إثر الاجتماع الذي عقدته هيئة قيادة "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارضة السودانية في العاصمة الاريترية اسمرا الاسبوع الماضي، حاورت "الوسط" السيد الصادق المهدي عضو هيئة القيادة المعارضة ورئيس حزب الأمة في شأن الاجواء والظروف التي اجريت فيها هذه المحادثات بين المعارضين، وما اكتنفها من غموض وخلافات أخذت طريقها الى النشر على أوسع نطاق. وتناول الحوار آفاق الحل السياسي لأزمة البلاد مع الحكومة السودانية، والملابسات التي حدثت في "لقاء جنيف" الذي جمعه بصهره الدكتور حسن الترابي أول أيار مايو الماضي. وتطرق الحوار الى علاقة حزب الأمة مع القوى السياسية الأخرى، خصوصاً الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي يتزعمه السيد محمد عثمان الميرغني و"الجيش الشعبي لتحرير السودان" بزعامة العقيد جون قرنق. في ما يأتي نص المقابلة: عقد الاجتماع الأخير للمعارضة 7-14 حزيران/ يونيو 1999 في ظل خلافات عميقة بين قوى التجمع الوطني، هل يمكن القول انكم تجاوزتموها؟ وهل عبّر البيان الختامي عن ما دار داخل أروقة الاجتماع؟ - صحيح ان المناخ الذي سبق انعقاد الاجتماع كان مشوهاً وساهمت في هذا التشويه أحداث معينة مثل لقاء جنيف الذي كان مفاجئاً لعناصر كثيرة جداً. وفي الأصل هناك مخاوف كثيرة في تركيبة التجمع الوطني، يقابلها الشيء نفسه من جانب الحكومة. من جانب آخر أرى ان كثيرين من العاملين في المجال السياسي السوداني، دائما يخوضون غمار هذا المعترك بالآمال فقط، بمعنى انهم لا يشغلون أنفسهم بالتحضير الجيد، ذلك مثل التلميذ الذي يتجاهل مذاكرة دروسه ويعتمد على شطارته ولهذا كثير من العناصر من الحركة السياسية المعارضة واقفة عند أمانيها وكراهيتها للجبهة الاسلامية والموقف المعادي لها منذ بيانها الانقلابي الأول في حزيران يونيو 1989، مع ان هناك تطورات ومتغيرات في الساحة السياسية والاقليمية توجب التعامل بواقعية. ومع ذلك، اعتقد بأن الاجتماع توصل الى معادلة واضحة جداً. ان النظام الذي فرض علينا المقاومة المسلحة يجب أن نواجهه بالامكانات نفسها، أي عسكرياً وبالتعبئة للانتفاضة. وطالما ان النظام مستمر في فرض شكله الاحادي والاستئصالي، فقدرنا ان تكون المواجهة مستمرة. ولكن إذا كان هناك مجال لحل سياسي حقيقي يخاطب مشاكل البلاد الحقيقية ويخرجنا من دائرة هذه المواجهة المستمرة وبآلية رقابة دولية، فذلك مقبول ويمكن الدخول فيه. أي نحن مستعدون للتفاوض اذا كان النظام مستعداً أيضاً لحل سياسي يستجيب لتطلعات الشعب السوداني، وهذا ما عبر عنه البيان الختامي. مما يعني انه جاء تعبيراً حقيقياً عما دار في الاجتماع. كانت الاجواء السابقة للاجتماعات توحي بوجود تيارين، احدهما تصالحي تتزعمه أنت، والآخر رافض لهذا المبدأ ويتمسك به الآخرون. ووفقاً للشروط التي حددها البيان الختامي في شأن الحلول السلمية فقد انحسر التيار الأول... - أي شروط؟ الاطار العام الذي وضع للحلول السلمية مثل المرجعية والآلية... وغير ذلك. - هذا لم نتخل عنه في كل المراحل. كنا نتحدث باستمرار عن مرجعية مقررات اسمرا وغيرها، الذين يظنون غير ذلك واهمون. ولكن نعم أنا أحرص الناس على حل سياسي. لماذا؟ - لأنني لو أمكنني توفير كوب من الدم قبل ان يراق لفعلت. بمعنى انني حريص على الحل السلمي، مع ان الناس جميعاً تعلم بأننا الأكثر اكتواءً بنار هذا النظام، سجناً ومواجهات ومصادرات. اضافة الى انني أقول ذلك ونحن أكثر الناس الذين فعّلوا العمل العسكري في الجبهة الشرقية. نحن نسعى الى الحل السلمي لأننا نعرف تماماً مخاطر الحلول العسكرية، وفي رأيي ان هناك مستجدات لم يرها الناس مع أنها بالنسبة الينا واضحة جداً. أولا: المجتمع السوداني بدأ يتمزق. حالياً هناك أكثر من عشر حروب قبلية، وهذا خطر كبير، لأن هناك بلداناً انهارت فيها الدولة الوطنية مثل الصومال وسيراليون وليبيريا وافغانستان، ومن الممكن أن يحدث ذلك في السودان، ونحن نخشى حدوثه بصرف النظر عما إذا كانت الجبهة الاسلامية القومية جيدة أو "بطَّالة". ثانياً: استمرار هذا الوضع خلق حالة من الشتات السوداني. وهذا يعني الافراغ، اضافة الى التمزق الذي أشرت اليه. وهذه ظاهرة خطيرة جداً. ثالثاً: هناك موضوع التدويل. والتدويل يعني ان القضية السودانية ستخرج من أيدي السودانيين ولهذا نحرص على الحل السلمي. وبالطبع لن تحل هذه المشكلة اذا كانت الحلول السياسية بشروط وثوابت النظام، لأن هذا يعني ضياعاً للأمل وتمزيقاً للمعارضة. لكن هناك من يرون ان هذه المخاطر حتى لو كانت واقعاً فأنتم تضخمونها تبريراً لمشروع المصالحة… - لا اعتقد بأن هناك معنى لتضخيمها، ولا اعتقد بأن ما قلته فيه أدنى مبالغة. نحن لم نفكر مطلقاً في صياغة هذه المخاطر،. انما وجودها هو الذي حركنا لالتماس امكان حل سياسي. وانا لا اسميه مصالحة، لأن المصالحة فيها عنصر شخصي وذاتي، وتعني ان الناس كأنما كانوا يكرهون بعضهم ويريدون ان يتحاببوا. كذلك لا اسميه وفاقاً لأن الوفاق فيه نوع من الائتلاف والاتفاق على برنامج موحد. ولا نسميه حلاً سلمياً لأن الحل السلمي يعني بالضرورة ايقاف المواجهات. يتردد ايضاً أنكم منذ "لقاء جنيف" صرتم تهدفون الى الفوز ب"احدى الحسنيين": إما الحركة الشعبية او الحزب الاتحاد الديموقراطي للانحياز لمشروعكم السياسي، وهو ما لم يحدث… - كثير جداً من الزعامات الاتحادية تشجعنا بدرجة اكبر من تشجيع عناصر حزب الأمة لنا لأن نجد حلاً سياسياً يخرجنا من دائرة المواجهات ولا اريد الدخول في تفاصيل، لذلك اقول في ما يتعلق بالحل السياسي، ليس هناك تباين بيننا والحزب الاتحادي، وربما تجد ان قيادات هنا وهناك من الاتحادي او حزب الأمة تتحدث بلغة مختلفة، لكن الجسم الحقيقي للحزب الاتحادي الديموقراطي ليس فيه أدنى مجافاة لمشروع الحل السياسي حتى تقول اننا نريد ان نقنعهم او يقنعوننا، وهذا الجسم ربما كان أشد حرصاً من حزب الأمة على ايجاد حل سياسي. والحركة الشعبية؟ - بنظري ان الحركة الشعبية لم تقف ضد التفاوض مع النظام، بل بالعكس، هم يعتقدون بأنه لا بد من التفاوض باستمرار، ولهذا نحن لسنا محتاجين لاقناعها بضرورة التجاوب مع الحل السياسي، بل ان الأخ جون قرنق يقول بوضوح في خطابه السياسي انهم مستعدون لمثل هذا الحل، بل انه يعتقد بضرورة حدوث اعتراف متبادل بين النظام والتجمع للوصول الى تفاوض سياسي. كل ما في الأمر اننا نقرأ الواقع، وهذه القراءة تجعلنا نقول الحديث الذي يمكن ان يصادف تجاوباً من الآخرين. لكن حزب الأمة الذي تتزعمونه متهم بأنه يتعامل بردود الفعل حيال مبادرات الحركة الشعبية… - ما هو الدليل؟ أين دليلك؟ مثلاً انتم لا يريحكم التفاوض المنفرد بين الحركة الشعبية والحكومة تحت مظلة منظمة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف ايغاد… - هذا ليس رد فعل، هذا هو الفعل نفسه. كما تعلم، منذ اول اجتماع للتجمع بعد خروجي من السودان أثرت هذه النقطة، وقلت ان ادوات التعامل والتفاوض غير موزونة، لأن هناك قوى سياسية في التجمع الوطني مُغَيّبة عن الحل السياسي. كما ان الوساطة اهملت دولاً مهمة في المحيط العربي، خصوصاً مصر، اضافة الى ان الوساطة تركز على انهاء الحرب وتهمل موضوع الدستور. وكانت هناك عناصر في التجمع تقف ضد توسيع او تعديل او تغيير وساطة "ايغاد"، حتى قلت لهم اروني وجهاً يبرر تقديس مبادرة "ايغاد"، لأننا حين ناقشنا الموضوع مع الحركة الشعبية اقتنعت ولم تختلف معنا. ولهذا فان الكلام عن ردود الفعل غير صحيح. لقد قابلت الدكتور قرنق بعد شهرين من انتخابي رئيساً للحكومة في 1986. كما اننا اتفقنا معاً على وقف الحرب في مناطق التماس في العام 1990. وكذلك عرضنا على الحركة الشعبية ان تدخل التجمع الوطني في وقت مبكر فيما كانت كل القوى السياسية رافضة مجرد التعامل معها. كذلك فان الحركة الشعبية وقّعت معنا اتفاقاً قبل دخولها التجمع الوطني. اضافة الى ذلك قدمنا نحن الاقتراح الذي أقره مؤتمر نيروبي للمعارضة في 1993 في شأن قضية الدين والدولة، وهو الذي بُنيت عليه الاتفاقات اللاحقة. وأخيراً، اتفاقنا مع الحركة الشعبية في شقدوم هو الذي مهد للتوصل الى اتفاق على القضايا المصيرية في اسمرا في 1995. بعد لقائكم الدكتور حسن الترابي في جنيف وعدتم حلفاءكم في التجمع بالحديث عما دار في جنيف. لكنك لم تتحدث بشكل تفصيلي. فماذا حدث حقاً؟ - ما حدث في جنيف كان بداية للحوار السياسي. وجوهر ما تحدثنا عنه هو الاتفاق على مبدأ الحوار السياسي وإيجاد آلية لهذا الحوار وادارته. وجوهر ما دار في جنيف هو كالآتي: 1 - الترحيب بمبدأ الحوار السياسي. 2 - الحديث عن ضرورة ايجاد منبر مناسب سميناه في حوار جنيف "المؤتمر القومي". 3 - ضرورة الاتفاق على بنود شاملة للقضايا الوطنية كلها. 4 - وجود رقابة لجيران السودان على ما يحدث من تفاوض بين السودانيين. وما حدث الآن في اجتماعاتنا هذه في اسمرا بموجب قراراتنا اننا رحبنا بالحوار السياسي وأخرجناه من اطاره الثنائي الذي حبسته فيه "ايغاد" الى اطار اوسع. ثم تحدثنا عن آلية للمؤتمر القومي من دون تحديدها، لأنه رؤيت ضرورة مشاورة الوسطاء الذين لعبوا دوراً، خصوصاً مجموعة دول "ايغاد". لكن من الواضح ان الآلية المتوقعة شبيهة بمؤتمر. اضافة الى انه سيتفق على بنود لن تكون هي نفسها البنود التي تنحصر فيها مبادرة "ايغاد"، بل تشمل انهاء الحرب وموضوع السلام والديموقراطية وغير ذلك. الى جانب ذلك فقد اتفق على ان التوسط لا بد ان يكون اوسع اطاراً من مبادرة "ايغاد"، وهذه هي الفكرة التي كنا نتحدث عنها في الاصل. وبنظري ان جوهر ما اتفق عليه في جنيف صار مقبولاً بموجب هذه القرارات الاخيرة. هل خطر ببالك ان الدكتور الترابي اقدم على هذه الخطوة للخروج من مأزق يواجهه النظام؟ - قد يختلف الناس في التحليل، وفي رأيي ان النظام ليس الترابي وحده. وصحيح ايضاً ان النظام يبحث عن مخرج، بدليل انهم سلّموا بالتعددية التي كانوا يرفضونها، وحقوق المواطنة وحسن التعامل مع الجيران وغير ذلك. وفي ما يتعلق بالخلافات داخل النظام، فهي اصلاً قائمة، ودائماً تحدث في مثل هذا النوع من الانظمة وأنا لا اريد ان "اشخصنها" فأحصرها بين الترابي والبشير، بل اقول ان هناك ازمة ما يعيشها النظام، وأربط ذلك بمعطيات موضوعية. وأنا لم اقدم على لقاء جنيف بفعل عوامل ذاتية، وأعتقد بأن لا قيمة لها اصلاً. السودانيون، كما تعلم، شغوفون بالتفاصيل. فماذا عن الوجه الآخر، خصوصاً انه مضى اكثر من عامين على آخر لقاءاتكم داخل السودان مع الترابي، ماذا حدث؟ - كنت سعيد جداً لمقابلة شقيقتي وصال بعد طول فراق وانقطاع. وهذا كان عنصراً انسانياً طيباً ولا اعتقد بأن له دخلاً بأي نتيجة، لكن، في حد ذاته، كان شيئاً حسناً وودياً. وقد تحدثنا عن مسائل عائلية وذكريات، وكان ذلك عنصراً مهماً. في ما يتعلق بالدكتور الترابي فنحن اصلاً كنا اصدقاء، وربما كان زواجه من شقيقتي ثمرة هذه الصداقة. ولم يكن لذلك دخل بالسياسة. لم يكن قيادياً آنذاك في حركة "الاخوان المسلمين". بل كان اكاديمياً. وهذا ما جعلني افكر في انه لن يكون هناك تناقض حاد ما دام دوره اكاديمياً اكثر منه سياسياً. كلانا ضحّى في سبيل الخلاف الفكري والسياسي، اي ضحينا بالعلاقات الشخصية والعائلية. وكل هذا صار ثانوياً بالقياس الى الموقف الأساسي المتناقض. من الممكن ان توجد ظروف تزيل هذا التناقض ولو بنسبة 2 أو 3 في المئة، لكنه حتى الآن ما زال يحكم علاقتنا ويهيمن عليها. وأقول ان هذا اللقاء طرح في ذهن الطرفين امكاناً نسبته 4 او 5 في المئة، في هذه الحدود، لمعالجة التناقض الفكري السياسي في اطار السلام والديموقراطية في السودان. كلاكما وصف الآخر بأوصاف تجاوزت حدود السياسة. أذكر انك في حوار سابق مع "الوسط" شبهته ب"كانديد" بطل احدى روايات الكاتب الفرنسي فولتير كان يقبح الجميل ويجمّل القبيح حسبما ذكرت. فكيف اضحيت تثق به الآن؟ - المسألة ليست مسألة ثقة. لماذا لا تريد ان تفهم هذه الحكاية؟ انها مسألة موضوعية. مثلاً الرئيس الاريتري اساياس افورقي كان لا يلقي علينا السلام وليست عنده اي علاقة معنا، الآن حدث العكس. ما اريد قوله ان مسائل الحب والكراهية والثقة ليست هي الأساس في العلاقات السياسية، انا لم اذهب الى جنيف لأنني احب الترابي، وإنما ذهبت بسبب عوامل موضوعية. هذا اللقاء لا يوجد فيه معنى ذاتي، لم اذهب لأنني فجأة احببت الترابي، او لأنني فجأة تكلمت معه او هو تكلم معي، او لأننا قررنا فجأة التعامل بعضنا مع بعض. الواقع اننا استجبنا لدعوة طرف ثالث، ورأينا ان هذا اللقاء فرصة لنرى ما يمكن ان يحدث. ولا ادري لماذا يستغرب الناس من السياسة اذا ما كانت هناك عداوات وحدث تقارب!