لم يفارق الشك المسؤولين البريطانيين بنيات العقيد معمر القذافي حتى اللحظة الأخيرة في شأن تسليم المتهمين عبدالباسط المقراحي والأمين خليفة تمهيداً لمحاكمتهما في هولندا، على رغم تحديد رئيس جنوب افريقيا نيلسون مانديلا موعداً لذلك في السادس من الشهر المقبل. ويقول مسؤول بريطاني معني بملف لوكربي ان السلطات البريطانية تبقى متحفظة على رغم ترحيبها بالجهود التي بذلتها دول في مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية وجنوب افريقيا، الى أن تحط الطائرة التي تقل المتهمين على الأرض الهولندية. ويقول ديريك فاتشيت وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية ل "الوسط" ان الرئيس مانديلا والموفد السعودي الأمير بندر بن سلطان بذلا جهوداً كبيرة لاقناع العقيد القذافي بأن الوقت قد حان للاستجابة لطلبات المجتمع الدولي، خصوصاً ان الولاياتالمتحدةوبريطانيا استمعتا الى طلبات الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية ومواقفهما في شأن أهمية محاكمة المتهمين في بلد ثالث، وهو أمر أقرته واشنطنولندن، ولم يترك مجالاً لليبيا سوى تنفيذ ما قطعته من وعود لكل الوسطاء. وكشف مسؤول بريطاني ان روبن كوك وزير الخارجية البريطاني كان أول من بادر الى فتح ملف لوكربي فور فوز حزب العمال في الانتخابات العامة التي جرت في أيار مايو العام 1997. وقال المسؤول ان كوك طلب عقد اجتماع فوري لكل الأقسام المعنية بملف لوكربي في الحكومة البريطانية من أجل درس الخطوات الواجب اتخاذها لايجاد حل للأزمة. وقد تتالت الاجتماعات البريطانية، وأوفد وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية فاتشت لمتابعة الأمر، في حين بادر كوك الى مناقشة الموضوع مع نظيرته الأميركية مادلين اولبرايت حين زارته في لندن للتهنئة بتسلمه منصبه، وللاعلان ان العلاقات المميزة والخاصة التي تربط لندنوواشنطن لم تكن في وقت من الأوقات أوثق وأمتن مما هي عليه حالياً. ولعل هذه العلاقة المميزة بين طوني بلير والرئيس بيل كلينتون هي التي أعطت بريطانيا حرية أكبر في مجال اجراء الاتصالات مع الموفدين العرب والأفارقة لحل هذه الأزمة. ولعل من حسن حظ طرابلس وربما نباهة بعض مسؤوليها ان قنوات الاتصال مع جهات بريطانية مختلفة كانت مفتوحة على الدوام. فقد بادرت الجماهيرية الى الاتصال بمحامين كبار في اسكتلندا للوقوف على رأيهم في شأن المحاكمة في حال حصولها وتفاصيل أخرى تتعلق بحق المتهمين في الدفاع عن أنفسهم، وأشياء أخرى تتعلق بنزاهة هذا القضاء واستقلاله عن القضاء البريطاني وعدم خضوعه بأي شكل من الأشكال لتوجهات الحكومة البريطانية. وساهم استقبال ليبيا المتواصل لنواب بريطانيين يمثلون مختلف الأحزاب البريطانية في زيادة الخطوات الايجابية التي جعلت نقل الرسائل بين العاصمتين وسيلة من الوسائل، ما شجع ليبيا على تأكيد ان اعتراضها على المحاكمة ليس ناجماً عن خشيتها من ادانتها بقدر ما كان يتعلق بشكها من أن التركيز على اجراء المحاكمة في اسكتلندا أو الولاياتالمتحدة، ربما يهدف الى جر الحكومة الليبية، وخصوصاً العقيد القذافي الى محاكمة أكبر تنتهي بالادانة وتمهد لشن حرب شاملة ضد ليبيا تمهد لاسقاط الحكم. ولم يعد سراً ان كل الاتصالات التي جرت على مدى العام الماضي أو حتى قبل ذلك بقليل تمحورت حول حصول ليبيا على ضمانات بأن لا تتحول محاكمة خليفة والمقراحي الى محاكمة للنظام الليبي، وهو أمر نجح الموفدون في الحصول عليه من واشنطنولندن، بعدما كانوا نجحوا في الحصول على كل التعهدات التي تضمن محاكمة عادلة، واجواء تتوافر فيها كل الشروط الضرورية التي تمكن المتهمين من استقبال زوارهم وذويهم في حال سجنهم في اسكتلندا. ويقول خبراء في القانون الاسكتلندي ان أكثر من موفد من الأممالمتحدة، زار اسكتلندا وناقش مع مكتب شؤون اسكتلندا في الحكومة البريطانية ما يترتب عليه سجن المتهمين فيها، من زيارات، وتأمين طعام وفق التقاليد الاسلامية. وذهب المسؤولون البريطانيون خطوة أبعد من ذلك عندما أقروا بالسماح بفتح قنصلية ليبية في اسكتلندا تكون على مقربة من سجن المتهمين ويتولى المسؤولون فيها الاطلاع عن كثب على معاملتهم. ويعترف مسؤول بريطاني بأن البصمات النهائية على اتفاق تسليم المتهمين كانت جاهزة منذ شهرين على الأقل كما أن السيناريو المتعلق بتفاصيل الاعلان الليبي عن الموافقة تم درسه والاتفاق على مضمونه من قبل المسؤولين البريطانيين والأميركيين من جهة والوسطاء، ومن بين التفاصيل التي اتفق عليها ان يتولى العقيد القذافي الاعلان عن نيته تسليم المتهمين للمحاكمة في بلد ثالث وفقاً للشروط الليبية، وأن سجن المتهمين الليبيين في حال تمت ادانتهما في سجن اسكتلندي سيخضع لمراقبة فريق من الأممالمتحدة، وهو أمر نفاه المسؤولون البريطانيون مؤكدين ان مثل هذا الأمر لن يخضع الا لاشراف بريطاني، في حين لن تمانع بريطانيا في أن تتولى أي جهة، سواء كانت ليبيا أم أهالي المعتقلين، تفقدهم. وتعتبر لندن انها حققت انجازاً مهماً إذ أخضعت ليبيا لشروطها من خلال نجاحها في فرض هيئة قضاة اسكتلندية لتولي الاشراف على المحاكمة، بدلاً من المطالبة الليبية بأن يتولى قضاة دوليون النظر فيها. ويشير المسؤولون البريطانيون الى أن ما حصل بالفعل من تقدم على صعيد أزمة لوكربي يعكس رغبة بريطانية وأميركية بالاقتصاص للضحايا وكشف كل ما من شأنه وضع حد للتكهنات حول الجهة التي تقف وراء تفجير الطائرة. وأكثر الناس فرحاً بقرب كشف الغموض الذي لف هذه القضية هو ذوو الضحايا. ويقول جيم سواير ممثل أسر ضحايا لوكربي من البريطانيين، انه زار ليبيا واجتمع الى العقيد القذافي الذي أكد براءة بلاده من التهم الموجهة اليها، وأضاف سواير انه من الصعب الحديث عن سجن المتهمين وشكل العقوبة التي سيتعرضان لها قبل ادانتهما. وبانتظار وصول المتهمين الى هولندا، وتهيئة الأجواء المناسبة لاجراء المحاكمة، يبقى السؤال المهم: ماذا لو بُرئت ليبيا من هذه التهمة؟ فهل تقع بريطانيا ومعها الولاياتالمتحدة في حرج جديد يضطرهما الى البحث عن ضحية جديدة؟!