فيليب روندو، على متن طائرة الخطوط الجوية الفرنسية. وقابل بعد ساعات من وصوله مدير جهاز الأمن الخارجي السوداني وطرح أمامه مباشرة شكوك فرنسا حول مجموعة وصلت الى الخرطوم من عمّان، وأن الذي يعنيهم من المجموعة شخص واحد فقط مطلوب للعدالة الفرنسية. كما أن منظمة الشرطة الدولية انتربول أصدرت قراراً يقضي بالقبض عليه، وأن القسم المختص بذلك في كل أنحاء العالم يملك نسخة عن ذلك القرار، بما في ذلك الشرطة السودانية. عند مقارنة المعلومات الفرنسية بالمعلومات التي يملكها السودانيون تأكد أن الشخص المعني هو نفسه الموجود في السودان. ولم يكن أمام المسؤول السوداني سوى التعامل مع الموضوع كأمر واقع تعلمه الاستخبارات الفرنسية علم اليقين. وأكد المسؤول الفرنسي أنهم يعلمون تماماً أن الشخص المعني دخل السودان من دون علم سلطاته، لأنهم على معرفة تامة بتحركاته منذ أن أقام في بيروت وغيرها، وتابع الفرنسيون محاولات لإدخاله ليبيا. وكشفت ليبيا محاولتين لإدخاله، إحداهما على متن طائرة ليبية. وقامت السلطات الليبية بتصوير جواز سفره في المرة الثانية، وحصلت بعض وسائل الإعلام على نسخة من تلك الصورة. ونشرت مجلة "لوبوان" LE POINT الفرنسية قصة المحاولتين في تحذير واضح من تكرار المحاولة لأنها قد تفضي الى نتائج أكثر صرامة من مجرد تصوير جواز السفر وتوزيعه. كما تابعت فرنسا دخوله الى الإردن وإقامته في منطقة في أطراف مدينة عمان، وزواجه من ابنة صاحب المنزل الذي استأجره. وقد التقطت آخر صورة له في مطار عمان على منضدة في مكتب الخطوط الجوية السودانية. وهي تعرف كذلك أن خروجه من الأردن في هذا الوقت كان أمراً لا بد منه، لأن المناخ كان لا بد أن يُهيّأ بعد أوسلوومدريد واتفاقية واشنطن، وأن السودان هو البلد الأسهل لأنه يتيح لمن يحمل جواز سفر عربياً الدخول من دون تأشيرة آنذاك. وهو البلد الأنسب لأنه يمكن إقناع كارلوس بأن السلطة في السودان سلطة ثورية تبحث عن خبراء في العمل الثوري شأن إيران، وأنه سيجد منها كل ترحاب، وكان جهل كارلوس بالموقف الفكري والسياسي للسودان من الأعمال التي تتم بالإرهاب الذي يروع الأبرياء ويقتلهم مقتله ومأزقه الأخير. إتسم الموقف الفرنسي تجاه السودان بمرونة وموضوعية، إذ أوضح السودان أنه لم يكن في أي يوم جزءاً من لعبة الإرهاب الدولي مهما كان نوعه، ما ارتبط بالقضية العربية وما اتصل منه بدوائر عالمية أخرى. ولكن إزاء تطبيق حق المستجير على كارلوس فإن الأمر قد لا ينطبق عليه إشارة الى الآية الكريمة "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه"، فإن السودان لم يقبل إجارته، بل استغل كارلوس سماحة القانون السوداني المؤسس كذلك على فقه الأخوّة الإسلامية والإنسانية ويتيح للعرب الدخول بغير تأشيرة دخول تمهيداً لعهد تزول فيه الحدود والحواجز ويعود العالم العربي والإسلامي مرة أخرى سوقاً مفتوحة للأفكار والأموال، أي للثقافة والتجارة. استغل كارلوس سماحة ذلك القانون ودخل السودان بغير علمه هدية ملغومة، وان السودان ومهما يكن الموقف منه لا يريد التورط في لعبة الإرهاب الدولي، وهو سيعطي هذا الشخص الفرصة كاملة لمغادرة السودان الى أي جهة يريد. تجاوب الطرف الفرنسي مع طرح السودان وأكد أنه يتفهم موقف السودان بصفته دولة عربية ذات توجه إسلامي وفرنسا لا ترغب في وضعه موضع الشبهات أمام أصدقائه من الإسلاميين أو العروبيين، وترضى بأن يكون كارلوس تحت رقابة السلطات السودانية الى حين مغادرته الى أي جهة أخرى. لكن القنبلة الموقوتة بقيت داخل السودان في ظروف التربص والحصار. ومع أن الطرف الفرنسي التزم كتمان السر وحفظه في إطار العملية الثنائية، إلا أن الثابت لدى السلطات السودانية هو ان أكثر من جهاز في المنطقة علم بوجود كاولوس في السودان، وبالتالي علمت أجهزة دول معادية بشدة للسودان، وأضحى الشك يقيناً بعدما زارت مادلين أولبرايت مندوبة الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة يومها السودان بضع ساعات في إطار جولة إفريقية، وتوقفت في المحطة التالية - أديس أبابا- لتصرح بأن الولاياتالمتحدة تملك أدلة دامغة على وجود شخصيات إرهابية خطيرة داخل السودان. فقدمت الأجهزة الفرنسية تعهداً ثانياً بالدفاع عن موقف السودان في حالة تعرضه لحملة تستغل موضوع كارلوس. مضت أكثر من ثمانية أشهر والسلطات السودانية توالي تحذيراتها لكارلوس لمغادرة السودان. ولم تبد الجهات الفرنسية أي معارضة للبدائل التي طرحها كارلوس لمغادرة السودان، وعلى رأسها العودة الى المكان الذي جاء منه. وتولت السلطات الفرنسية الاتصال بالسلطات الأردنية. واستغرقت عملية الإتصال في يوم واحد أكثر من عشرين ساعة إثر تصريح أولبرايت. ووصلت الى أعلى المستويات. إلا أن الإجابة كانت الرفض التام. أفصح كارلوس بعد ذلك عن رغبته في الذهاب الى اليمن الجنوبي. لكن الحرب اليمنية قضت على كل آماله في ذلك المأوى. كما أفصح عن رغبته في الذهاب الى شرق أوروبا أو آسيا الوسطى. لكن فكرة المرور عبر مطار "ترانزيت" كانت ترعبه باستمرار وتعيده دائماً الى رفض المغادرة. وبدا واضحاً للسودان أن كارلوس بلا صداقات ولا علاقات نضالية سوى ذكريات الماضي، وأن الوثيقة الوحيدة التي ظلت معه طوال الوقت هي قائمة الأشخاص المئة الأكثر ثراء في العالم. وحجة أخيرة يبرر بها طلب بقائه بوجه طلب المغادرة الملح من جانب السلطات السودانية: أنه أنفق أكثر من 200 ألف دولار خلال أشهر اقامته في السودان وأن الأرض ضاقت عليه بما رحبت. في آب أغسطس التالي غادر الدكتور الترابي الخرطوم الى اسبانيا لتقديم محاضرة في جامعة مدريد. وفي رحلة العودة على متن الخطوط الجوية الفرنسية وعند توقف الترابي في مطار باريس لتبديل الرحلة، اجتمع به لوقت قصير فيليب روندو وأبلغه مخاوف فرنسا من تردد السودان في موضوع كارلوس، وهل ترى السلطات السودانية أن يتم ذلك في إطار صفقة سياسية. أخبره الدكتور الترابي بوضوح أن السودان يلتزم نهجاً مبدئياً في هذه القضايا، ومن ثم لا يمكن التحدث عن صفقات وأنه يتوقع أن يحسم أمر تسليم كارلوس في وقت وجيز جداً. بعد ذلك اتخذت السلطات السودانية منحى جديداً في التعاطي مع موضوع كارلوس، وقررت الإستجابة لطلب الشرطة الدولية انتربول تسليم كارلوس الى فرنسا. وتم إبلاغ القرار السياسي الى السلطات الأمنية التي أبلغته بدورها الى فرنسا. واتفق الطرفان على إجراءات التسليم وفق الاتفاقية الدولية لتسليم المجرمين. تزامن تاريخ 12 آب 1995 مع تعافي كارلوس من عملية جراحية من الدرجة الثانية أجريت له في مستشفى خاص في الخرطوم، ولم يكن معه ساعتئذ سوى زوجته الأردنية التي استدعيت الى مباني جهاز الأمن في ساعة متأخرة من تلك الأمسية وتم إبلاغها باعتقال زوجها وطلب إليها أن تحزم أمتعتها لمغادرة السودان. وبعد أقل من ساعة، نحو منتصف الليل بتوقيت السودان، حطت طائرة فرنسية خاصة في مطار الخرطوم وعلى متنها طاقم من الشرطة الفرنسية تسلم مطلوبه في أقل من نصف ساعة بعد التوقيع على الأوراق الرسمية. وأذاع وزير الداخلية السوداني النبأ في نشرة أخبار منتصف نهار اليوم التالي بعدما كانت الطائرة الفرنسية قد وصلت إلى وجهتها النهائية، باريس