لم تدم فرحة المستثمرين العرب وقتاً طويلاً، عندما اجمعت آراء الخبراء العرب والاجانب ومنهم رئيس البنك الدولي جيمس ولفنسون، على استبعاد وجود اي مضاعفات للازمات المالية العالمية على اقتصادات دول الخليج والشرق الاوسط وشمال أفريقيا، لأن الاسواق المالية في تلك الدول مغلقة نسبياً ما يجعلها في منأى عن مضاعفات مباشرة نتيجة الازمة في روسيا او ازمة جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، لكن بعد فترة قصيرة جداً ظهرت خسائر المستثمرين العرب دول وأفراد من نتائج مضاعفات مباشرة وغير مباشرة لتلك الازمات، وتداولت التقارير المصرفية ارقاماً لهذه الخسائر تزيد عن المئة مليار دولار، وذلك عبر قناتين: الاولى: نحو 50 مليار دولار، وهي خسائر المستثمرين العرب من جراء انهيار اسواق المال الدولية في تشرين الاول أكتوبر 1997 بسبب الازمة الاقتصادية الآسيوية، وانهيارات اخرى في البورصات خلال السنوات الاخيرة، وذلك بسبب ضخامة استثماراتهم في الخارج التي تتراوح بين 600 و800 مليار دولار نصفها لدول مجلس التعاون الخليجي، مع العلم ان معظم هذه الاستثمارات يتركز في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وسويسرا وألمانيا، وأكثر من 20 في المئة مستثمر في سندات وأوراق مالية. الثانية: نحو 56 مليار دولار، حجم خسائر الدول العربية المقدرة لعام 1998 من جراء انخفاض اسعار النفط الخام. انعكاسات الازمة الآسيوية واذا كانت كثرة العرض في سوق النفط التي تزيد عن الطلب، قد ساهمت في تراجع الاسعار، فإن الازمات المالية العالمية، لا سيما الازمة الاقتصادية الآسيوية، ساهمت بدورها في تراجع الطلب وبالتالي في خفض الاسعار وتراجع قيمة عائدات الدول المنتجة، ومن بينها دول مجلس التعاون الخليجي التي اصبحت تعاني من عجوزات مالية في موازناتها السنوية. ما هو انعكاس هذه التطورات السلبية على النشاط المصرفي في البلدان العربية؟ لقد اظهرت احصاءت اولية لاتحاد المصارف العربية، الذي يضم اكثر من 300 مصرف تجاري عربي ان الارباح الصافية ارتفعت الى نحو 5.5 مليار دولار العام 1997، من خمسة مليارات دولار العام 1996، ونمت الموجودات من 482 الى 520 مليار دولار، وارتفعت القروض والتسليفات من 287 الى 313 مليار دولار والودائع من 270 الى 302 مليار دولار. وأوضح الامين العام للاتحاد عدنان الهندي ان قيام عدد من المصارف العربية بزيادة رؤوس امواله في اطار الاصلاحات التي تنفذها السلطات العربية في الجهاز المصرفي ادى الى ارتفاع حقوق المساهمين في المصارف العربية بنسبة 1.10 في المئة لتصل الى 109 مليار دولار نهاية 1997 في مقابل 99 مليار دولار بنهاية 1996. ووصف الهندي العام 1997 بأنه كان مميزاً للمصارف العربية والاكثر تسارعاً وشمولية قياساً الى الاعوام السابقة في الاحداث والتطورات التي تمس العمل المصرفي العربي. وأوضح تقرير اعده اتحاد المصارف العربية اسباب التوسع في حجم اعمال المصارف بأنها تعود الى المعطيات الآتية: - البيئة الاقتصادية المؤاتية حيث بلغ نمو الاقتصاد العربي نحو 8.3 في المئة العام 1997 علماً انه كان 4 في المئة العام 1996، وزاد استقطاب الرساميل الخارجية حيث ارتفعت حصة الدول العربية من اجمالي التدفقات المالية الاجنبية الى الدول النامية من 6.2 في المئة العام 1994 الى 4.4 في المئة العام 1996. - صمود القطاع المصرفي العربي ازاء تطورات الازمة الاقتصادية المالية في عدد من الدول الناشئة. - خضوع الصناعة المصرفية العربية الى معايير الاشراف والرقابة الوقائية. - بيئة العمل الخاصة لدى المصارف العربية والقائمة على التفردية والسياسات الاقراضية المحافظة والحفاظ على معدلات مرتفعة للامان المالي. بالاضافة الى سعي المصارف العربية المتواصل الى تدعيم امكاناتها وقدراتها. اما في العام 1998، فمن الطبيعي ان تتراجع معدلات النمو الاقتصادي بسبب تباطؤ النشاط وتراجع السيولة نتيجة انخفاض اسعار النفط وتقليص الانفاق الحكومي، لكن يبدو ان المصارف العاملة ستستفيد من هذه الفرصة، خصوصاً في حال اضطرت حكومات الدول الخليجية الى الاقتراض المحلي لتمويل عجوزات موازناتها، الامر الذي يزيد من نشاطها الاقراضي. وفي الوقت الذي اعلن حمد السياري محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي ان اكبر تحد يواجه المملكة حالياً يتمثل في تقليص العجز في الموازنة في الامدين المتوسط والطويل، اشار بصراحة وبالارقام، الى ان المصارف السعودية خفضت اصولها الاجنبية بمقدار 7.10 مليار ريال الى 8.88 مليار ريال ورفعت المبالغ المستحقة عليها خارجياً بمقدار نصف مليار ريال الى 5.46 مليار ريال في الاشهر الثمانية الاولى من 1998 الدولار يساوي 75،3 ريال. وقال ان هذا الوضع يعكس العائد المربح للاستثمار في الاقتصاد المحلي في ضوء الاضطراب في عدد من الاسواق المتقدمة والناشئة. وأوضح ان بلاده تحتاج الى استثمارات من القطاع الخاص اكثر من اي وقت مضى، مشيراً الى ان القطاع الخاص لديه تمويل وودائع كافية يمكن استغلالها في استثمارات مربحة جديدة وأنه يمكن دعم هذا الاتجاه بفضل القطاع المصرفي القوي. وذكر تقرير مصرفي ان المصارف السعودية اضطرت الى السحب من استثماراتها الخارجية لمواجهة الطلب على القروض ما ادى الى انخفاض صافي الموجودات الاجنبية لتلك المصارف بنسبة 11 في المئة في نهاية النصف الاول من السنة الجارية. وقال مدير احد المصارف: "لقد تأثرت المصارف السعودية بانخفاض الودائع التي تشكل المورد الرئيسي لها لكنها عوضت ذلك من خلال استثماراتها والاقراض". وأظهرت البيانات المصرفية ارتفاع صافي ارباح البنوك التسعة الاولى العاملة في المملكة من اصل 11 مصرفاً، بنسبة 3.13 في المئة في الربع الثالث من العام 1998 الى 95.3 مليار ريال 1.1 مليار دولار على وجه الاجمال مقارنة بنتائج الفترة نفسها من العام 1997. مواجهة العولمة وفي ظل التطورات الاقتصادية المالية في المنطقة، برز بإلحاح موضوع الدمج المصرفي الذي بدأت خطواته الاولى بين عدد قليل من المصارف مع اقتناع عدد كبير منها بأهمية هذا الدمج لمواجهة تطورات العولمة. واذا كانت دوافع الدمج المصرفي في السنوات الماضية تكمن في مشكلات الديون المتعثرة ومخاطر التصفية للبنوك وما قد يصاحبها من اهتزاز ثقة الافراد في بعض الاجهزة المصرفية في الدول العربية، فإن دوافع الدمج المصرفي اليوم تتركز على ضرورة رفع القدرات التنافسية عن طريق خلق تكتلات مصرفية عربية عملاقة تقوم بتوفير الاحتياجات التمويلية الكبيرة على المستوى الاقليمي. وحدد رئيس اتحاد المصارف العربية محمود عبدالعزيز اهم مبررات الدمج المصرفي في الوطن العربي بالآتي: اولاً: بروز ظاهرة ازدحام الكثير من الاقتصاديات العربية بعدد كبير من المؤسسات المصرفية لا تنسجم مع حجم هذه الاقتصاديات في الوقت نفسه الذي تتركز فيه اغلب العمليات في عدد قليل من المصارف، اذ تستحوذ نحو 5.13 في المئة من المصارف العاملة في الوطن العربي على نحو 59 في المئة من اجمالي موجودات القطاع المصرفي العربي ونحو 4.62 في المئة من ودائعه وعلى نحو 5.53 في المئة من القروض والتسليفات وذلك وفقاً لآخر بيان متاح. ويعكس هذا الوضع ضآلة حصة العديد من المصارف العربية من السوق وضعف قدرتها على تحسين مستويات الخدمة وتطوير الاداء وادخال التكنولوجيا وبصورة ادق عدم القدرة على تبني الافكار المصرفية المتطورة او مواكبة مستحدثات العمل المصرفي سواء كان ذلك مهنياً او تكنولوجياً وبالتالي التأثير السلبي على امكانيات انتشارها الجغرافي والمنافسة. ثانياً: صغر حجم المصارف العربية وتواضع هياكلها التمويلية وحجم اعمالها على المستوى العالمي. ثالثاً: عدم كفاية صناديق ومؤسسات التنمية العربية وحدها للعمل كقاطرة للنمو الاقتصادي العربي الشامل وذلك على رغم قيام البعض منها الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي بزيادة دعمه للقطاع الخاص ليصل الى 500 مليون دولار، ويرجع ذلك الى ضعف مساهمتها في عملية التنمية اذ بلغ رصيد التمويل الميسر الذي منحته للدول العربية وفقاً لآخر بيان متاح نحو 4.25 مليار دولار وهو ما يمثل 8.4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي بأسعار السوق لتلك الدول. رابعاً: الحاجة الى قيام المصارف العربية بدور اكثر فعالية على الساحة المحلية والاقليمية خصوصاً في ضوء تبني العديد من الدول العربية لبرامج الاصلاح الاقتصادي وعملها على تغطية دور القطاع الخاص مع تزايد الوعي بضرورة تفعيل اطر التعاون العربي واحياء السوق العربية المشتركة وتنشيط حركة التجارة العربية البينية التي تدور نسبتها حول ال10 في المئة من جملة حركة التجارة العربية. أهم عملية دمج وشهد القطاع المصرفي الخليجي اهم عملية دمج في اواخر العام 1998 بين بنك الخليج الدولي والبنك السعودي العالمي، ليشكلا مؤسسة مالية تصل موجوداتها الى نحو 15 مليار دولار. وتتواصل عمليات الدمج المصرفي في وقت تتطلع فيه المصارف العربية الى الافادة من حجم استثمارات كبيرة في المنطقة وخصوصاً في القطاع النفطي. وقد تبين من دراسة حديثة وضعتها "الشركة العربية للاستثمارات البترولية" أبيكورب ان حجم الاحتياجات الاستثمارية المتوقعة في المنطقة العربية خلال الفترة 1998 - 2003 يصل الى نحو 90 مليار دولار، ويشمل هذا الرقم المشاريع التي هي قيد الانشاء والمشاريع المحتمل تنفيذها في قطاعات النفط والغاز والتكرير والبتروكيماويات والاسمدة، اما في حال استبعاد المتطلبات الاستثمارية قيد الانشاء والتي يفترض انه تم بالفعل تدبيرها والاتفاق على مصدر تمويلها، تقدر الدراسة حجم الاحتياجات الاستثمارية للمشاريع الجديدة بحوالي 66 مليار دولار موزعة كالتالي: 25 مليار دولار لقطاع النفط 38 في المئة، 3.17 مليار دولار لقطاع الغاز 26 في المئة، 7.9 مليار دولار لقطاع التكرير 6.14 في المئة، 3.14 مليار دولار لقطاع البتروكيماويات والاسمدة 6.21 في المئة. ووضعت الدراسة تصوراً عاماً سيناريو يحدد النسب المئوية لمصادر التمويل على الشكل الآتي: - 2.27 مليار دولار اي ما نسبته 41 في المئة من الاجمالي ستغطي عن طريق التمويل الذاتي او المشاركة الوطنية في رأس المال. - 6.11 مليار دولار اي ما نسبته 4.17 في المئة من الاجمالي ستوفر عن طريق مساهمات الشركاء الاجانب. - 5.27 مليار دولار، اي ما نسبته 6.41 في المئة من الاجمالي، يفترض ان يوفرها التمويل التجاري. وعلى رغم ان الازمة المالية والاقتصادية في دول شرق آسيا ستلقي بظلالها التشاؤمية على مستقبل بعض المشاريع المخطط لها. وبالاخص الموجهة لأسواق هذه المنطقة على المدى المتوسط، فإن المنطقة العربية حسب الدراسة لا تزال تحظى بمزايا تنافسية عالية في المشاريع المتعلقة بقطاعي النفط والغاز والصناعات اللاحقة وتتمتع بجاذبية جيدة للاستثمار في هذه المشاريع الواعدة. وستظل المنطقة باعتبارها صاحبة اكبر احتياطي مؤكد للنفط في العالم حوالي 62 في المئة وصاحبة ثاني اكبر احتياطي مؤكد للغاز الطبيعي في العالم ما يقارب 22 في المئة، تتمتع بمزايا اقل التكاليف الانتاجية في مناطق الانتاج العالمية في حين لا يزال استغلال الموارد النفطية والغازية اقل بكثير مما هو ممكن في ضوء ارقام الاحتياطات الهائلة من هذين المصدرين. وفي ضوء التحليل التاريخي لتمويل مشاريع النفط والغاز منذ بداياته حتى الآن، ترى دراسة "أبيكورب" ان اهم ما يؤثر على مستقبل التمويل هو حجم الطلب على التمويل والمستجدات التي قد تملي نوعية بعض الادوات المالية المستخدمة بالنسبة لحجم الطلب، والذي تم تقديره ب5.27 مليار دولار، وهو يفوق حجم العرض المتوقع من التمويل المصرفي، وسيصبح من الضروري ايجاد مصادر اخرى اهمها اسواق المال، ولذلك فإن الطلب على التمويل سيزيد بعض الشيء عن العرض بالنسبة الى القروض المصرفية، وسيتيح ذلك للمصارف اختيار افضل المشاريع من حيث العائد على المخاطر للمشاركة فيها. ومن المتوقع ان يصاحب ذلك تدقيق اكبر من البنوك القائمة بترتيب التمويل على شروط وهيكل القرض ومدى مناسبة تسعيره لتتمكن من تسويقه بنجاح. وبالنسبة الى انواع التمويل فينبغي ان تتعدد لتشمل الادوات المالية المتوافرة عالمياً مثل التمويل ذي الاولوية المتأخرة، والسندات مرتفعة العائد، والسندات التي يمكن تحويلها لأسهم وغيرها. ويمكّن ذلك الشركات العربية، خصوصاً المتوسطة او الصغيرة في قطاع النفط والغاز والبتروكيماويات من الاندماج وشراء الشركات لتتوسع وتقوي مركزها في مواجهة منافسة اجنبية قوية