تبدي الاوساط الرسمية الليبية حذراً شديداً تجاه التطورات الاخيرة المتصلة بملف طائرة يوتا U.T.A الفرنسية التي انفجرت فوق صحراء النيجر في 19 ايلول سبتمبر 1989، ويتهم القضاء الفرنسي مسؤولين وعناصر في المخابرات الليبية بتفجيرها للرد على السياسة الفرنسية المناهضة في حينه لطرابلس في نزاعها مع تشاد. وعلى رغم التكتم الرسمي الليبي على تطورات هذا الملف فان مصادر فرنسية عدة تتحدث عن سيناريو لحل هذه القضية عبر محاكمة المتهمين الليبيين غيابياً واستبعاد النظام الليبي من قفص الاتهام، وفي المقابل لا تعترف ليبيا بالاحكام القضائية الصادرة بحق مواطنيها لكنها تتعهد بدفع تعويضات مالية لذوي ضحايا الطائرة البالغ عددهم 170. ويشكل هذا السيناريو، اذا تم وفق الاطار المرسوم، انتصاراً للقضاء الفرنسي الذي استطاع ان يكشف تفاصيل عملية التفجير ويحاكم المتهمين بالحادث الارهابي ويفرض التعويضات المناسبة، في حين يكون النظام الليبي نجا من المحاكمة وتخلص من احدى قضيتين تسببتا في فرض عقوبات دولية عليه. ولعل بقية اجزاء هذا السيناريو تساعد العقيد معمر القذافي على فتح صفحة جديدة في علاقاته مع فرنسا وتتيح له الافادة من السياسة العربية الجديدة التي تنتهجها باريس والقاضية بتعبئة الفراغ الذي نتج عن غياب النفوذ السوفياتي في العالم العربي. وعليه يمكن للقيادة الليبية ان تستفيد من الابتعاد النسبي لفرنسا عن السياسة الخارجية الاميركية، خصوصاً انها خبرت أهمية الموقف الفرنسي أواخر الصيف الماضي عندما عطلت باريس ودول اخرى مشروع قرار دولي جديد تقدمت به الولاياتالمتحدة لتوسيع اطار العقوبات على ليبيا بحيث تشمل الصادرات النفطية، وقد أدى الفشل الاميركي المذكور الى صدور قانون داماتو - كينيدي الذي يعاقب الشركات الدولية اذا ما أرادت الاستثمار في مجال الطاقة في ليبيا وايران. لكن كيف امكن التوصل الى "سيناريو" لحل المشاكل الفرنسية - الليبية المتصلة بقضية الطائرة الفرنسية وما هي فرص تطبيق هذا السيناريو؟ في الذكرى السابعة لعملية التفجير 19/9/1996 ختم القاضي الفرنسي جان لوي بروغيير تحقيقات في هذه القضية استمرت سبع سنوات قام خلالها بخمسين رحلة الى الخارج، واجرى تحريات خلال عام كامل في افريقيا واشرف على اعادة تركيب 20 طناً من حطام الطائرة المنفجرة في مستودع كبير في مطار لوبورجيه قرب باريس، واستعان في تحقيقاته وتحرياته بجهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية وبجهاز الشرطة القضائية وتمكن من الحصول على أدلة دامغة، حسب أوساطه، تثبت تورط مسؤولين وعناصر في جهاز الاستخبارات الليبية في تفجير الطائرة. وتفيد حصيلة المعلومات التي سربتها أوساط التحقيق ومحامو الضحايا وجمعية S.O.S Ahentatr التي تدافع عن ذوي ضحايا الحادث ان عملية التفجير تمت في المراحل التالية: 1- قبل الحادث بأيام سافر الى برازافيل عاصمة الكونغو الليبيان ابراهيم نايلي ومصباح عرباس تحت غطاء التجارة بالخشب وللتفاوض من اجل شراء اطنان من الخشب لمصلحة الجماهيرية الليبية لكنهما كانا ينقلان المتفجرات في حقيبة مفخخة. 2- عندما أصبحت الحقيبة جاهزة قام عبدالله الأزرق وهو ديبلوماسي يعمل في سفارة بلاده في برازافيل بتسليمها الى عميل محلي يدعى أبو لينير منغاتاني واشترى له بطاقة على رحلة الطائرة "دي. سي. 10" التابعة لشركة الطيران الفرنسية "U.T.A" وهي فرع من شركة الخطوط الجوية الفرنسية. وكانت الطائرة تستعد للقيام برحلة عادية من برازافيل الى باريس. وقال الأزرق لمنغاتاني ان عليه ان يسلمها الى شخص في باريس، لكن الحقيبة انفجرت على علو 10 آلاف متر فوق صحراء تينيريه في النيجر. 3- بعد انفجار الطائرة عثرت الاستخبارات الفرنسية على صديق لمنغاتاني هو برنار يانغا الذي كشف للقاضي بروغيير عن سبب وجود صديقه على الطائرة وعن علاقته بالأزرق. وكي لا يضيع هذا الشاهد أو يتعرض للموت احضرته الاستخبارات الفرنسية فيما بعد الى باريس حيث منح حق اللجوء السياسي في فرنسا، وهو شاهد اثبات مهم في هذه القضية. 4- بعد التقاط خيوط هذه الرواية أصدر القاضي بروغيير أربع مذكرات توقيف دولية بحق الليبيين الثلاثة المذكورين، اضافة الى عبدالله السنوسي وهو عديل العقيد معمر القذافي والرجل الثاني في المخابرات الليبية يومها بوصفه مشرفاً على العملية. 5- وأخيراً، وعلى أثر زيارة قام بها الى ليبيا في شهر تموز يوليو الماضي أصدر القاضي بروغيير مذكرتي توقيف دوليتين جديدتين بحق الليبيين عبدالسلام عيسى شيبامي وهو مسؤول تقني في الاستخبارات الليبية وعبدالسلام حمودة المقرب من السنوسي والذي يوصف بأنه عنصر عملاني في الاستخبارات نفسها. وأشارت مصادر التحقيق الى ان شيبامي متهم بأنه اشترى من المانيا جهاز التوقيت الذي استخدم في الحقيبة المتفجرة. وهكذا يتبين ان ستة ليبيين يعتبرهم القضاء الفرنسي متورطين في القضية، وبالتالي سيدخلون غيابياً قفص الاتهام في المحكمة الجزائية التي ستصدر احكامها في القضية. وتعتقد المصادر القضائية الفرنسية ان ملف التحقيق يضم اثباتات وبراهين قوية على دور الاستخبارات الليبية في تدبير الحادث وتنفيذه. ومن بين الاثباتات حقيبة مماثلة لتلك التي استخدمت في عملية التفجير حصل عليها القاضي خلال زيارته الاخيرة لليبيا، اضافة الى شاهد العيان الكونغولي برنار يانغا وأدلة اخرى من حطام الطائرة نفسها، ناهيك عن أقوال متناقضة جمعها القاضي الفرنسي خلال استجوابه في ليبيا في تموز يوليو الماضي عشرين مسؤولاً في جهاز الاستخبارات الليبي. واذا كانت عناصر الاتهام "قوية ودامغة" حسب المصادر الفرنسية فان الجانب الليبي ينفيها كلها، فالحقيبة التي جاء بها بروغيير من ليبيا، يقول الليبيون انهم عثروا عليها بعد "دهم أوساط معارضة" أما برنار يانغا الذي كشف رواية التفجير فيعتبره الليبيون متعاملاً مع الاستخبارات الفرنسية، كما يعتبرون ان أحد المتهمين الاساسيين في القضية مصباح عرباس توفي في حادث سيارة في 12 كانون الأول ديسمبر 1990، وسلمت السلطات الليبية القاضي الفرنسي وثائق تثبت وفاته، بما فيها تقرير حول تشريح جثته، لكن أوساط بروغيير تؤكد انه يحتفظ بأدلة على سفر المتهم المذكور الى اثينا عام 1992 بجواز سفر يحمل اسمه وصورته، والمفارقة التي تتصل بهذا المتهم ان "حادث موته" تلا صدور مذكرات التوقيف الدولية الفرنسية في العام 1990. في هذه الاثناء بعث العقيد القذافي برسالة مهمة الى الرئيس جاك شيراك في 26 آذار مارس الماضي أعرب فيها عن استعداده للتعاون مع القضاء الفرنسي والسماح للقاضي بروغيير بزيارة ليبيا واللقاء مع من يرغب من المسؤولين الليبيين. وتعهد القذافي في رسالته التي نشرتها مجلة "الاكسبرس" الفرنسية 19/9/1996 وأكدت صحتها مصادر رسمية في قصر الاليزيه، "بالاستجابة للطلبات الفرنسية اذا ما كانت النيات صافية واذا ما حصر الحادث تفجير الطائرة في اطاره القضائي البحت، شرط عدم التعرض للسيادة" الليبية. وعبر القذافي عن تمنيه "... بأن نجد معاً طريقاً آخر يضمن تحقيقاً قضائياً فرنسياً مطابقاً للطلبات الفرنسية من دون المساس بسيادة الجماهيرية" وأضاف: "... اذا ما توصل الجهاز القضائي الفرنسي، الذي نثق بموضوعيته، الى قناعة بأن مواطنين ليبيين تورطوا في هذه القضية، فلا شيء يمنعه من محاكمتهم غيابياً اذا كان القانون الفرنسي يسمح بذلك، وفي هذه الحالة، ستفي الجماهيرية بما يتوجب عليها اذا ما كانت الشروط التي يحددها القانون متوافرة". وبعد شهور قليلة على ورود الرسالة امتنعت فرنسا عن المشاركة في اقرار عقوبات دولية جديدة على ليبيا. واستبدلت سفيرها السابق في طرابلس بسفيرة جديدة في شهر آب اغسطس الماضي، وعندما تقدمت السيدة جوزيت دالان بأوراق اعتمادها الى العقيد القذافي، سارعت المصادر الرسمية الليبية الى استخلاص رسالة حارة من شيراك الى القذافي تشيد بالعلاقات الخاصة بالبلدين الأمر الذي نفته ببرودة مصادر الخارجية الفرنسية مؤكدة ان التقاليد الديبلوماسية تقضي بتبادل عبارات ودية في رسائل اعتماد السفراء وان الامر لا يخرج عن هذا الاطار. وعلى رغم ذلك فقد تزامن تغيير السفير الفرنسي في طرابلس مع زيارة القاضي بروغيير الى ليبيا الصيف الماضي وما رافقها من تسهيلات اعترفت بها اوساط القاضي نفسه. ولعل تعيين سفير جديد في ليبيا في هذا الوقت بالذات يفترض ان فرنسا عازمة فعلاً على انتهاج سياسة مختلفة حيال هذا البلد، خصوصا انها امتنعت عن الموافقة على صدور قرار جديد يشدد العقوبات على طرابلس ويطال الصادرات النفطية. ولا تتناقض هذه التطورات مع المنحى الاساسي للموقف الفرنسي من قضية الطائرة منذ البداية، فقد أكدت باريس من اللحظة الاولى لاندلاع هذا الحادث انها ترغب في التعاون قضائياً مع ليبيا لجلاء ملابسات الحادث، ولم تسعَ الى محاكمة النظام الليبي من خلاله، وان بدت خلال عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران انها لن تذرف الدمع على القذافي اذا ما أطيح به بفعل هذه القضية، وعليه تملك السلطات الفرنسية مفتاح المخرج القضائي للحادث وهي بصدد استخدام هذا المخرج الذي يرضي ذوي الضحايا ولا يتعارض مع سياسة شيراك العربية، ويتيح للجماهيرية الليبية التخلص من احدى القضيتين اللتين تسببتا في تعرضها للعقوبات الدولية. لكن الحسابات الليبية قد لا تكون متطابقة كلها مع الحسابات الفرنسية خصوصاً لجهة قضية لوكربي، فقد أكدت مصادر فرنسية في معرض التعليق على التطورات الأخيرة، ان باريس ستظل متضامنة مع واشنطن ولندن في هذا الموضوع بغض النظر عن المسار الذي ستسلكه قضية "يوتا".