ادرك الرئيس إميل لحود بعد سنة كاملة في الرئاسة الاولى سلسلة من الحقائق ابرزها الآتي: 1- ان تغيير الطبقة السياسية المتهمة بالفساد وبالمسؤولية عن مآسي لبنان وتردي اوضاعه الاقتصادية وشلل ادارته وتفاقم الطائفية واستشراء المذهبية ليس بالامر اليسير لأسباب عدة. اولها، ان ازالة قسم مهم من هذه الطبقة أو على الاقل تهميش دوره لن يقابل بارتياح من الفئات الشعبية التي تؤيده. وثانيها، ان معظم هذه الطبقة متجذر طائفياً ومذهبياً واي مساس به من شأنه اثارة نعرات مؤذية للاستقرارين السياسي والامني. وثالثها، ان معظم هذه الطبقة او ربما كلها حليفة لسورية بشكل او بآخر. فبعضها حليف مزمن وبعضها حليف موقت. وبعضها الثالث حليف ايديولوجي، والغاء هذه الطبقة يعني امرين لا بد ان تعتبرهما سورية سلبيين: الاول، انها مسؤولة بصورة او بأخرى عن الفساد في لبنان او انها شجعته لأسباب متنوعة ابرزها الامساك بهذه الطبقة وتوظيفها لديها كون معظم حلفائها ضالع فيها. والثاني، ابعادها عن الساحة السياسية اللبنانية من خلال ابعاد حلفائها وتالياً فتح الباب امام تقليص نفوذها في لبنان والافادة من الفرص التي لا بد ان توفرها تطورات اقليمية حقيقية للتخلص لا من الادارة السورية المباشرة للبنان بل ايضاً من الوجود السوري المباشر فيه وربما لاحقاً من اي علاقة مميزة مع دمشق. ورابعها، ان التغيير الجذري والناجح في الدول التي عاشت حروباً اهلية وغير اهلية والتي عاشت ايضاً فساداً وانقسامات طائفية ومذهبية لم يحصل بطريقة فوقية ولا بالاكراه، بل بعدما اخذ الموافقة الشعبية بالوسائل الديموقراطية المعروفة. وقد عبر الرئيس لحود عن ادراكه هذه الحقائق بسلسلة مواقف ابرزها اثنان: الاول تأكيده عدم وجود اي نية لديه لعسكرة النظام او المس بالديموقراطية والحريات الاعلامية او استهداف الطبقة السياسية بقصد تغييرها. والثاني استقباله الزعيم الدرزي الابرز وليد جنبلاط في منزله الصيفي في بعبدات وعقده معه خلوة شارك فيها المدير العام للامن العام اللواء جميل السيد قبل أن ينضم اعضاء كتلة جنبلاط النيابية الى الاجتماع. وتردد أن تفاهماً تم على تقسيم الدوائر الانتخابية خصوصاً في محافظة جبل لبنان يحمي خصوصية الطائفية الدرزية ولا يمس خصوصية التمثيل المسيحي ويوفر فرصة لحليف رئيس الجمهورية ومعاونه الاول نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر المحافظة على مواقعه السياسية في منطقته لا بل تعزيزها. هل ادركت المعارضة بدورها الحقائق؟ أجل، لقد ادركت اموراً عدة، ابرزها الآتي: 1- استحالة تأليب سورية حليفتها الاولى والوحيدة على الرئيس لحود الذي لا يزال في نظر سورية حليفاً موثوقاً جداً لم يخطىء في الاستراتيجية. ومن شأن ذلك تخفيف وطأة الاخطاء على رغم انعكاساتها السلبية على الوضع الداخلي. وفي هذا المجال يذكر اللبنانيون الاتهامات ب"الأمركة" التي اطلقها المعارضون ضد لحود على نحو غير مباشر ونقلها بعضهم مباشرة الى دمشق. ويذكرون ايضاً ان سورية بقيت على رغم ذلك واثقة برئيس الجمهورية لمعرفتها به وخبرتها الطويلة معه تسع سنوات في قيادة الجيش ولمعرفتها بالاميركيين. فهؤلاء مع التغيير الذي رفع لواءه لحود او بالاحرى مع الامل التغييري الذي زرعه في نفوس الناس، ولكنهم ليسوا مع الاسلوب الذي اعتمد لأنهم يعرفون البلد والتدخلات الاقليمية فيه والذي انطوى على شيء من الشعبوية والانتقائية. وهم ليسوا ابداً في وارد "تعطيل" الدور السوري في لبنان، لا محبة بسورية بل حرصاً على لبنان في هذه المرحلة وعلى مسيرة السلام في المنطقة. الا ان ثقة سورية بالرئيس لحود لم تلغ حذرها المعروف عنها ولا شكها، لأنها تدرك ان ظروفاً قد تتكون وان جهات معادية قد تستغلها ضدها، لذلك عملت منذ البداية على تحقيق أمرين: الاول، بقاء رئيس الجمهورية قوياً و"نزوله" الى ارض الواقع عبر ادراكه صعوبة تحقيق كل برنامجهم بين ليلة وضحاها من دون ان يطغى عليه شعور بالاحباط ومن دون ان يتحول اسيراً لبرنامج. والثاني، رعاية المعارضة وتأسيس حالة سياسية وشعبية تميز بين العهد والحكومة فتقدر الاولى وتنتقد الثانية او تهاجمها، وتقنع الرئيس لحود بحاجته الى هذه الحالة لكي لا يبقى من دون سند سياسي او شعبي ولكي لا يقتصر دعمه على جهات غير مدنية، وبضرورة التعاطي معها بطريقة مختلفة والامران تحققا بشكل او بآخر. 2 - صعوبة تغيير الحكومة الحالية التي يترأسها الدكتور سليم الحص على رغم عدم نجاحها في تحقيق ما امله اللبنانيون منها، ولا يعني ذلك ان مهمتها سهلة اساساً. وتعود هذه الصعوبة الى جملة اعتبارات، منها رفض الرئيس لحود تغييرها لأنه مرتاح معها ولأن التعاون بينه وبين رئيسها ممتاز ولأنها غير مشاكسة او بالاحرى مطواعة في نظر المعارضين ولأن قبوله التغيير او على الاقل مبدأ التعديل لا بد ان يعتبر نكسة له. وقد عبّر عن هذا الرفض اكثر من مرة بالقول سريعاً امام مثيري فكرة التغيير امامه من لبنانيين وسوريين "الدكتور سليم مليح". وبتكرار هذا القول. ومن الصعوبات أيضاً خشية رئيس الجمهورية ان يكون بديل الرئيس الحص في الرئاسة الثالثة الرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري، وأن تضم الحكومة اوزاناً سياسية وطائفية ومذهبية يقيد اصحابها سلطته ويعطلون برنامجه. الى متى يدوم هذا الوضع؟ ان قسماً من الاجابة يتعلق بالنيات. لكن الواضح أنه لا يمكن التأكد منذ الآن ان تغيير الرئيس لحود بعض طروحاته وان جزئياً نهائي وانه لن يعمد مستقبلاً اذا طرأت ظروف مؤاتية الى العودة عن هذا التغيير والى استئناف "التغيير" الذي يعتبر انه اتى باسمه الى رئاسة الدولة . كما لا يمكن التأكيد منذ الآن ان المعارضة او بعضها لن تعمد الى اعتبار "الايجابية الرئاسية" ضعفاً والى الاستمرار في سياسة تزيد هذا الضعف. الا ان ما يستطيع الجميع التأكد منه هو ان سورية طالما انها موجودة في لبنان سياسياً وعسكرياً وطالما انها صاحبة الكلمة الاولى فيه لن تسمح بنشوء وضع في لبنان يهددها كياناً ونظاماً، ولذلك تتعاطى مع الجميع ولكنها تحول دون نجاح بعضهم في تصفية البعض الآخر. الا ان انتقالها من هذا الدور الى دور مساعدة لبنان على السير في طريق الحل النهائي لمشاكله الداخلية ليس متاحاً الآن لأنها منشغلة بهم إقليمي كبير. ولأن لبنان منشغل بالهم نفسه ولأن زوال هذين الهمين معاً قد يفتح الباب امام محاولات جدية لحل المشاكل الداخلية في لبنان. وحتى الآن لا يبدو ان هذا الزوال قريب على رغم كل ما يقال في المحافل الدولية والاقليمية.