تبدو السياسة في السودان، لناظر بغير تعمق، مثل جوانب أخرى كثيرة في الحياة السودانية: غارقة في التخلف، فوضوية و"بلدية" للغاية. فخلال الأشهر الأربعة الماضية شهدت العملية السياسية في السودان تطورات مثيرة، واستقطابات وتحالفات جديدة-قديمة. وعلى غير ما كان متوقعاً، فوجئت الأطراف الإقليمية بموقف أميركي جديد على لسان وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، يرفض أن تكون لجارتي السودان مصر وليبيا كلمة في شأن مستقبل السودان، ويرفض أن تكون للسودانيين كلمة في قنوات الحل التي يمكنهم أن يرتضوا قراراتها لوضع حد لمشكلتهم التي لم تعرف خموداً منذ إستقلال بلادهم عن بريطانيا في 1956. وفي الوقت نفسه تسارعت وتيرة التنافس والمشاحنات بين القادة السودانين، فاندلعت خصومات بين قطبيه الرئسييين الرئيس عمر البشير والدكتور حسن الترابي، خصوصاً في ما يتعلق بسبل حسم الخلاف مع المعارضة. ومرة أخرى يبدو أن اللاعبين الرئيسيين في رسم مستقبل البلاد بقيا يتصديان للمهمة بالحيوية نفسها . وهذا اللاعبان الماهران هما بلا منازع الدكتور الترابي رئيس المجلس الوطني البرلمان والأمين العام لحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم الجبهة الإسلامية القوميةسابقاً، والسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة ورئيس الحكومة السابق. غير أنه مهما كانت شدة قلق السودانيين مما يحدق ببلادهم في الآونة الحاضرة، فإن ما يحصل حالياً حدث في السابق، وإن تباينت شدة المخاطر حيال نتائج تفاقم النزاع. وفي هذا السياق فإن حالة الحكم المركب من مزيج من العسكريين والمدنيين ليست فريدة بحد ذاتها في التاريخ السياسي الحديث في السودان. ومن عجب أن القطبين نفسهما، اللذين بقيا يتحكمان بمصير السياسة السودانية عقوداً، لم يعتبرا من نتيجة ما حصل سابقاً: أن المدنيين مهما زينوا للعسكريين فوائد التحالف بينهم، ووفروا لهم الغطاء الآيديولوجي للنظام بما يكفي لإسباغ صدقية وشرعية عليه، فهم في نهاية المطاف لن ينجحوا في زحزحة العسكريين، والتجربة السياسية المعارضة غنية في السودان بالنماذج: في تشرين الثاني نوفمبر 1958 أقنع رئيس الوزراء الامين العام لحزب الأمة الأميرالاي عبد الله بك خليل القائد العام للجيش الفريق ابراهيم عبود بالاستيلاء على السلطة، على أمل أن يكون واجهة للحكم الى أن تتم إعادة ترتيب الأوضاع الحزبية وإدخال الضوابط المطلوبة على العملية الديموقراطية. وحين تضاربت المصالح، وتفاقمت الخلافات، تعرض النظام العسكري لمحاولة إنقلاب، لكنه نجح في إحباطها، وبفضل ذلك بقي الفريق عبود رئيساً للدولة ست سنوات. في أيار مايو 1969 أقنع قادة الحزب الشيوعي السوداني، خصوصاً أمينه العام عبد الخالق محجوب، العقيد جعفر محمد نميري بتزعم تغيير عسكري أسفر عن إطاحة حكومة الرئيس الراحل محمد أحمد محجوب . ولكن سرعان ما دب الخلاف بين الحليفين، المدني والعسكري، واتهم الشيوعيون نميري بسرقة شعارات اليسار، وهتفوا ضده. وفي 19 تموز يوليو 1971 فاجأوه بانقلاب مضاد. لكن نميري نجح في إحباطه وبقي رئيساً للبلاد 16 عاماً. في حزيران 1989 هيأ الدكتور الترابي الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية أجواء إنقلاب رداً على تدخل الجيش وإرغامه رئيس الوزراء الصادق المهدي على إخراج الجبهة الإسلامية القومية من الإئتلاف الحاكم. ووقع الاختيار على العميد عمر البشير لقيادة الإنقلاب. ومع أن الأخير لا يزال يحكم البلاد منذ عشر سنوات، فهو يريد - كما يبدو - أن يكتب له الاستمرار في موقعه الحالي مزيداً من السنوات، على أن يكون حِلاً من دفع ثمن الصيغة التي جاءت به الى الحكم، ووفرت وقوداً فكرياً للنظام، وقدمت حلولاً عملية للمشكلات التي جيء بالنظام لوضع حد لها. مثقفون وضباط ولا بد أن الرئيس البشير وجد من يزينون له حسنات الفكاك من قيد الجبهة الإسلامية القومية، فمثل هؤلاء وسط المثقفين والضباط السودانيين كثر، فقد خرج الأستاذ أحمد خير المحامي من رحم "مؤتمر الخريجين" الذي وضع نهاية للإستعمار البريطاني، وشكل ملامح أول تجربة ديموقراطية في البلاد، ليتزعم الديبلوماسية السودانية تحت قيادة الفريق ابراهيم عبود. وجاء الدكتور منصور خالد من قلب الصفوة المتعلمة ليصنع للمشير نميري من الدستور والقوانين وشبكات العلاقات الخارجية ما جعله مزهواً في قصره سنوات عدة. ولم يلبث الفريق البشير أن وجد عبد الباسط سبدرات وبكري حسن صالح وغيرهما. ولكن هل يملك أي من طرفي هذا الصراع الداخلي أن يحسمه لمصلحته؟ إن السياسة السودانية - مثل السياسة في كل بلاد الأرض - قُلّب، والأمر فيها دُول. وقد تعلم السودانيون بالتجربة أنه لا جدوى من الإزدراء بالحاكم حتى تلتصق به صورة الغباء وعدم التوفيق، ليفاجأوا به لاعباً مقتدراً وداهية يستطيع اللعب بكل الرؤوس والبقاء ضد كل الاحتمالات والتوقعات. قالوا ما قالوا في عبد الله التعايشي خليفة الإمام المهدي الكبير ، وحسبوا أن الأمر لن يستوي له، فبقي يحكم البلاد بقبضة من حديد 13 عاماً، حتى غزت بريطانيا دولته في 1898. وتقولوا على نميري الأقاويل، ووصفوه أيما صفات، لكنه بقي حاكماً 16 عاماً. لكن حالة الفريق البشير أكثر من خاصة. فقد كان نميري ضابطاً وطنياً غير ذي ميول سياسية، على رغم انتمائه أسرياً الى أنصار بيت الإمام المهدي. ولم يكن شيوعياً، ولا حزبياً ، حين طلب منه قادة الحزب الشيوعي السوداني أن يتزعم انقلاب أيار مايو 1969. أما الفريق البشير فهو خرج من صلب المؤسسة الحزبية التي جاءت بفكرة الإنقلاب، ونفذته عناصرها في الألوية العسكرية المختلفة. لم يأت ممثلاً للقوات المسلحة، وبقي منذ تسلمه السلطة ينفذ سياسة الحزب تجاه كل المؤسسات الوطنية، وفي طليعتها القوات المسلحة. وقد مهر الفريق البشير بتوقيعه قرارات إحالة عدد كبير للغاية من ضباط الجيش، خصوصاً أبناء دفعته وأصدقائه. وهيأ له التنظيم الحيل الدستورية المناسبة للتخلص من أعضاء مجلس قيادة ثورة الإنقاذ، وكان المقابل تنصيبه رئيساً تحت ستار التحول من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية. ومنذ البداية كان هناك توجس بين العسكريين الذين دعوا الى الإنضمام الى الركب "الإنقاذي"، بدعوى أنه تحرك باركته القيادة العامة للقوات المسلحة، وبين المدنيين الذين أنشأوا للنظام جيشاً موازياً للجيش النظامي ميليشيا قوات الدفاع الشعبي. وتسنى لي أن أسأل قيادياً من المقربين الى الترابي، وثورة الإنقاذ الوطني لم تكن قد أطفأت شمعتها الثالثة، ماذا هم فاعلون للتحسب من يوم يشهر فيه العسكر بنادقهم لإخراس كل الحجج، فرد المسؤول باستسلام: "والله إنه احتمال نسأل الله اللطف فيه". ووقعت حواد ث عدة أوشكت أن تسفر عن صدام حقيقي بين البشير والترابي، وأمكن تجاوزها، لكن لا بد أن بعض رواسبها علق بنفوس مسؤولين من الجانبين المتحالفين. فقد تحدث الترابي ذات مرة عن سماح اثيوبيا للجيش السوداني بالالتفاف عبر أراضيها لاسترداد بلدة استراتيجية في ولاية أعالي النيل في جنوب السودان. واضطر الرئيس السوداني الى إصدار إيضاح ذكر فيه أن الترابي لا شأن له بأمور الدولة، ولم يكن يملك معلومات صحيحة في هذا الشأن. وحدث شيء مماثل حين سارع الترابي الى كشف خطته لتصفية مجلس قيادة الثورة، مما أثار حفيظة الفريق البشير فأصدر تصريحاً مناوئاً شديد اللهجة. ولكن عملياً ما هي القوة الحقيقية لكل من طرفي النزاع داخل السودان؟ صحيح أن الفريق البشير يتولى منصب القائد الأعلى للجيش، ولكن ماذا بقي من الجيش الذي كان الرئيس السوداني ضابطاً لامعاً من ضباطه قبل العام 1989؟ تقول مصادر تنظيم "القيادة الشرعية للقوات المسلحة" التي عزلها البشير غداة انقلابه على الحكومة المنتخبة إن حوالي ثلاثة آلاف ضابط أحيلوا الى التقاعد. ووصل الضباط الإسلاميون في العام الحالي الى رتبتي مقدم وعقيد، ويدين هؤلاء بالولاء الى المرجعية الوحيدة للإسلاميين السودانيين وهو الدكتور الترابي. وحتى إذا زج البشير بالجيش لحسم أي معركة لمصلحته، فإن بإمكان الجناح الآخر أن يستعين بميليشيا "قوات الدفاع الشعبي" التي تتضمن فصيلاً إنتحارياً يسمى "الدبابون"، أي الذين يصطادون الدبابات ويفجرون أنفسهم فيها لتدميرها. لكن هل يستطيع الرئيس السوداني أن يحدث أنقلاباً داخل النظام نفسه يقصي بموجبه الجبهة الإسلامية القومية أو الترابي وحده على الأقل؟ حسب سياسيين سودانيين إن ذلك ممكن من الناحية النظرية، غير أن مثل هذا الإنقلاب سيكون بحاجة الى سند شعبي لا يوفره غير حزب سياسي كبير مستعد للإنتحار بتكرار تجربة حكم الفئة الوحيدة. وهو دعم لا يبدو أن المهدي أوالميرغني على استعداد لتقديمه الى الرئيس السوداني. اذ يفضلان أن يتوصلا الى تفاهم، وإن لاحت شرائطه متشددة، مع الترابي يتيح تعددية يمكن التباري فيها بشرف ونزاهة، ولا ضير إن بقي الترابي زعيماً لتنظيم باسم جديد، لكنه تنظيم يملك رصيداً في إدارة الدولة. والملاحظ أن الترابي الذي صار أشد صرامة بعد إحباطه محاولة تقليص صلاحياته في ما عرف ب "مذكرة العشرة" التي قدمها مسؤولون كبار من أبرز القادة الذين هيأ لهم العمل مع الترابي فرص القيادة، عمد الى الطواف على مناطق السودان، خاطباً ود بيوتات المشائخ الدينية، والجنوبيين والنميريين، ثم حزم أمره والتقى شقيق زوجته الصادق المهدي في جنيف. لهذا يدرك رئيس البرلمان السوداني أنه بعدما ضمن تأييد القطاعات المذكورة، ونجح في ضبط الموالين له، في ما يشبه فرزاً نهائياً، مقبل على مرحلة جديدة في سياق تطوره التاريخي ودوره المتجذر في السياسة السودانية. وكان شأنه في كل من المراحل التي خاضها أن يهيئ لحزبه القديم اسماً جديداً وتركيبة جديدة من القيادات. وفي كل من تلك المراحل الاخوان المسلمين، جبهة الميثاق الإسلامي، الإتجاه الإسلامي، الجبهة الإسلامية القومية، المؤتمر الوطني كان الانتقال الى المرحلة الجديدة سبباً مناسباً لإسقاط القادة الذين اختلفوا مع الترابي. وكانت "مذكرة العشرة" "طعنة في الظهر" للقائد الذي سهر على منظومة الحزب حتى انتقل بها الى مرحلة الدولة الإسلامية. وقد رأينا كيف نجح الشيخ المجرب في قطع السبيل أمام العشرة ومؤيديهم، وهم قلة، فحيل دون نجاحهم في انتخابات عضوية مجلس شورى "المؤتمر الوطني" ومجلسه القيادي، وهما أكبر مؤسستين في الحزب تشرفان على وضع ومتابعة تنفيذ سياسات الدولة. وبات عادياً أن يتحدث المسؤولون من جانبي "الأزمة بين رئاسة الجمهورية والنادي الكاثوليكي" المقر الحالي للحزب الحاكم . وتزايدت بسبب هذا النزاع شكوك جناحي النظام حيال ولاء العناصر التي ألفت قلوبها من كيانات حزبية محظورة، وتقوم هذه العناصر بدور كبير في تسيير دفة العمل التنفيذي في القصر الرئاسي. ولا يبدو أعوان رئيس البرلمان في عجلة لإبداء أي رد فعل على هذه الولاءات التي تتشكل خارج دائرة التنظيم الأساسي الحاكم. كانت "مذكرة العشرة" حداً فاصلاً دفع الترابي الى الإقدام عملياً على تنفيذ فكرة التوصل الى حل سياسي لمشكلة الحكم في البلاد من خلال حوار سوداني-سوداني. وهي فكرة أخرى تشاء المصادفات أن يكون خصم النظام الصادق المهدي مؤمناً بها وداعية إليها. وبدأ يتكشف أن تنفيذ اتفاق جنيف "المسكوت عنه"، بين قطبي الرحى في المعادلة السياسية السودانية، يتطلب تغييرات وتضحيات. وقد يضطر الترابي الى إعادة صوغ منظومته وتغيير مسار أهدافها وخطابها، مضحياً بأجيال من قياداته الوسيطة والشابة. وقد يضطر المهدي الى الإنسحاب من تجمع المعارضة الخارجي. وقد يجد الميرغني نفسه مضطراً للتراجع عن لاءاته الشهيرة وإنذاره الناري للنظام "سلم تسلم"، لئلا يعود المهدي ليتحالف مع الترابي فيكون نصيبه البقاء في المعارضة بقية حياته. والحقيقة أن فكرة المخرج السوداني-السوداني نبعت لدى كل من الترابي والمهدي من منبع مختلف. فقد شارك المهدي في المعارضة الداخلية والخارجية منذ عهد نميري، وأدرك بلا ما لا يدع مجالاً للشك أن القوى الخارجية - مهما كان قربها الى السودان - تهمها مصالحها قبل مصلحة السودانيين. أما الترابي فهو يائس من كل المبادرات، ولم يبال بالتقليل من شأن معظمها علناً، لأنه لا توجد أصلاً أسباب تدعوه الى الإطمئنان الى أي قناة خارجية للوساطة، فهو شديد التوجس حيال نيات المصريين، وليست ثمة علاقة عملية بينه وبين معظم عواصم الخليج العربي سوى علاقاته الدافئة مع القطريين. أما علاقاته المغاربية فهي مقطوعة مع تونس والجزائر، ولا وجود لها مع موريتانيا، وهي عادية للغاية مع المغرب، ومشوبة بالتشكيك والتوجس مع ليبيا. ومعلومة هي مواقف الغرب - خصوصاًالولاياتالمتحدةوبريطانيا - إزاء الترابي والجبهة الإسلامية القومية التي يتزعمها. عملياً ليس أمامه سوى الحوار السوداني-السوداني، لأن أي حوار بمشاركة طرف ثالث لن يعطيه الأقرب الى ما يريد. والأحرى أن أي طرف ثالث أقرب في تصوره للديموقراطية السودانية الممكنة حقاً الى الأحزب المعارضة منه الى تصورات الترابي. وإذا كان المهدي قد أدرك خطورة العامل الخارجي بحكم جولاته وأسفاره الكثيرة، وبقائه في المنفى، وبفضل ثقافته السياسية، فإن عزلة النظام في الخرطوم لا بد أن تكون قد قادت الترابي الى ذلك. وقد أضحى من المسلّم به أن الأزمة في السودان لم تعد قضية سودانية فحسب، خصوصاً أن التأثير الأجنبي على المنطقة كبير وواضح، الى درجة أن التدخلات الدولية في القرن الافريقي وشمال القارة ووسطها أضحت أكبر من الإرادة الإقليمية والوطنية لدول المنطقة. ولا بد أن الترابي والمهدي يدركان جيدا أن المنطقة تفتقر - في شقيها العربي والإفريقي - الى نماذج ناجحة لوساطات وحلول حقيقية للنزاعات الحدودية. والملاحظ أن التسويات الإقليمية والبينية أضحت تطبخ خارج المنطقة، ولا شك في أن الترابي والمهدي يعرفان أن عليهما أن يدفعا الآن ثمن استخدام القوى السياسية السودانية الكبيرة أداة في إقرار حق جنوب السودان في تقرير مصيره. ويشعر غالبية السودانيين بأن هذه العبارة القانونية الفضفاضة ستعني فصل جنوب السودان في نهاية المطاف. إن تلهف المهدي للقاء البشير، وموافقته السابقة على لقاء الترابي في جنيف تعتبران بنظر خصومه داخل التحالف الوطني المعارض "هرولة" نحو النظام، وسعياً الى تحصيل مكاسب ومناصب. غير أن الصادق المهدي نفسه لا ينظر الى الأمور بذلك المنظار، فهو ينطلق من معاني البيت الشعري الذي دأب على الترنّم به: اذا احتربت فسالت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها الى جانب استناده الى مقولة البحث عن حل سوداني-سوداني، وتلك من جدلياته السياسية التي عرف بها. لا معنى عنده للعداء مع خصم يمكن التوصل معه الى اتفاق سلمي. غير أن السودانيين يشعرون على نطاق واسع بأنه على رغم المصاهرة التي تربط المهدي بالترابي، وعلى رغم التقاءاتهما الفكرية، فإن الإرتياب والحذر ديدن العلاقة بينهما، مهما كان شأن التقارب الذي قد يقبلان عليه. ويشير منتقدو لقاء المهدي-البشير الى أن رئيس الوزراء السابق قابل الرئيس السوداني أكثر من 15 مرة داخل السودان، وقال مراراًِ إن النظام كان يلعب معه لعبة القط والفأر، ولعل ذلك كان دليلاً بالنسبة الى رئيس الوزراء السابق علي أن أوراق الحل ليست بيد البشير. وهنا يقفز السؤال الذي يخشاه المهدي ومؤيدوه: لماذا غادر السودان أصلاً؟ وماذا يتوقع من البشير في لقائهما الأول منذ مغادرته البلاد؟ وكيف يحصل من البشير على ما لم يحصل عليه من الترابي في جنيف؟ ولكن هل المعارضة تنحصر كلها بالمهدي؟ الواقع أن المعارضة تحلم بصدام دموي بين البشير والترابي، وهي عملياً مرحلة ممكنة نظرياً، لكن الوصول إليها يتطلب ظروفاً معينة. وهي لم تحصل بعد، وإن كان قادة النظام قد وصلوا إليها نفسياً. ويعتقد سودانيون كثيرون بأن الترابي ومؤيدوه سينجحون في تسوية خلافاتهم الراهنة، لأن الخلاف بينهم ليس على الغايات وإنما على الوسائل فحسب. لكن كثيرين يرون أن الترابي قرر أن يتحمل ثمن انفتاحه على الرأي الآخر حتى لو أدى ذلك الى تغيير في بنية الحركة الإسلامية التي يتزعمها منذ أربعة عقود . ويقول أقطاب المعارضة السودانية في القاهرة وإسمرا إنهم يفضلون التفاوض مع الترابي، وليس البشير. ويعللون ذلك بالقول إنهم يعتقدون بأن الأخير يحكم ولا يملك، وأن أي إتفاق يتم التوصل إليه سيكون الترابي أكثر قدرة على تنفيذه. ويشيرون الى أنهم غير مقتنعين بحرص البشير على تولي رئاسة لجنة الوفاق والسلام الحكومية التي قررت أخيراً إعادة الممتلكات المصادرة وإطلاق المعتقلين السياسيين، إذ كان حتى نهاية آب أغسطس الماضي يعلن أنه لن يكون هناك مكان للمعارضين في النظام ما لم يستحموا في ماء البحر ليغتسلوا من أوزارهم في حق الوطن قبل أن ينضموا الى النظام. وهناك من يرون أن المهدي ربما أراد بلقائه الرئيس السوداني قطع الطريق أمام احتمال تفاهم بين البشير والميرغني، خصوصاً أن الرئيس السوداني لم يخف مراراً إنتماءه الى أسرة تلتزم الطريقة الختمية التي يتزعمها الميرغني. لكن المراقبين يجزمون بأن مصر ليس لديها أي اهتمام بالتوصل الى ترتيبات مع رئيس البرلمان السوداني، إذ حاولت مراراً التفاهم معه، لكنها صرفت النظر عن ذلك نهائياً في أعقاب المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا العام 1995. ولا شك في أن القاهرة لا تزال تبحث عن بديل للواء الزبير محمد صالح النائب الأول للرئيس السوداني الذي قضى في حادثة طائرة في جنوب السودان قبل عامين. كما أن ليبيا التي تتطلع إليها بعض الفئات السودانية لم تبرأ من جروح عزلتها، وليس من المحتمل أن تكون قادرة على الدخول في مواجهات مع الغرب بسبب السودان، لكن العقيد معمر القذافي يستطيع استغلال علاقاته الوثيقة مع بلدان القارة لتعزيز وحدة السودان وإغلاق ملف الإنفصال نهائياً. صحيح أن السودان يشهد تحركات واسعة، وتوقعات كبيرة. غير أن التناقض الذي تتسم به مصالح أبنائه من السياسيين والزعماء الحزبيين والقادة العسكريين يجعل التكهن بمستقبله القريب رجماً بالغيب. ولأن قادته يدركون ذلك فستبقى عيونهم مفتوحة على كل الاحتمالات، وإن كانت غالبيتهم تفضل حلاً سودانياً -سودانياً تشهد توقيعه جهات دولية وإقليمية لضمان عدم تعثر التسوية المرتقبة. ولذلك، والى حين إشعار آخر، سيظل غد السودانيين محملاً بالكثير من التوقعات، والكثير من المماحكات، والكثير من المناورات بين قطبي رحى السياسة السودانية... العسكر والمثقفين. مليون ميل مربع ومليون مبادرة سلام ووفاق! كانت الخلافات بين الفرقاء السودانيين سبباً في ظهور عدد من المبادرات ومساعي الوساطة التي لم يكتب لأي منها التوفيق، لضعف الوسيط أحياناً وعدم قبوله من أكثر من طرف من الأطراف المعنية بالأزمة، ولضعف حماسة بعض الوسطاء الذين تكشف لهم لاحقاً أن الجمع بين السودانيين مثل الجمع بين الأضداد، وحكمه في المنطق الإستحالة. وإذا كان السودان قد عرف بأنه "بلد المليون ميل مربع" كما يحلو لبنيه أن يسموه، فهو يستحق - بلا منازع - أن يوصف بأنه "بلد المليون مبادرة"! في ما يأتي ثبت لأهم مبادرات الوساطة لتسوية الأزمة السودانية: مبادرة الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة: دعوة وجهت الى الفرقاء السودانيين للبحث في خلافاتهم ومحاولة حلها . رحب الفريق عمر البشير بالمبادرة، لكن الدكتور حسن الترابي قلل من شأنها. سعى الرئيس السابق جعفر نميري - قبل عودته الى البلاد من منفاه - الى تفعيلها لكنها لم تنجح. مبادرة الخليفة عبد الرحيم الخليفة محمد وقيع الله البرعي، وهو شيخ ورع يرعى مؤسسة دينية أهلية كبيرة في بادية كردفان غرب السودان. وأسفرت عن قيامه باتصالات مع عدد من أقطاب السياسة السودانية في الداخل والخارج. ولم يكتب لمسعاه التوفيق لنفوره الطبيعي من السياسة ودهائها وتعرجاتها. مبادرة الشيخ حمد الجعلي، وهو رجل دين من شمال السودان يحظى باحترام واسع على الصعيدين الديني والاجتماعي. وقد أجرى اتصالات في جدة مع زعامة التجمع الوطني الديموقراطي المعارضة. ولم تقطع المبادرة شوطاً يذكر لاعتمادها على صاحبها الذي منعه كبر السن من القيام بالجولات المكوكية التي تتطلبها رعاية مبادرات من هذا القبيل. مبادرة السيد فتح الرحمن البشير، وهو رجل أعمال سوداني برز اسمه منتصف السبعينات حين نجح في القيام بوساطة ناجحة بين الرئيس جعفر نميري وقادة الجبهة الوطنية السودانية المعارضة. وانتهت المبادرة بلقاء ناجح في بورتسودان بين المهدي ونميري. وتردد مراراً حديث عن وساطة ينوي القيام بها بين الحكم الحالي والمعارضة. غير أنه لم يطلق اي مبادرة معروفة حتى الآن. مبادرة السلام السودانية: توصلت إليها لجنة رباعية تابعة لمنظمة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف ايغاد، وتقتصر على التفاوض بين الحكومة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان بزعامة العقيد جون قرنق. المبادرة المصرية-الليبية المشتركة: بدأت ليبية فحسب، وهي واردة في نص "إعلان طرابلس" الذي أصدرته الهيئة العليا لقيادة التجمع الوطني الديموقراطي السوداني المعارض إثر إجتماعات عقدها أقطابها مع المسؤولين الليبيين في آب أغسطس 1999. وأعلن المعارضون والحاكمون في السودان قبولهم المبادرة الليبية. وسارعت مصر حيث تقيم المعارضة السودانية الى الإنضمام إليها بتنسيق مع القيادة الليبية. وعلى رغم أن العقيد قرنق وافق عليها، إلا أنه عاد بتشجيع من وزيرة الخارجية الأميركية الى التنصل من تأييده لها. مبادرة جنوب إفريقيا: سعى الرئيس السابق نيلسون مانديلا الى الجمع بين الرئيس السوداني وزعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان، تلبية لطلب من الخرطوم. غير أن المبادرة أخفقت إثر رفض قرنق لقاء البشير. ولم يتحمس مانديلا لمواصلة جهده، لفتور في علاقته الشخصية مع الرئيس الكيني. مبادرة ماليزيا: طلبت الحكومة السودانية من كوالالمبور السعي الى حل خلافاتها مع الجيش الشعبي لتحرير السودان وأوغندا التي تتهمها الخرطوم بمساندة العقيد قرنق. وحاولت ماليزيا تنسيق تحركاتها مع بريتوريا وكمبالا. وعين رئيس الوزراء الماليزي الدكتور مهاتير محمد مبعوثاً خاصاً أوفده الى جنوب إفريقيا وأوغندا وكينيا. وما لبثت المبادرة الماليزية أن توقفت. مبادرة الهندي: أعلنها الشريف زين العابدين يوسف الهندي الامين العام السابق للحزب الاتحادي الديموقراطي. وبلغت ذروتها بلقاء الهندي والبشير في منزل السفير السوداني في القاهرة. وتوجت بعودة الهندي وأعوانه . مبادرة صلاح إدريس: وهو رجل الأعمال الذي دمرت الولاياتالمتحدة مصنع الشفاء للأدوية الذي يملكه. وتردد أنه اقترح اجتماعاً بين النائب الأول للرئيس السوداني وزعيم المعارضة السيد محمد عثمان الميرغني. لكن أعوان رئيس البرلمان الدكتور حسن الترابي أبدوا تشاؤماً حيال إمكان نجاح وساطة من هذا القبيل. مبادرة كامل الطيب: وصاحبها هو الدكتور كامل الطيب إدريس المدير العام لمنظمة الأممالمتحدة لحماية الملكية الفكرية. وقام بجولات مكوكية بين القاهرة وجنيف والخرطوم، وتوج جهوده باستضافة لقاء جنيف بين المهدي والترابي. المبادرة السعودية: نفت السعودية أن تكون لديها مبادرة لإحلال الوفاق بين السودانيين. وقال وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل إن مسؤولين سودانيين التمسوا من الرياض استضافة الفرقاء ليديروا مفاوضاتهم بأنفسهم. واتضح لاحقاً أن مسؤولاً حكومياً سودانياً وزير في ولاية العاصمة اتصل بطريقة غير رسمية بمسؤولين سعوديين في هذا الشأن. وأعلنت المملكة، على لسان وزير خارجيتها، تأييدها للمبادرة المصرية-الليبية المشتركة. وتطمح قطاعات من السودانيين الى أن تستضيف المملكة حشداً من السودانيين على غرار مؤتمر الطائف الذي أدى الى وقف الحرب الأهلية اللبنانية. وقد اقترح الدكتور الترابي أن يعقد المؤتمر السوداني في مكةالمكرمة. وردّ الميرغني، في كلمة ألقاها في أسمرا في 17 تشرين الثاني 1999، مشيراً الى أن الترابي يدرك أن عدداً من الفرقاء لا يحق لهم دخول المدينة المقدسة. مبادرة الحوار السوداني-السوداني: وهذا هو الاسم الذي أطلقه عليها رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي في بيان أصدره حزب الأمة الذي يتزعمه في القاهرة في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. ويبدو - بمنظور ماضوي - أن هذه المبادرة التي أطلقها المهدي إثر سلسلة من المبادرات ومشاريع السلام منذ وقوع الانقلاب الذي أطاح حكومته في 1989 ولدت عملياً في أيار مايو الماضي بلقائه الترابي في جنيف، وهو اللقاء الذي اقام السودانيين ولم يقعدهم. ويلخص المهدي فكرته الجديدة-القديمة بالقول، في بيان أصدره في 16 تشرين الثاني 1999، "الحل الصحيح هو أن يتجه الجميع للمؤتمر القومي الجامع لحسم كافة التناقضات وإبرام اتفاقية السلام العادل ووضع أسس الشرعية الديموقراطية التي تنظم الإحتكام للشعب".