"مات الملك عاش الملك" مقولة لن يرددها أحد في الأردن اليوم، وقاعدة لا تنطبق على هذا البلد الغارق في الحزن، والمصدوم إلى حد غير تصديق أنه سيستيقظ ذات صباح ولا يرى وجه مليكه الذي صار جزءاً منه ومن تاريخه، ومن خبزه اليومي وكل شأن من شؤون حياته، وتحول مع الأيام إلى أب روحي لكل إنسان أردني وواحد من أفراد عائلته. ومع الاحترام لكل من سيخلف الملك حسين بن طلال، اليوم، وفي المستقبل، لا أحد سيستطيع أن يسد الفراغ الذي خلفه، أو سيملك حنكته وحزمه وحسمه أو سيمسك بشعرة معاوية الشهيرة التي يشدها عند اللزوم ويرخيها عند الضرورة، ولا أحد سيتمتع بشعبيته أو ب "الكاريزما" التي حباه الله بها. ولا أحد سينجح مثله في اللعب على التوازنات المحلية والاقليمية والدولية، ويفرض، من العدم، وجوده ودوره وصوته ورأيه. وهذا لا يعني أن الوضع ميؤوس منه، بل ان لكل شيخ طريقته ولكل زعيم اسلوبه ولكل مرحلة رجالها. قد تؤيد مواقفه أو تعارضها، وقد تعجبك سياسته أو لا تعجبك، وقد تتقبل اسلوبه أو ترفضه، لكن أحداً لا يستطيع أن يكرهه أو يتخذ منه موقفاً عدائياً ولو كان معادياً له، فإن لم تحبه فلا بد أن تحترمه، وإن لم تعجب به، فإنك لا بد أن تعترف بذكائه ودهائه وقدراته وبأسلوبه الحضاري أو على الأقل بشجاعته وتسامحه حتى مع من أساء إليه. ولا شك أن غياب الملك حسين، لا سيما في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا، وأوضاع المنطقة والجوار سيترك فراغاً كبيراً ويثير علامات استفهام عديدة حول الحاضر والمستقبل أردنياً وعربياً واقليمياً. فالشرق الأوسط سيتغير وجهه حتماً بغياب هذا الزعيم، والأردن سيفتقده كثيراً ويعيش مرحلة انتقال قلقلة وحذرة، والعلاقات العربية - العربية وتوازناتها الدقيقة سيتغير إيقاعها وحساباتها المعقدة، ومسيرة السلام ستتخذ منحى مختلفاً بعد غفياب أحد أعمدتها الفاعلة. حتى المصالح والسياسات الدولية، والغربية بالذات، لا بد أن تتأثر ويعاد النظر فيها بصرف النظر عن نجاح خليفته أو عدم نجاحه في الإمساك بزمام الأمور. فالملك حسين فرض نفسه على الجميع لاعباً رئيسياً في كل حدث، وفي كل خطوة، وكل شأن من شؤون المنطقة، سلباً أو ايجاباً منذ 47 عاماً حتى آخر لحظة من حياته... وأشد الساعات الحالكة من أيام مرضه. لاعب رئيسي... وفاعل، وخطير في بعض الأحيان صنع من العدم سمعة وكياناً ودوراً وكلمة مسموعة بفضل قوة شخصيته ودهائه وشبكة علاقاته الدولية الواسعة ولعبه على التوازنات الداخلية والعربية والدولية. تربع عام 1952 على عرش مهزوز لا قواعد له بعد أن رأى بأم عينه، وهو فتى يافع، مقتل جده الملك عبدالله، الذي أحبه كثيراً وتأثر لاغتياله على مشارف المسجد الأقصى المبارك في القدس، وعايش مأساة نفي والده الملك طلال إلى تركيا بعد عزله واتهامه بالجنون وسط تحكم الانكليز بمقادير البلاد وتسلط غلوب باشا. حكم بلداً منقسماً نصفه لم يتهيأ للانضواء تحت لواء دولة مستقلة موحدة يحكمها القانون، ونصفه الثاني يرفض الانتماء إلى هذه الدولة ويعتبر نفسه جسماً غريباً في كيان لا يعترف به. وجد نفسه يعيش في جزيرة تحيط بها الأعاصير والعواصف من كل الاتجاهات وتتنازعها الصراعات العقائدية والسياسية وتقسمها المطامع الأجنبية والحروب العربية - العربية والدولية - الدولية. وفوق كل هذا: خزينة فارغة، ودولة لا خيل عندما ولا مال ولا نفط ولا ذهب ولا زراعة ولا صناعة، فلم يجد بداً من أن يحسن القول والعمل واللعب على التوازنات ويلجأ إلى الدهاء، فصار ملك التوازنات بلا منازع على مدى حوالى نصف قرن. ومع الأيام أدمن الملك حسين هذه اللعبة، وأدمن معها لعبة ركوب المخاطر، حتى في حياته الشخصية وهواياته المتعددة من قيادة الطائرات إلى القفز بالمظلات وقيادة السيارات وقيادة الدراجات النارية بسرعة جنونية والرماية، من دون أن يتخلى عن فنون الألعاب الهادئة مثل الشطرنج، حتى اللاسلكي الذي بنى من خلاله شبكة اتصالات حول العالم. وفي رحم المخاطر ترعرع الشاب اليافع وتخرج في كلية "ساند هيرست" العسكرية الانكليزية الشهيرة، ومن مدرسة الدهاء الانكليزي في شكل عام، وعاش حياته بالطول والعرض وكأنه كتب عليه أن لا يهدأ لحظة واحدة، فركب أمواج الخطر وأتقن فنون القفز من فوقها، وبرع في اللعبة أو المغامرة حتى تحول إلى "اسطورة" يتحدث عنها الناس ويزيدون عليها الكثير من "البهارات" حتى يكتمل المشهد إثارة وتشويقاً. محاولات عديدة لقلب نظام الحكم اكتشفها بنفسه وأحبطها، وكانت أشهرها محاولة اللواء علي أبو نوار رئيس الأركان العامة، وعشرات من محاولات الاغتيال بالرصاص والسم والصواريخ، فشلت كلها على رغم دقة تنظيمها ونفوذ القوى التي حرضت عليها أو نفذتها. سألته مرة عن حقيقة هذه المحاولات، فضحك وقال: ولا تعد... ليست هناك وسيلة قتل في العالم إلا واستخدمت ضدي. أكثرها خطورة محاولة اطلاق صاروخ على طائرته، واطلاق نار على صدره من على بعد متر واحد، لكن الرصاصة الوحيدة التي أصابته وقعت على وسام كان يزين به صدره فشطرته.،، وتجنيد طباخه الخاص عام 1970 لدس السم في طعامه، لكن الطباخ تراجع في آخر لحظة... وانهار واعترف بكل شيء. تعاون الملك حسين مع الانكليز ثم طرد غلوب باشا قائد الجيش وقاد معركة التعريب من دون ان يقطع خيوط التواصل معهم، وأحس أن التيار الجديد أميركي الهوى فمال معه، ودخل طرفاً في لعبة الحرب الباردة بين الغرب والشرق... وتلفت إلى جيرانه، فأمن الطرف الإسرائيلي عبر سلسلة لقاءات سرية توجت باتفاق السلام، وكان حلمه أن يكون له دور ما في القدس... وفي المسجد الأقصى والاماكن المقدسة، لكنه لم يوفق رغم ان اسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل السابق قدم له وعوداً - لا قيمة لها - ضمن اجراءات التوقيع والتطبيع. عربياً، كان يصعد ويهبط ويميل يميناً ويساراً وشمالاً وجنوباً بحسب اتجاهات الريح. فهو تارة مع بغداد ضد دمشق، والعكس بالعكس، وتارة مع مصر وتارة ضدها، يتحالف مع دول الخليج أو يعيش مرارة القطيعة معها. بكلمة موجزة كان الملك حسين لاعباً أو مشاركاً أو مخططاً وموثراً أو متأثراً بكل محطات المد والجزر في تاريخ العرب والمنطقة لأكثر من 47 عاماً. إلا أن أخطر المحطات التي كادت تهز عرشه وتقضي عليه هي: ثورة 1958 التي اسقطت النظام الملكي في العراق وذبحت ابن عمه الملك فيصل وأبناء الفرع العراقي للعائلة الهاشمية بعد محاولات اقامة اتحاد هاشمي عراقي - أردني، وحلف بغداد. المد الناصري والوحدة السورية - المصرية ثم الانفصال والحرب المكشوفة مع مصر جمال عبدالناصر... ومعه المد اليساري العارم في تلك المرحلة. حرب 1967، إذ قرر الملك حسين في آخر لحظة مصالحة عبدالناصر والتحالف معه لخوض غمار الحرب التي خسر فيها الضفة الغربية، أو أحد جناحي المملكة الأردنية الهاشمية، ومعه القدس الشريف والمسجد الأقصى، وبالتالي زيادة العبء الفلسطيني. أحداث أيلول سبتمبر 1970 والحرب الدامية مع الفلسطينيين التي كادت تقضي على مملكته لولا قمة القاهرة، وصولاً إلى قمة الرباط التي اعترف فيها بتخليه عن الضفة الغربية واعترف بمنظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني... ثم كان مؤتمر مدريد، واتفاق أوسلو الذي شعر أن خطره الأول واقع على الأردن لا محالة. حرب الخليج وذيول الغزو العراقي للكويت، مما أدى إلى مضاعفات خطيرة تمثلت في القطيعة مع السعودية ودول الخليج وتدفق مئات الآلاف من الفلسطينيين والعراقيين على الأردن، واهتزاز العلاقة مع الغرب، بعد اتهام الملك حسين بالتواطؤ مع صدام حسين أو تسهيل مهمته. لكنه نفى لي ذلك بشدة وأكد أنه لم يكن يعلم بالغزو وأن صدام خدعه ولم يستمع إلى نصائحه، بل أنه في إحدى المرات تهرب من استقباله لدى وصوله إلى بغداد لاقناعه بالانسحاب من الكويت وتجنب الأخطار المرتقبة. وأكد أنه اضطر للقيام بما قام به خلال أيام الأزمة حتى لا ينهار الأردن وتدخل المنطقة بأسرها في أتون صراعات وحروب. وحصلت منه مرة في مقابلة تلفزيونية عام 1992 على أول اعتذار علني عن هذا الموقف الذي برره بقوله إن التاريخ سينصفه يوماً لأن انهيار الأردن، لو سار عكس تيار جماهيريه آنذاك، كان سيعرض دول الخليج لخطر داهم. أما على الصعيد الداخلي، فالملك حسين كان "ملك التوازنات" في مجتمع معقد ومتشابك وخليط عجيب: بدو وعشائر أردنيون، فلسطينيون، مسلمون ومسيحيون، شركس، شيشان. سياسيون متخصصون في المناورات والمماحكات السياسية... محاولات لاذكاء الفتن والعصبيات، أحاديث عن أكثرية فلسطينية، والوطن البديل، والخيار الأردني والدسائس الإسرائيلية. يسار، يمين، أحزاب تنظيمات من كل اتجاه. حتى التيار الإسلامي الذي تعاني منه دول عربية، والمنطقة بأسرها، استطاع الملك حسين أن يحتويه بإدخاله في اللعبة السياسية وتسليمه الحكم في مرحلة من المراحل ثم تحجيمه رويداً رويداً سياسياً وجماهيرياً، حتى تحول، رغم عدم زوال خطره، إلى جزء لا يتجزأ من اللعبة بعدما تعرض لانشقاقات عديدة وفقدان بريقه الشعبي نوعاً ما. أخطأ الملك حسين مرات، وأصاب مرات، واتهم حيناً في عروبته ثم حصل على صكوك البراءة من الرموز التي اتهمته، وانتقد لانفراده بالحل ثم اعطي المبرر عندما شرح انعكاسات أوسلو. ودخل في صدامات مع سورية مرات وتحالف معها مرات، ومع العراق والسعودية ومصر عاش حتى الثمالة مراحل المد والجزر، لكن التاريخ وحده هو الذي سيحكم له وعليه ويحدد الملامح الرئيسية لوجه نهائي من وجوهه المتعددة. وركب أمواج المخاطر فصرعها إلا المرض فقد قاومه ولاعبه وكاد ينتصر عليه إلى أن قهره، ولكنه لم يترك الفرصة تفوته ليلعب بورقته الأخيرة، أو بمغامرته الكبرى في آخر لحظة، وذلك بنجاحه في اللعب في الوقت الضائع بعزل شقيقه الأمير الحسن وتعيين نجله الأمير عبدالله ولياً للعهد. وليس صحيحاً ان الملك حسين تعافى تماماً من المرض عندما عاد إلى عمّان ليضرب ضربته، بحسب مصدر قريب إليه، بل أن الأطباء أكدوا له أن أيامه صارت معدودة وأن أمله الوحيد بالنجاة، وهو شبه معدوم، يكمن في عملية زرع نخاع ثانية ، فاستمهلهم أسبوعاً توجه خلاله إلى عمّان ليحسم ويرتب البيت الأردني بعد أن اكتشف ان الأمير الحسن استعجل الأمور وكاد يكمل "انقلاب القصر" ويحكم سيطرته على البلاد، رافضاً تسمية أحد أنجال الملك ولياً للعهد. ولكن ماذا عن المستقبل؟ هل سينجح عبدالله في الحفاظ على تراث أبيه وأسلوبه ومقاومة المخاطر والتيارات؟ وهل سيشفع له زواجه من فلسطينية في تعزيز الوحدة الأردنية - الفلسطينية ومقاومة المؤامرات الإسرائيلية وأحلام الوطن الفلسطيني البديل؟ وهل سيعيد توازنات الأردن العربية مع سورية ومصر والسعودية ودول الخليج؟ وماذا عن العلاقة مع العراق: المصالح والسياسات والمخاوف؟ وهل سيلتف الجيش والشعب من حوله كما التف حول أبيه؟ وهل سيتسامى فوق سيل الحساسيات الأردنية ومتاهات السياسيين وصراعاتهم ودسائسهم؟ وماذا عن الوضع الاقتصادي الصعب بعدما عاش الأردن لأكثر من نصف قرن على المساعدات الأجنبية والعربية؟ وهل سيسمي الأمير حمزة ولياً للعهد أم سيدخل في اغراءات تسمية نجله الحسين بن عبدالله؟ أسئلة كثيرة مطروحة اليوم في الساحتين الأردنية والعربية، ولا أحد يملك الجواب عنها، لكن الشيء المؤكد هو ان الملك حسين يغيب في مرحلة حرجة جداً داخلياً وعربياً، لا سيما على صعيدي مسيرة السلام وأوضاع العراق، وأن بصماته ستبقى راسخة لعقود مقبلة. سيبكي عليه شعبه، ويضع يده على قلبه خوفاً من المستقبل، من دون أن يفقد الأمل بنجاح ولي عهده الذي رباه على نهجه ووجهه ليكون واحداً من أبناء الجيش والعشائر من دون أن يهمل أخوال أولاده الفلسطينيين... ولا يتخلى عن قرة عين والده الأمير حمزة الذي يدرس في كلية ساند هيرست التي تخرج منها والده وأخوه، وهو شبيه والده نجله من الملكة نور قلباً وقالباً وشكلاً ودهاء وذكاء. حمى الله الأردن وشعبه، ليجتاز مرحلة الخطر والنقاهة. * كاتب وصحافي عربي.