ما ان أذيع نبأ عودة العاهل الأردني الملك حسين على عجل الى بلاده بعد فشل علاجه حتى اصيب الاردنيون بالذهول، فالملك الذي رعاهم منذ نحو نصف قرن يعلن نهايته بنفسه عبر بيان الديوان الملكي الذي اعلن ان العودة المفاجئة كانت بناء على "رغبة الملك الملحة". وهكذا عاد الملك حسين بلا أمل في الشفاء. وللمرة الأولى أفاق الأردنيون على الحقيقة المرة: ان غياب الملك بات محتوماً... وبدأوا يفكرون - للمرة الأولى - بالأردن بعد الحسين. وألفوا أنفسهم امام السؤال الكبير عن مصير الأردن بعد الملك حسين أو - بالأحرى - بعد نحو نصف قرن من حكمه؟ وهل سيتمتع نجله الأكبر الأمير عبدالله بالقدرة ذاتها التي استطاع بها الملك حسين ان يتجاوز الكثير من المحن والمنعطفات المصيرية؟ لقد لقي تعيين الأمير عبدالله ولياً لعهد الأردن دعماً دولياً عبرت عنه الولاياتالمتحدة بأوضح الصور من خلال زيارة وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت خصيصاً لتهنئته، وكذلك من خلال اتصالات زعماء العالم ودعمهم الأمير الشاب. على الصعيد العربي، وعلى رغم تحفظ بغدادودمشق عن التطورات المتلاحقة في الأردن باعتبارها "شأناً داخلياً"، فقد تلقى الأمير عبدالله ابن الحسين دعماً عربياً واضحاً، خصوصاً من دول مجلس التعاون الخليجي. هذا الدعم لم يقتصر على الجانب المعنوي، بل تعداه الى تعهد بضمان عدم تدهور الاقتصاد الأردني الذي يواجه صعوبات منذ سنوات عدة. وعلى الصعيد الاقليمي، ليس من مصلحة اسرائيل حدوث اي تغيير في الاردن، ولذلك فإن استمرار حكم الملك حسين ممثلاً في شخص نجله الأكبر لقي ترحيباً كبيراً في اسرائيل التي تخشى من أي تطور سلبي للأوضاع في المنطقة، خصوصاً انها ترتبط بمعاهدة سلام مع الاردن. يضاف الى ذلك ان استقرار الاردن حيوي لعملية السلام التي تنتظر نتائج الانتخابات الاسرائيلية وقرار اعلان الدولة الفلسطينية. كما ان استقرار الاردن بالغ الاهمية لمواجهة اي انهيار مفاجئ في العراق. أما على الصعيد الداخلي فليس في الأردن اي مؤشر سلبي الى الأوضاع السياسية او الاقتصادية، فقرار الملك حسين استبدال شقيقه الأمير حسن بنجله الأكبر قوبل بتأييد شعبي، لأنه قرار الملك أولاً، وكذلك بسبب الصورة الايجابية للأمير عبدالله، على رغم التعاطف الانساني مع الأمير حسن. واضافة الى ذلك فليس متوقعاً أي تغيير في سياسة الأردن الخارجية، خصوصاً حيال الأوضاع في المنطقة وفي مقدمها عملية السلام والأوضاع في العراق. اما على الصعيد الداخلي فلا احد يستطيع التكهن برد فعل الأمير عبدالله ازاء اي تطور جديد، خصوصاً انه لم يجرب حتى الآن في مثل هذه المواقف ولكن طبيعة الرجال الذين سيحيطون به في المستقبل القريب، وجميعهم من اعوان والده، ستدل الى نهجه في معالجة القضايا الداخلية والتعامل مع الشؤون الخارجية. غير ان هذه الصورة لن تتضح قبل مرور نحو شهرين، اي بعد ان ترسخ صورة الأمير عبدالله قائداً لبلاده، وانقضاء بعض الاستحقاقات الداخلية كدورة البرلمان العادية التي ينتظر بعدها ان يقوم عبدالله بن الحسين بسلسلة من التغييرات الهيكلية التي سيباشر بها عهده الجديد، بما في ذلك تشكيل الحكومة المقبلة، وربما ترسيخ الديموقراطية والحريات العامة باجراء انتخابات نيابية جديدة، والانفتاح على القوى السياسية والفاعليات الشعبية، مثلما كان يفعل والده على مدى نصف قرن. وقد انعكس الوضع الصحي الدقيق للملك حسين على كل مناحي الحياة الاردنية، باستثناء النشاط الملحوظ لولي العهد الجديد الأمير عبدالله الذي يحاول ان يطمئن المواطنين الاردنيين والعالم الخارجي على حد سواء بأن الاوضاع الاردنية مستقرة، ويجب ان تستمر على افضل وجه على رغم جميع الاحتمالات المستقبلية الصعبة. ففي أول زيارة له الى مقر الحكومة حيث ترأس مجلس الوزراء، أعلن الامير عبدالله انه سيبدأ زيارات ميدانية للوزارات والدوائر الرسمية ومؤسسات الدولة للاطلاع عن كثب على ادائها وتعاملها المباشر مع المواطنين. ولهذا الاعلان اهميته ليس على صعيد مواصلة ما بدأه الملك حسين منذ عشرات السنين فحسب، بل في ضرورة فتح ملف ترهل الجهاز الاداري الاردني الذي يعتبر احد اسباب المعضلة الاقتصادية في الاردن. فعلى سبيل المثال يستهلك الجهاز الاداري في الاردن اكثر من نصف الموازنة العامة على شكل رواتب ونفقات ثابتة. ولكن حماس الامير عبدالله سيحد منه في الوقت الراهن تراجع الثقة الشعبية بالسلطتين التنفيذية الحكومة والتشريعية البرلمان في التصدي لهموم المواطنين الاساسية، خصوصاً في ما يتعلق بمشكلتي البطالة والفقر المستفحلتين. وفي المقابل فإن الصورة الايجابية للامير عبدالله لدى المواطنين الاردنيين من جهة، والدعم العربي والدولي الملحوظ الذي حظي به الاردن في الفترة الاخيرة وارتبط بالتغيير الجديد، سيفسحان مجالاً واسعاً للأمير عبدالله لتحقيق نجاح ملموس على الصعيد الداخلي. فالدعم العربي والدولي الذي يلقاه الأمير عبدالله يبدو انه يتجاوز حدود الكلام العاطفي الى الموقف السياسي الحقيقي الذي يعني اولاً ضمان استقرار الاردن ودوره الاقليمي ودعم اقتصاده. وفي هذا الاطار كشف مسؤول اردني رفيع المستوى ان الاردن يتوقع وصول 750 مليون دولار من ثلاث دول خليجية الى البنك المركزي الاردني كوديعة بلا فوائد، لدعم احتياطي الاردن من العملات الصعبة بعد النقص الواضح فيه طوال الاشهر السبعة الماضية. ومن شأن هذه الضمانة استقرار سعر صرف الدينار الأردني وبالتالي الحيلولة دون انخفاضه وارتفاع الاسعار وتدني دخول المواطنين، كما ان من شأنها تغطية بعض الواردات الاساسية. وفي المقابل تسربت معلومات غير مؤكدة عن احتمال تزويد الاردن بالنفط السعودي والكويتي بأسعار تفضيلية جنباً الى جنب مع كميات من النفط العراقي الذي لا يزال المصدر الوحيد للأردن منذ الحرب العراقية - الايرانية، علماً بأن فاتورة النفط الأردنية السنوية تزيد على نصف مليار دولار يتزود الاردن بنصفها مجاناً. لكن جميع هذه التطورات والاحتمالات تطرح السؤال عن حجم التغيير المطلوب في الاردن لمواجهتها. ويتوقع سياسيون اردنيون ان تستمر الحكومة الحالية برئاسة الدكتور فايز الطراونة حتى شهر نيسان ابريل المقبل اي الى ما بعد انجلاء المرحلة الصعبة الراهنة والى فترة العطلة البرلمانية. الملك حسين: التعايش مع الاخطار "عرفت السراء والضراء. ولعل الضراء رجحت. وعانيت لحظات في غاية الشدة. ومرت بي فترات في أقصى درجات الضيق. وألمت بي أوقات كنت اشعر فيها بأنني في منتهى العزلة. وعرفت الحداد والاحزان، والنادر من الفرح، والقليل من السعادة. لقد عرفت كل ما يمكن ان يعرفه كائن بشري: الجوع والعطش والاذلال والهزيمة، والنادر من اليسار والبحبوحة، والقليل من السلام والراحة والابتهاج. ولما كنت اعلم ان مواطني، ومنذ الحرب العالمية الثانية لم يتذوقوا الا القليل من السعادة، فأنا ايضاً مثلهم لم اعرف من السعادة إلا أقلها". هكذا يلخص الملك حسين تاريخ حياته المثخن بجراح التجربة المرة، وهو الذي غدا في الآونة الاخيرة عميداً لزعماء العالم، اذ حكم الاردن نحو 46 سنة متصلة، وذاع صيته في الدنيا بأسرها كأحد الزعماء البارزين والحكماء. اما عن موقفه من الموت فيلخصه في مذكراته تحت عنوان "متاعب تؤرقني"، وذلك عقب مقتل جده ومعلمه الأول الملك عبدالله بن الحسين الذي سقط امام المسجد الاقصى في القدس في 20 تموز يوليو 1951، وكان الحسين الى جوار جده عندما اصابته رصاصة هو الآخر ارتطمت بالشارة المعدنية المعلقة فوق صدره وكان آنذاك لا يتجاوز السادسة عشرة. يقول الملك حسين في مذكراته: "في ذلك اليوم ادركت اهمية الموت، فعندما يكون مكتوباً عليك، فأنك ميت لا محالة، فذلك هو قضاء الله. وهكذا ادركت معنى ذلك السلام الداخلي الخاص الذي وهبه الله الى اولئك الذين لا يهابون الموت". ويبدو ان هذا الموقف المبكر من الموت يفسر الشجاعة النادرة والمعنويات العالية التي كان يتمتع بها الملك حسين حتى في أقسى الظروف، ومنها المرض الاخير الذي استدعى علاجه لمدة ستة اشهر متصلة في مستشفى "مايوكلينيك" في الولاياتالمتحدة، ثم عودته الى المستشفى في الرمق الاخير بعد اكتشاف فشل زراعة النخاع العظمي في المرة الاولى، كما في المرة الثانية. روى مسؤول اردني رفيع ل "الوسط" احداث الليلة الاخيرة التي قضاها الملك حسين في عمان واتخذ خلالها قراراً مصيرياً بعزل شقيقه الأمير حسن من ولاية العهد واستبداله بنجله الاكبر الامير عبدالله. فقال ان الملك حسين بدأ يكتب رسالته الطويلة الى شقيقه، وتوقف مراراً بسبب المرض الذي اشتد عليه، فأنجزها بعد منتصف الليل، ليغادر في الصباح التالي عائداً الى الولاياتالمتحدة لمواجهة المرض الخبيث من جديد. ويتابع المسؤول: "لم يذق أي من أفراد الأسرة المالكة وكبار المسؤولين طعماً للنوم ولم يصدق احد ان الملك سيتحمل عناء الرحلة الطويلة الى الولاياتالمتحدة. وبقينا غير مصدقين حتى اذيع نبأ وصوله فجر اليوم التالي". طوال حياته العاصفة واجه الملك حسين الموت مرات عديدة، لعل ابرزها اثناء محاولة الانقلاب العسكري ضده في 1957، ثم هجوم الفدائيين على موكبه بالرشاشات والقنابل اثناء احداث ايلول سبتمبر 1970. وقبلها عندما تعرضت طائرته المدنية للقصف من جانب طائرات حربية سورية اثناء محاولته عبور الاجواء السورية اواسط الستينات. على ان محاولات اغتيال الملك حسين لم تكن اقل وقعاً عليه من الاحداث العصيبة التي واجهها الاردن بقيادته طوال نحو نصف قرن، فقد تسلم مقاليد الحكم رسمياً ولما يكن بلغ الثامنة عشرة من عمره. فقد بلغ تلك السن في 2 أيار مايو 1953، وهو بحساب السنة القمرية، اي ان عمره بالتقويم الميلادي كان سبع عشرة سنة ونصف السنة. وفي اليوم ذاته كان ابن عمه فيصل الثاني وهو في مثل سنه ايضاً يتوج ملكاً على العراق. كان العالم يتغير بسرعة آنذاك، وبدأت ملامح المعسكرين الشرقي والغربي تتبلور بصورة واضحة. وكان العالم العربي يتململ بفعل حركات الاستقلال التي انجزت مشاريعها، او تلك التي كانت لا تزال تحاول، وتطلب دعم الجوار، وبلغت هذه الحركات ذروتها باندلاع ثورة الضباط الاحرار في مصر التي جاءت بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر ليصبح احد رموز التحرر في العالم العربي، ولتؤثر قيادته مصر في كثير من الدول العربية، خصوصاً مع تنامي الحركات القومية والشيوعية في المجتمعات العربية المستقلة حديثاً آنذاك. لم يكن الملك حسين يدرك، وهو فتى صغير، ان المرض لن يمهل والده الملك طلال الذي تسلم الحكم عقب مقتل الملك عبدالله في القدس. فبعد عام واحد فقط تبين ان الحالة الصحية للملك لن تتيح له حكم البلاد فنودي على الحسين ملكاً للأردن لينتظر عاماً كاملاً قبل ان يتسلم الحكم في العام التالي. وبعد ثلاث سنوات بدأت رحلة الملك الشاب مع المتاعب التي لا تنتهي. ففي 1956 بلغ الخلاف بينه وبين قائد الجيش الاردني الجنرال الانكليزي غلوب باشا مداه، اذ عجز الملك عن اقناع الجنرال بترقية عدد من الضباط الاردنيين وتهيئتهم لقيادة الجيش في المستقبل. واتخذ الملك حسين اول قرار تاريخي في حياته حين قرر طرد الجنرال غلوب ومعاونيه الانكليز وتعريب قيادة الجيش الاردني وانهاء المعاهدة البريطانية. قوبل قرار العاهل الاردني بارتياح عربي اكسبه شعبية خارج حدود بلاده للمرة الاولى. غير انه كاد ان يدفع ثمن قراره في العام التالي، اذ اضطر لاقالة الحكومة اليسارية برئاسة سليمان النابلسي بعدما حملتها الى السلطة نتائج الانتخابات البرلمانية، فتحالف اليساريون مع ضباط في الجيش ووقعت المحاولة الانقلابية الاولى ضده. لكن الملك احبطها بحنكته وشجاعته. يقول الملك حسين في مذكراته: "تعود اولى تجاربي كملك الى العام 1956 اي عام تعريب الجيش". ويقول عن محاولة الانقلاب: "وجدت نفسي وحدي تقريباً في خط اطلاق النار بين فريقين من الضباط. كيف استطعت ان أنجو بينما كان الرصاص يلامسني عن قرب وكنت احس برائحته وحرارته"؟ بعد ثلاثة اشهر من محاولة الانقلاب وقعت كارثة للملك حسين تمثلت في ثورة العراق ومقتل العائلة الهاشمية المالكة هناك، وكانت تمثل بقية مشروع الحكم الهاشمي في سورية والعراق. كان الملك حسين بنى استراتيجيته الاقليمية الاولى بالاتحاد مع العراق الاتحاد العربي رداً على الوحدة السورية - المصرية الجمهورية العربية المتحدة. وظهر بعد تلك الثورة اول خلاف علني بين الملك حسين والرئيس عبدالناصر عندما حمل الملك الرئيس المصري مسؤولية ما جرى في العراق. ولم يكد يمضي عامان حتى وقع للملك حادث جديد، اذ حدث انفجار في مبنى رئاسة الوزراء عقب خروجه منه فقتل رئيس الوزراء هزاع المجالي وهرب مدبرو الانفجار الى دمشق. وحدثت اول قطيعة بين الاردن وسورية في ذلك الوقت، اذ اغلقت دمشق حدودها مع الاردن لتحرمه التزود بالوقود وبعض المواد الغذائية الاساسية التي كانت تأتي من لبنان. كان الملك حسين قد ورث عن جده الملك عبدالله وحدة الضفتين في 1950، وأسفرت عن انتخاب برلمان مشترك من نواب الاردنوالضفة الغربية. وفي منتصف الستينات انشئت منظمة التحرير الفلسطينية وانتشرت كوادرها في الضفة الغربيةوالاردن. وبعد حرب 1967 التي شارك فيها اضحى الاردن مقراً للمنظمة وفصائلها المختلفة التوجهات والاهداف. واثر سلسلة من احداث العنف بلغت ذروتها في تفجير طائرتي ركاب أميركية وسويسرية بعد اجبارهما على الهبوط في الاراضي الاردنية، وقع الصدام في ايلول 1970، واستمر حتى العام التالي. فشعر الملك بأن نظامه مستهدف ليس من قبل الفدائيين بل من جانب دول عربية في مقدمها مصر، التي قدمت الدعم التسليحي والاعلامي، وسورية التي توغلت قواتها داخل الاراضي الاردنية لمساندة المنظمات الفدائية. وما كاد الملك حسين يلتقط انفساه حتى وقعت حرب اكتوبر 1973 التي لم يشارك فيها رسمياً، إذ ان الرئيسين انور السادات وحافظ الاسد لم يبلغاه بموعدها، ومع ذلك ارسل قواته الى سورية لتشارك في تعزيز القوات السورية. غير ان تلك الحرب التي ادت الى مفاوضات وقف اطلاق النار وفصل القوات ثم الى مبادرات لحل الصراع العربي - الاسرائيلي بدأت تستثني الاردن شيئاً فشيئاً، خصوصاً إثر قرار قمة الرباط في العام التالي اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. قبل ذلك التاريخ وبعده كانت وسائل الدعاية المصرية والسورية والعراقية تستهدف الملك حسين وتتهمه بالسعي الى الانفراد بالقضية الفلسطينية ومحاولة التوصل الى تسوية مع اسرائيل تعيد اليه بموجبها الضفة الغربية، وهي بموجب قرار مجلس الأمن رقم 242 اراض اردنية محتلة بموجب وحدة الضفتين. غير ان زيارة الرئيس السادات للقدس في 1977 وتوقيعه سلاماً منفرداً في العام التالي، ابعدا الملك عن دائرة الشكوك، بل ذهب ابعد من ذلك في حماسته لقمة بغداد التي نددت بالنهج المصري. ومع توفير مخصصات الدعم العربي لدول المواجهة، وبينها الاردن، ثم نشوب الحرب العراقية - الايرانية بعد اقل من عامين، اضافة الى تحويلات العاملين الاردنيين في دول الخليج العربي، تركز اهتمام الملك حسين على البناء، فشهد الاردن نهضة شاملة في مختلف المجالات، ولكن من دون ان ينسى الملك قيام بلاده بدور حيال تطورات الاوضاع في المنطقة عموماً، خصوصاً على صعيد القضية الفلسطينية التي عادت بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان لتشكل هماً يومياً بالنسبة الى الاردن اضافة الى دوره التاريخي حيالها. وبعد خروج المقاومة من بيروت زادت الضغوط الاميركية على الاردن للحاق بمصر، فذهب الملك حسين الى القاهرة معلناً ضرورة عودة مصر الى الصف العربي. وفي العام التالي 1985 وقع مع ياسر عرفات اتفاقاً للتنسيق بين الجانبين في ما يتعلق بالمبادرات الدولية المطروحة لحل الصراع العربي - الاسرائيلي. ولم تفلح جهوده في اقناع الجانب الفلسطيني بقبول مبادرة وزير الخارجية الاميركية السابق جورج شولتز، فانهار اتفاقه مع عرفات وعاد الخلاف مع المنظمة مرة اخرى. شهدت اواخر الثمانينات تراجعاً على مستوى الاقتصاد العالمي، وكان الاردن من ضحايا هذا التراجع فوقعت ازمة واندلعت اعمال الاحتجاج والشغب في 1989، وعالجها الملك حسين بالاصلاح السياسي، اذ ألغى الاحكام العرفية، وأمر باجراء الانتخابات النيابية للمرة الاولى منذ 1967، معلناً بداية مرحلة جديدة عنوانها الديموقراطية والمشاركة السياسية. واختبر العهد الجديد بكارثة الغزو العراقي للكويت التي دفع الاردن والملك حسين شخصياً ثمناً باهظاً لها، فتفاقمت ازماته الاقتصادية والاجتماعية وتزال. في 1992 اصيب الملك حسين بالسرطان في الحالب وعولج في مستشفى مايوكلينيك، وعاد الى عمان ليحظى باستقبال تاريخي من شعبه الذي خرج بأسره للاحتفاء بشفائه. وفي صيف 1995 التجأ اليه الفريق حسين كامل حسن المجيد، صهر الرئيس العراقي وساعده العسكري الأيمن، لتبدأ مرحلة جديدة من العداء بين عمانوبغداد. وفي تموز يوليو 1998 أصيب الملك حسين بسرطان الغدد اللمفاوية، وبدأت منذ ذلك التاريخ معاناته الجديدة مع المرض الخبيث. تعلم الملك حسين الطيران بعيد تسلمه الحكم مثلما اتقن قيادة السيارات وبعض فنون الرياضة الاخرى. وأمضى فترة حكمه الطويلة لاعباً سياسياً ماهراً حتى اضحى احد اشهر حكماء العالم. وهو بين الانواء والعواصف كان يقود السفينة الاردنية دوماً الى شاطئ الامان، اذ كان موفقاً في ايجاد المخارج من الازمات المتلاحقة، وهو الذي يعيش وسط دول قوية وغنية لم يسمح بالخلاف معها جميعاً في آن معاً. وعلى الصعيد الداخلي حقق شعبية واسعة، الى درجة بات مواطنوه يعتقدون بأنه يعرفهم فرداً فرداً، مثلما يعرفونه ويخاطبونه باسمه او بكنيته "ابو عبدالله". عن الموت يقول الملك حسين: "لا أخشاه اطلاقاً لأنني رأيته وجهاً لوجه في مرات عدة. انني لا اخشى إلا الله وحده". وهذا الموقف وعرفه الاردنيون بأحلى صوره خلال رحلة العلاج الاخيرة اذ تعهد الانتصار على المرض الخبيث وصارح مواطنيه غير مرة بأدق التفاصيل. واجه الملك حسين الحياة ومتطلبات الحكم بشجاعة نادرة. لكنه واجه المرض واحتمالات الغياب الصعبة بشجاعة اكبر.