شهدت الساحة السودانية اسبوعاً مفعماً بالمفاجآت التي تشير الى ان السودان ربما كان مقبلاً على تغييرات جذرية تطال حكومته ومعارضته، وقد تغيّر طبيعة المشهد السياسي في بلاد "المليون ميل مربع" - كما يحلو لبعض بنيها ان يسمّوها. ففيما كان الرئيس عمر حسن البشير يتبادل الابتسامات مع حليفه السابق وخصمه اللدود حالياً الرئيس الاريتري أساياس افورقي بحضور امير دولة قطر، كان الرجل الاقوى في الخرطوم الدكتور حسن الترابي يبحث في منزل ديبلوماسي سوداني مرموق في جنيف مع صهره رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي التفاصيل الدقيقة للاتفاق الذي سيغيّر ملامح الازمة. وكاد "لقاء الدوحة" بين البشير وافورقي الذي اسفر عن توقيع معاهدة لتسوية المشكلات بين السودان واريتريا، ان يحجب "لقاء جنيف".. غير ان "لقاء جنيف" سرق الاضواء كلها بعدما تأكد وصول القطبين السودانيين الى جنيف تلبية لدعوة من الدكتور كامل الطيب ادريس المدير العام لمنظمة الاممالمتحدة لحماية الملكية الفكرية الذي قام بجولات مكوكية خافتة بين القاهرةوالخرطوم استمرت اكثر من ستة اشهر. ونجحت مساعي الدكتور ادريس، وهو ديبلوماسي وقانوني، باعتباره شخصية وطنية ليست لها انتماءات سياسية. ويبدو ان وساطته انحصرت في تهيئة السبل المناسبة للالتقاء بين الشخصيتين المحوريتين في السياسة السودانية من دون تدخل في تهيئة بنود المحادثات. وكعادة السودانيين فقد انشغلوا بالتفاصيل غير المهمة بعدما أفاقوا من وقع نبأ اللقاء السويسري: هل ابلغ الترابي اعوانه؟ هل كتم المهدي النبأ عن حليفه التقليدي السيد محمد عثمان الميرغني؟ وقفزاً الى التساؤلات التي تنم عن القلق الدفين في نفوس المعارضين في الخارج واعوان النظام المعرضين عن العودة للتعاون مع الاحزاب التي اطاحها حدوث "ثورة الانقاذ الوطني" العام 1989: هل سيعود الصادق المهدي مصالحاً مثلما فعل مع الرئيس السابق جعفر نميري في 1977؟ هل هو صلح ثنائي ام ان حزبي المهدي والترابي الامة والجبهة الاسلامية القومية سيسعيان الى ضم القوى الاخرى الى اتفاقهما؟ وزاد الامور بلبلة وغموضاً ان لقاء جنيف ومعاهدة الدوحة جاءا في وقت تلبّدت فيه غيوم كثيفة حول مستقبل جنوب السودان. قبل توجهه الى جنيف بنحو يوم اتصل الدكتور الترابي بالرئيس السوداني ونائبه علي عثمان محمد طه وابلغهما بنيته في السفر الى سويسرا طالباً تجهيز الطائرة الرئاسية لتقله الى هناك. وقرر ان يكتفي بمرافقة زوجته السيدة وصال الصديق المهدي شقيقة رئيس الوزراء السابق وثلاثة من خاصّته. كان المهدي يقوم بزيارة لطرابلس تلبية لدعوة من العقيد معمر القذافي. اتصل به هناك الوسيط السوداني وموظف آخر في احدى منظمات الأممالمتحدة ليبلغاه بأن صهره توجه الى جنيف. قرر رئيس الوزراء السابق ان يقطع زيارته لليبيا ليعود الى القاهرة ومنها الى جنيف. وعمد الى تنوير مؤيديه عما وصلت اليه مساعي حل القضية من دون اشارة الى اللقاء الذي سيبدأ بعد ساعات. وقبل ان ينتصف الليل، توجه المهدي الى منزل السيد الميرغني ليبلغه بحضور شقيقه الرئيس السوداني السابق احمد علي الميرغني، بأنه وافق على عرض الوساطة مع الترابي، مؤكداً انه سيتمسك بما اتفق عليه قادة المعارضة من وسائل لحل المشكلة السودانية. قدمت السلطات السويسرية تسهيلات كبيرة لاستقبال الضيفين ونقلهما الى مقر اقامة كل منهما. وعقدت الجلسة الاولى في احد فنادق جنيف. غير ان مكانها انكشف قبل ان تنفضّ، فتداعى اللاجئون السودانيون من مختلف مدن سويسرا ليرابطوا امام الفندق لمعرفة شيء عما يدور داخل حجراته المغلقة، فاضطر الوسيط الى نقل ضيفيه الى منزله الفخم . ليس سهلاً معرفة ما طرقته المحادثات اذ حرص الترابي والمهدي على تكتمها، الى درجة ان الاول هدد في كلمة القاها امام حشد في مدينة عطبرة العمالية في شمال السودان، قبل سفره الى جنيف بثلاثة ايام، بأنه سيكشف أدقّ التفاصيل ان انتهك الطرف الآخر "اتفاق جنتلمان" على كتمان الاتصالات بين الحكم والمعارضة. غير ان الخلفية الاهم تتمثل في رغبة الترابي المعلنة منذ سنوات في التوصل الى تنسيق بين الجبهة الاسلامية القومية وحزب الامة. وهو حلم ينظر نظراً شديداً الى امكانات حزب الامة الجماهيرية. وهي رغبة معلنة لأن الترابي قدمها الى المهدي والميرغني اثناء اجتماعهما في سجن كوبر الخرطومي الشهير اثر وقوع انقلاب 1989. وهي لا تختلف كثيراً عن رغبة دفينة في نفس المهدي في قيام "حزب جامع مانع" . كل ذلك اثار الهلع في نفوس المعارضين الذين ظلوا يقولون على الدوام أن المهدي والترابي وجهان لعملة واحدة. وهو تطابق حقيقي، لكنه بمقدار، اذ ان صادق بقي ديموقراطياً على الدوام حتى في ظل احلام الحزب الجامع المهيمن الذي دعا اليه، فيما يميل الترابي الى بلوغ مراميه من خلال اجراءات تختصر الوقت وتتخطى العقبات. وزادت تلك التكهنات المخاوف في نفوس المعارضة والموالين على حد سواء، لأن كثيرين يدركون جيداً مدى الخصومة التي يكنّها الترابي للميرغني، فهو يرى ان الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي يتزعمه الميرغني جسد هلامي تمكن صياغته حسبما هو مطلوب. ولا بد ان لقاء جنيف تطرق الى شكل الساحة السياسية في ظل النظام الجديد الذي سيسفر عنه اتفاق جنيف، ويعني ذلك ضمناً التطرق الى وضع الميرغني ومصيره في الترتيبات الجديدة. ولا شك في ان لقاء جنيف بحث بتركيز شديد في القضايا الآتية: - شكل الحكم الجديد: يتفق القطبان اصلاً على السعي الى اقامة جمهورية رئاسية على النمط الفرنسي، ولم يخف المهدي طموحه مراراً الى تسلم رئاسة البلاد بطريقة ديموقراطية. - هوية الحكم الجديد: للخروج من معضلة اسلامية الدولة وعلمانيتها تتجه النيّة لقبول دولة مدنية، لا هي اسلامية ولا هي علمانية. - الفترة الانتقالية: حكومة قومية غير حزبية برئاسة الفريق البشير. وهي فكرة اعلن مسؤولو حزب الامة استعدادهم لقبولها قبل لقاء جنيف ببضعة اسابيع . - التعاون: موافقة على تنسيق بين حزب الامة والجبهة الاسلامية القومية، خصوصاً في ما يتعلق بمشكلة جنوب السودان . هل كان المهدي بحاجة الى لقاء جنيف؟ نعم. اذ ان قراءته لواقع المعارضة السودانية قادته منذ البداية الى التململ من دور القوى الخارجية في الشأن السوداني. وما لبث ان ادرك ان المعارضة الخارجية ستواجه تضييقاً شديداً في الفترة المقبلة وذلك بناء على المعطيات الآتية: - اقليمياً: بدأت اريتريا، وهي القاعدة الرئيسية للمعارضة السودانية، تنقاد بكل ثقلها للانشغال بحربها مع اثيوبيا. واضحت ترى ان مصلحتها - كدولة - تحتم تسوية خلافاتها مع الخرطوم لاعتبارات استراتيجية. كما ان يوغندا - الحليف الاساسي ل"الجيش الشعبي لتحرير السودان" - توقفت عن دعم المعارضة السودانية بسبب انهماكها في مشكلة منطقة البحيرات الكبرى وتدخلها عسكرياً في الكونغو. - عربياً: ما حطّ رحال المهدي في قصر رئيس او حاكم عربي الا قيل له ان على السودانيين، خصوصاً الشماليين، التوصل الى اتفاق بينهم، لأن خلاف الشماليين قوة للجنوبيين، ولأن الجنوب متدحرج نحو الانفصال اذا لم يتسن تدارك الامر. - غربياً: ابلغ مندوبو بلدان الاتحاد الاوروبي اقطاب المعارضة الشمالية السودانية بأن اوروبا ضاقت ذرعاً بمرآهم يتناحرون على كراسي السلطة غير عابئين بالمجاعة والتخلّف والاوبئة. كل تلك العوامل أرغمت المهدي على الظهور بمظهر الراغب في الحوار. ويعني ذلك ان حزب الامة لا يتوقع نتيجة فورية من لقاء جنيف، فهو لا تزال لديه شكوكه في صدقية الترابي واخلاص نيته. ولكن هل يعني ذلك ان الذهاب الى جنيف كان مجرد تظاهر بالرغبة في الحوار. ولماذا يحاور الترابي؟ هل بات في موقع ضعيف داخل جبهته؟ هل يواجه النظام ظروفاً عصيبة؟ لقد تعوّد السودانيون - نظاماً ومعارضة ومتفرجين - انه لا يمكن التكهن بما ينوي الترابي الاقدام عليه. وكان مثيراً انه حتى 26 نيسان ابريل الماضي كان يكيل السباب لقادة المعارضة ويصفهم بأنهم شخصيات تجاوزها الزمن. وما كان مستعداً لقبول الدعوة الى جنيف من اول وهلة، فهو لا يعرف الوسيط كامل الطيب ادريس ولم يطمئن الى حسن نياته الا بعد تطمينات من وزير الخارجية الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل. غير ان قبول الرحلة الى جنيف حقق انجازات مهمة للترابي، فهو استعار لهجة جماعة "مذكرة العشرة" التي سعت الى تقليص صلاحياته اميناً للحزب الحاكم قبل اشهر، ليبدو اكثر حرصاً منها على الوفاق الذي كوّنت له آلية رسمية تحت اشراف علي عثمان محمد طه النائب الاول لرئيس الجمهورية. ان ذهاب الترابي الى جنيف ابلغ دليل على قدرته الفريدة على ترميم التماسك داخل تنظيمه الحاكم، فهو لا يتحدث عن آلية، وانما يصنع الوفاق بنفسه. وعلاوة على ذلك فان ثمة حديثاً عن تململ داخل الجيش من استمرار المواجهات بين الفرقاء شرقاً وغرباً وجنوباً. كما ان تحقيق الوفاق بالطريقة التي يريدها الترابي هو وحده السبيل المضمون للتحكم في النظام الديموقراطي الجديد بما يضمن بقاء تنظيم الترابي بشكل فاعل . ويرى خبراء ان النظام السوداني يواجه احد خيارين: إما قبول الكونفيديرالية وتحمّل تبعات الانفصال، وإما التوصل الى حل سياسي يبقي على وحدة البلاد ويتيح بقاء الجبهة الاسلامية القومية بالحد الادنى لنفوذها الحالي. وبالطبع فان الخيار الثاني لا يمكن الترابي الاتجاه نحوه ما لم يضمن تنسيقاً مع حزب بحجم "الأمة". وفي نهاية المطاف يبدو ان حزب الامة قرر المضي وحده في محاولة التوصل الى اتفاق مع النظام. فقد خرج الحزب عملياً عن تحالفه مع الميرغني وبقية فصائل المعارضة منذ ان تقدم المهدي بتصور جديد لاعادة النظر في هيكلة التجمع الوطني. ويقول حزبيون مقرّبون الى المهدي ان رئيس الوزراء السابق، حريص على الميرغني وحده، غير عابئ بالآخرين، للانضمام الى التفاهم مع حكومة الخرطوم. ويبقى السيناريو الارجح ان يتوصل قطبا "لقاء جنيف" الى شكل ديموقراطي للتغيير، وليس مجرد تسوية سياسية تنتهي بتعيين المهدي في منصب رئاسي او حكومي، فهو لم يتول منصباً من دون انتخاب منذ ولوجه الساحة السياسية اواسط الستينات. ولا شك في انه يدرك مدى هيمنة الجبهة الاسلامية على مقاليد الامور في البلاد منذ عشر سنوات، والارجح انه قد لا يطالب بحل ينطوي على اجراء انتخابات، لانه لا يضمن فيها فوزاً في ظل تلك الهيمنة. وقد يطالب بالعودة الى البرلمان الذي انتخب العام 1986، او على الاقل ان تعتمد الاوزان التي شكّلت نتيجة انتخابات العام 1986. ويمكن، في حال معارضة الميرغني الانضمام الى الوفاق، ان يقتسم حزبا الامة والجبهة المشهد السياسي بنسبة 65 في المئة للاول و30 في المئة للثاني، وهي نسبة تكفي لتشكيل حكومة انتقالية قادرة على التفاوض مع الجيش الشعبي لتحرير السودان في شأن تقرير المصير. لكن اين موقع الميرغني مما يحدث؟ المعروف عن الميرغني انه شديد الإعراض عن الصحافة، ويكلّف اعوانه بإطلاق تصريحات متضاربة ليحتضن منها ما لم يحدث رد فعل مناوئاً. وقد لجأ الى الصمت كعادته. ومن المؤسف ان الميرغني سيكون خاسراً ان اقبل على وفاق جنيف او رفضه. فإذا قبل الانضمام الى الترتيبات الجديدة سيجد نفسه في السودان وحيداً بوجه تنسيق بين حزبي الامة والجبهة الاسلامية وهو تعاون لا يمكنه اكتساحه، خصوصا ان بنية الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي يتزعمه مهلهلة وتفتقر الى المؤسسية. واذا رفض الوفاق فسيكون مكتوباً عليه البقاء خارج البلاد حتى تقف جيوشه على ابواب الخرطوم ليفرض شرطه التاريخي "سلِّم تَسْلَمْ" او ما يسميه "اقتلاع النظام من جذوره" وهو خيار عسير، خصوصاً ان الرجل يخطو نحو السبعين. انه يستطيع عملياً الصمود بالتحالف مع "الجيش الشعبي لتحرير السودان" والفصائل الجهوية والشيوعيين. ولكن هل سيجد مثل هذا الحلف اجواء دولية مهيأة لقبول استمرار خيار الحرب الشمالية - الجنوبية والشمالية - الشمالية؟ وبالطبع فإن خيار استمرار المعارضة تواجهه حالياً الضبابية الناجمة عن معاهدة الدوحة، ولا شك في ان الميرغني يستشعر خوفاً من تبدّل موقف أفورقي لأن التوجه الجديد يأتي لتحقيق مصلحة الدولة الاريترية وهي اعلى شأناً من مصالح المعارضة السودانية. وليس امام الميرغني - عملياً - سوى توقع ما يمكن ان يقوم به رجل اعمال وثيق الصلة به لجهة اقناع الخرطوم بقبول صفقة لا تُضار فيها مصالح الاتحاديين