مثلما كان متوقعاً، أصدرت المحكمة الجنائية الخاصة في باريس حكماً غيابياً بالسجن المؤبد ضد الليبيين الستة الذين دينوا بتفجير طائرة "يوتا" الفرنسية فوق صحراء النيجر في أيلول سبتمبر 1989 ما أدى الى مقتل 170 شخصاً، وبين الأشخاص المدانين زوج شقيقة العقيد معمر القذافي عبدالله السنوسي نائب رئيس الاستخبارات الليبية الخارجية. لكن صدور الأحكام لا يمثل نهاية هذه القضية التي استمرت أكثر من 10 سنوات، اذ من المتوقع أن تكون المرحلة التالية للبحث في التعويضات التي أبدت ليبيا أكثر من مرة استعدادها لدفعها لعائلات ضحايا الطائرة. لم يكن العقىد معمر القذافي يحتاج الى جهد كبير كي لا تتحول محاكمة الليبيين الستة في فرنسا بتهمة تفجير طائرة يوتا الفرنسية، الى محاكمة عامة للنظام الليبي. فقد مرت الجلسات الأولى مرور الكرام تقريباً على رأي عام فرنسي منشغل بقضايا أخرى. والواقع ان حسن الحظ كان الى جانب العقيد القذافي بنسبة كبيرة. فقد أشارت مصادره الى ان طرابلس كانت قد طالبت بتأجيل المحاكمة، لكن فرنسا أصرت على الموعد المحدد وشاءت الصدف ان تتزامن المحاكمة مع إضراب نفذه موظفو وصحافيو وكالة الصحافة الفرنسية التي تزود وسائل الاعلام المرئية والمسموعة ببرقياتها الاساسية، وكما تزامن ايضاً مع اعطال تقنية، حالت دون صدور صحيفة "لوموند" الواسعة الانتشار. غير ان "المصادفات السعيدة" التي ترافقت مع جلسات المحاكمة ليست محصورة بالجانب الاعلامي وحده، فالمداولات الجارية لترتيب محاكمة الليبيين المتهمين في قضية لوكربي والمساومات الدائرة في شأنها، وتقديم ضمانات اميركية وبريطانية بعدم تحويل القضية الى مضبطة اتهام للنظام الليبي وتدخل دول عربية نافذة في المفاوضات، كل ذلك اشاع مناخاً حول ليبيا لا يساعد على شن حملة هجومية على نظام الجماهيرية. لكن ماذا جاء في قرار الاتهام الموجه الى ست شخصيات ليبية، بينها عبدالله السنوسي، قريب القذافي ونائب رئيس الاستخبارات؟ يقول الإتهام ان المعارض الكونغولي أبو لينير مانغتاني كان سيء الحظ مرتين. مرة عندما اقتنع بأن الجماهيرية سند لتغيير ديموقراطي اشتراكي في بلاده، ومرة أخرى عندما صدق ان حقيبة السمسونايت الرمادية التي تسلمها من الديبلوماسي الليبي عبدالله الأزرق في 19 ايلول سبتبمر 1989 لتسليمها الى شخص مهم في باريس، خالية من الأذى، فقاده حظه السيئ الى صحراء النيجر حيث انفجرت الحقيبة في بطن طائرة "يوتا" وأدت الى مقتل ركاب الرحلة الرقم 772 المنطلقة من برازفيل مروراً بنجامينا وصولاً الى العاصمة الفرنسية. وفاجأ حادث الطائرة في ذلك الحين، الأجهزة الفرنسية التي لم تجد سبباً قوياً يدعو طرفاً عربياً ما الى الانتقام من فرنسا بمثل هذه العملية الفظيعة. فالعقيد القذافي كان يبذل جهوداً حثيثة لإصلاح أموره مع فرنسا وكانت العلاقات الفرنسية - الليبية تشهد انتعاشاً ملحوظاً، ذلك ان الزعيم الليبي كان قد بدأ يدرك ان السياسة السوفياتية التي يستند اليها تنهار بوتيرة متسارعة مع "البريسترويكا" و"الغلاسنوت" في العهد الغورباتشوفي، واكتشف ذلك مبكراً في العام 1986 عندما تعرض منزله لقصف اميركي مركز من دون ان يصدر رد فعل سوفياتي من عيار الاعتداء الاميركي. واكتشف ايضاً ان التراجع السوفياتي كان سبباً حاسماً في هزيمة قواته في تشاد وانحسارها الى الحدود الدولية الليبية واشتراك فرنسا للمرة الأولى وبطريقة مكشوفة في معارك العام 1987. ولأنه يعرف ذلك حاول ان يعيد العلاقات مع باريس الى مسارها الطبيعي ونجح في مهمته، تماماً بحسب رجل اعمال جزائري كان بين الوسطاء. وأصيب الفرنسيون بالحيرة ايضاً، عندما طرحوا الفرضية اللبنانية أو الايرانية أو السورية، فلبنان كان في حينه بصدد طي صفحة الحرب عبر اتفاق الطائف ومباركة فرنسا لهذا الاتفاق وهي التي تسلمت آخر رهائنها في لبنان قبل عام من ذلك التاريخ وكذا الأمر بالنسبة الى ايران التي لم تعد لديها حسابات تصفيها مع فرنسا بسبب موقفها الداعم للعراق في الحرب الايرانية - العراقية التي انتهت العام 1989، أما سورية فلم تكن لها مصلحة حقيقية في استهداف فرنسا، وهي التي كانت تسعى للحصول على مباركة باريس للسياسة السورية في لبنان. ويبقى كارلوس وغيره من قادة الحركات المتطرفين الذين كانوا ايضاً قد بدأوا بإعادة النظر بحساباتهم ولم تعد لديهم قواعد انطلاق مضمونة من دول تشاركهم ويشاركونها في قطف ثمار عمليات ارهابية من هذا النوع. وفي غياب الدوافع الصريحة والمفهومة لتفجير الطائرة الفرنسية فوق صحراء النيجير، ووضع القضاء الفرنسي فرضية عامة مفادها ان العمل ارهابي وان التحقيق الدقيق من شأنه ان يكشف الخيوط ويتيح رسم سيناريو واقعي لها. وانطلقت التحقيقات على الفور من مكان انطلاق الطائرة، أي من برازفيل عاصمة الكونغو حيث تتمتع الاجهزة الفرنسية بحرية عمل كبيرة، واتجهت الانظار بداية نحو ليبيا وبدأت تتركز أكثر فأكثر عندما انضمت فرنسا الى بريطانياوالولاياتالمتحدة ليشترك الطرفان معاً في استصدار قرار من مجلس الأمن يطالب ليبيا بتسليم متهمين في قضية تفجير طائرة بان اميركان فوق مدينة لوكربي في اسكتلندا العام 1988 والتعاون مع القضاء الفرنسي في التحقيقات الجارية في شأن تفجير "يوتا". ورفضت طرابلس تلبية الطلبين، فاستصدر الطرفان قراراً من مجلس الأمن بفرض عقوبات دولية على طرابلس ما زالت مستمرة منذ العام 1992. في هذا الوقت بدا أن باريسوواشنطن ترغبان فعلاً في الوصول الى قمة هرم النظام الليبي أكثر من أي شيء آخر، وعليه حاول قاضي التحقيق الفرنسي جان لوي بروغيير تلبية دعوة السلطات الليبية للتحقيق مع المتهمين الليبيين الستة في حادث "يوتا" بطريقة اعتبرها الليبيون استفزازية، اذ استقل بارجة حربية مدججة بالمدافع وأراد الرسو في ميناء العاصمة طرابلس، لكنه تلقى إنذاراً ليبياً بالعودة من حيث أتى، وبذلك توصل الى استنتاج بأن السلطات المحلية رفضت التعاون ما أدى الى تشديد العقوبات الدولية على هذا البلد. ومنذ ان تسلم ملف القضية قام بروغيير بأكثر من 50 رحلة الى الخارج قادته الى بلدان افريقية وأوروبية وعربية والى الولاياتالمتحدة، ونقل 15 طناً من حطام الطائرة الى مطار لوبورجيه قرب باريس واعاد تركيب الهيكل ليتوصل الى كشف حقيقة الانفجار وأداته ونوع المتفجيرات المستخدمة وجهاز التفجير... الخ. وعندما توافرت لديه جميع المعطيات ومن ضمنها هوية أبو لينير فانغتاني ونوع صلاته أخذ يوجه اتهامات محددة الى ستة من المسؤولين الليبيين. اعتبر بروغيير ان عبدالله الأزرق وهو ديبلوماسي كان يعمل في السفارة الليبية في برازافييل، زود المعارض الكونغولي بحقيبة السمسونايت الرمادية وغادر مقر عمله متوجهاً فجأة الى ليبيا بعد مرور ستة أيام على الانفجار ولم يعد منذ ذلك الحين الى الكونغو، ويؤكد بروغيير ان الأزرق ورفاقه ينتمون جميعاً الى الاستخبارات الخارجية الليبية. واتهم القاضي الفرنسي الديبلوماسيين ابراهيم نايلي ومصباح عرباس بالحضور الى الكونغو قبل اقلاع طائرة يوتا وبأنهما اشتركا مع عبدالله الأزرق في اقناع أبو لينير فانغتاني بنقل الحقيبة المذكورة ولم يعبأ بالحجة التي قدمتها السلطات الليبية بأن الرجلين كانا في الكونغو لترتيب صفقة لشراء الاخشاب. واتهم القاضي الفرنسي السيد عيسى الشيباني بتوفير جهاز التفجير الالكتروني للحقيبة الملغومة، فهو بنظره ضابط في الاستخبارات الليبية ومسؤول عن المسائل التقنية وسبق له ان استورد 100 جهاز مماثل من المانيا قبل حادث الطائرة. والمتهم الخامس في الملف هو ضابط الاستخبارات عبدالسلام حمودة المتهم بالتنسيق بين رفاقه المذكورين، والسادس هو عبدالله السنوسي الرجل الثاني في الاستخبارات الخارجية الليبية وصهر القذافي زوج اخته وهو متهم بتوفير العبوة الناسفة التي استخدمت في التفجير. ولم يتأخر جان لوي بروغيير بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق المتهمين المذكورين مطالباً بجلبهم الى قاعة المحكمة اثناء الجلسات، ولكن اللافت ان فرنسا لم تشترط تسليمهم كما اشترطت اميركا بتسليم المتهمين الأمين فحيمة وعبدالسلام المقراحي في قضية لوكربي، واعتبرت باريس انها لا تقبل بذلك لأنها ببساطة ترفض تسليم مواطنيها لدول اجنبية وبالتالي لا تستطيع ان تفرض على ليبيا ما ترفضه لنفسها. لكن التحقيق لم يقف عند هذا الحد، ففي العام 1995، ومع انتخاب جاك شيراك رئيساً للجمهورية في فرنسا، ومع سعي هذا الأخير لشحن علاقات بلاده العربية بطاقة جديدة، تم الاتفاق على زيارة "هادئة" يقوم بها القاضي بروغيير الى طرابلس، وهو ما تم بالفعل، حيث التقى القاضي الفرنسي في العام 1996 كل الأطراف والشخصيات التي حددها مسبقاً وعمل في ظل شروط مرضية ومن دون عقبات، حتى ان الليبيين سلموه حقيبة مماثلة للحقيبة التي استخدمت في تفجير طائرة "يوتا" وقالوا أنهم عثروا عليها مع معارض ليبي من أنصار السيد محمد المقريف الذي يعد من أبرز مناهضي نظام العقيد القذافي، وان الحقيبة المذكورة كانت معدة للقيام بعمل تخريبي ضد الدولة الليبية. ولدى عودته الى باريس أصدر بروغيير بياناً أكد فيه انه راض عن التعاون الذي أبدته السلطات الليبية وانما نقل عنه قوله انه اكتشف بنفسه الحقيبة المشار اليها في مقر الاستخبارات الليبية وانها دليل على تورط جهاز الاستخبارات في تفجير الطائرة الفرنسية. وهكذا تمكن القاضي الفرنسي من صياغة ملف التحقيق في قضية "يوتا" عبر 35 ألف صفحة وسلمه الى محكمة جزائية خاصة العام الماضي واختير موعد الثامن من آذار مارس الجاري لبدء محاكمة المتهمين غيابياً بسبب رفض ليبيا تسليمهم. لكن التطور الأبرز في هذا المجال تمثل في الكشف عن رسالة رسمية أرسلها العقيد القذافي الى الرئيس شيراك يتعهد فيها باحترام القضاء الفرنسي وقرارات المحكمة المكلفة بهذه القضية، وتعهد الزعيم الليبي بدفع تعويضات مالية تقدر بمئات الملايين من الدولارات شرط ألا تتحول المحاكمة من قضية جنائية الى قضية سياسية يقف فيها النظام الليبي في قفص الاتهام. وما يلفت في هذه المبادرة ان الرئيس شيراك، قام وللمرة الأولى في تاريخ الديبلوماسية الفرنسية، بإرسال خطاب العقيد القذافي الى القاضي بروغيير الذي ضمه الى الملف وتولت وسائل الاعلام الفرنسية نشر النص الحرفي للرسالة ما اعتبر بمثابة اعتراف ضمني من ليبيا بمسؤولية استخباراتها عن تفجير طائرة "يوتا". لكن التفسير الفرنسي للرسالة يختلف عن التفسير الليبي، فطرابلس تحدثت عن استعدادها لتعويض ذوي الضحايا الپ170 كبادرة انسانية من جهة، ولإنهاء قضية تسببت في إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الليبي من جراء الحصار الممتد منذ العام 1992. علماً بأن طرابلس لم تعترف يوماً بمسؤوليتها عن هذه العملية. والراجح ان اتفاقاً ضمنياً ارتسم بين فرنسا وليبيا لحسم هذه القضية بطريقة لا تطال النظام الليبي ولا تهضم حقوق ذوي الضحايا، في حين تظل دوافع عملية تفجير الطائرة مجهولة، ويظل الجواب عن السبب الفعلي للعملية طي الكتمان، وهو الأمر الذي يؤرق ذوي الضحايا الذين لا يكفون عن التساؤل عن سبب موت أقاربهم في صحراء النيجر. وفي غياب الجواب القاطع، عن هذا السؤال الخطير يحلو لبعضهم الحديث عن فرضيات من ضمنها ان التفجير كان يستهدف معارضاً ليبياً كبيراً يعتقد انه محمد المقريف أو انه تم لحساب جهات غير ليبية بوسائل ليبية، أو ان عناصر من الاستخبارات الليبية لم تهضم تماماً هزيمة العام 1987 وانتهزت الفرصة الأولى للانتقام من فرنسا... الخ. ولعل هذه الفرضيات لا تحل محل الجواب القاطع الذي تطلع اليه الادعاء. ويبقى القول ان فرنسا ترغب فعلاً في وضع حد لهذه القضية التي تجرجر نفسها منذ الحرب الباردة، لكنها أعربت مراراً عن ان نهاية القضية، بالصيغة المفترضة آنفاً، لا تعني تخليها عن حليفتها بريطانياوالولاياتالمتحدة، فقد أكدت باريس في أكثر من مناسبة ان تضامنها مع واشنطن ولندن سيظل قوياً حتى يتم الانتهاء من قضية لوكربي. من جهتها ستختبر الجماهيرية الليبية نيات البلدان الثلاثة الحقيقية من خلال سيناريو "يوتا" فإذا ما تأكدت انه محصور في الجانب القضائي وفي مستوى المتهمين، فإن ذلك سيشجعها على الانتقال مباشرة الى قضية لوكربي. فهل يتكرر سيناريو "يوتا" في قضية لوكربي؟ أم ان الولاياتالمتحدةوبريطانيا ستقلبان الطاولة رأساً على عقب منذ اللحظة التي ينتقل فيها المتهمان الليبيان الى لاهاي، إن أغلب الظن ان هذا السؤال يؤرق هذه الأيام السلطات الليبية