في اعتقادي ان الشعر لا يموت الا اذا مات الانسان تماماً، وكل ما في الامر اننا نعيش الآن حالة من الموت. ليس نحن فقط بل ربما روح العالم التي تبدو وكأنها اكثر شيخوخة من اي وقت مضى. ولعل هذا الاحساس الذي اتحدث عنه الآن انتاب أحد أجدادنا من الشعراء قبل قرنين او عشرة قرون او اكثر، بعد حرب شاملة او وباء او كارثة طبيعية ماحقة... لعل هذا الاحساس انتابه في زمنه الذي عمّت فيه سيادة الرداءة ولكل زمان رداءته، ولكن الشعر كان يستمر، وحين نتحدث عن الشعر بهذه العمومية نقصد شعراء بعينهم، فليس ثمة اكثر من خمسة الى عشرة شعراء عادة يمكن ان يكونوا جوهر قرن ما. لقد تساءلت دائماً: حين يعمّ الدمار مرحلة ما، ما الذي يضع حجر البناء الاول، روح القصيدة ام اليد؟ انني ازداد يقيناً ان روح القصيدة هي السيدة التي لا تقبل لنا ان نعيش وسط اي دمار. لقد تراجع الشعر من منظور الكم النوعي في العشرين سنة الاخيرة، لكن نوعية مهمة ظلت تكتب. انتشرت الرداءة لأن المعايير لم تعد تخضع لمنطق الثقافة، بل منطق التضليل، وتمييع المفاهيم والاحاسيس ايضاً. يقول بعضهم إنه زمن السرعة، وارى انه زمن البطء في عالمنا العربي وفي كثير من مناطق هذا العالم، حيث يجلس البشر ساعات أمام البرامج التلفزيونية مثلاً. وليس هو زمن الآلة عندنا لاننا لم نزل خارج منطق انتاجية الآلة. لكن حقيقة الامر ان الشعر الجيد ضاع وسط هذا الكمّ من الثغاء، ولك ان تتصور مثلاً ان خمسة مهرجانات شعرية تقام خلال شهر واحد في بلد صغير كالاردن ويتم فيها دعوة اكثر من مئتي شاعر. هذا نموذج حقيقي يدل على شهوة تحول كل ما هو اصيل الى كرنفالية مفرغة من مضمونها. لكنني وسط هذا المغص الشعري العام لا استطيع ان انظر بكثير من الثقة لمسيرة القصيدة العربية، خصوصاً تلك التي يمثلها شعراء لم ينصاعوا لقانون القطيع الذي كرّسه نقد تابع وغبي. وما أراه الآن ان الشعر بدأ ذهباً وسيعود ذهباً، بعيداً عن هذا اللغو المُسرطِن للحواس والاحاسيس.