تُعد محافظة العلا التابعة لمنطقة المدينةالمنورة والواقعة إلى الشمال الغربي منها خزانة تاريخية ومتحفاً لحضارات العالم القديم بكنوزها الأثرية التي تكشف عن حضارة عريقة تجاوزت 200 ألف عام، وامتدادها على طريق تجارة البخور، وتعد اليوم وبفضل الرؤية الحكيمة لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- مقصداً سياحياً يؤمه الزوار من أنحاء العالم، ومن أبرز معالمها موقع «الحِجر» الذي بنته إبداعات الحضارة النبطية، وسُجّل كأول موقع تراث عالمي لليونسكو في المملكة، وكذلك «جبل عكمة» الذي يصنف كأكبر المكتبات المفتوحة في الجزيرة العربية كونه يضم مئات النقوش الأثرية، وجبل «الفيل» الذي يشبه بشكلة المنحوت الفيل، إضافةً إلى «البلدة القديمة» التي كانت ملتقى قوافل الحجاج قديماً، وبجوارها الواحات الخضراء التي تضم مئات النخيل وأشجار الحمضيات المتنوعة، كما تقام في المحافظة العديد من المهرجانات والاحتفالات من أهمها مهرجان «شتاء طنطورة»، ومن الأودية المشهورة في المحافظة «وادي عِشار» الذي يتميز بتضاريسه الجغرافية المذهلة، وتكويناته الصخرية التي شُيِّدَت في وسطها أفخم الفنادق الصحراوية، بالإضافة إلى قاعة «مرايا» الحائزة على جوائز عالمية، كأكبر مبنى مغطى بالمرايا العاكسة في العالم. النقوش والخطوط وتكتنز العلا مزيجاً فريداً بين تضاريسها وتاريخ يعود إلى آلاف السنين ضمها لسجل الحضارات، فهي حاضنة تاريخية للنقوش القديمة الموجودةِ على متون جبالها بخطوط مختلفة، ضمت النبطية واللحيانية والدادانية والثمودية والمعينية، بالإضافة إلى الخطوط العربية والنقوش الإسلامية، مشكلةً مزيجاً فريداً بين الطبيعة والتاريخ، وأدركت المملكة الأهمية التاريخية للمنطقة، فقامت الهيئة الملكية لمحافظة العلا بالعمل على الكشف عن ذلك الإرث التاريخي من خلال المبادرات النوعية، ومنها مهرجان شتاء طنطورة، وسعت الهيئة من خلاله إلى تسليط الضوء على التراث الأصيل للمنطقة وبناء جسر حضاري بين الماضي والحاضر من ناحية، وكشف الأسرار التاريخية الدفينة في المنطقة، من ناحية أخرى، وتعمل الهيئة الملكية على إجراء مسح أثري شامل، وهو ممارسة تختلف عن التنقيب على الآثار، لمحاولة حصر وجمع كافة المعلومات عن الآثار المنقولة وغير المنقولة في العلا، وإعادة رسم الخارطة الأثرية للعلا لإيضاح ما تكتنزه من تاريخ أثري غاية في الأهمية. تقنيات تنقيب والعُلا واحدة من المناطق التي شهدت استيطاناً حضارياً منذ فترة ما قبل التاريخ، بدءاً من العصور الحجرية وحتى وقتنا الجاري، ويعود الأمر إلى سببين رئيسين هما: وفرة المياه العذبة، والتي طالما كان الإنسان القديم دائم البحث عنها، وخصوبة الأرض وقابليتها للزراعة، وهما الأمران اللذان يميزان منطقة العلا منذ فجر التاريخ، وقبيل إنشاء الهيئة الملكية كان هناك بعثتان للتنقيب عن الآثار في العلا، الأولى هي بعثة جامعة الملك سعود، والتي تنقب منذ عام 2004م في موقعي الخريبة -دادان سابقاً-، والمابيات -قُرح سابقاً-، وعملت على تدريب طلاب جامعة الملك سعود على استخدام أهم التقنيات الحديثة في التنقيب عن الآثار، وأتمت 15 عاماً من التنقيب في هذين الموقعين وأظهرت لنا جزءاً مهما من تاريخ المنطقة، كما غيرت كتابة التاريخ عن هذين الموقعين، أمّا الثانية، فهي البعثة السعودية الفرنسية التي تعمل منذ 2003م في موقع الحجر في مدائن صالح، وأسفرت التنقيبات التي أجرتها عن كشف وجه مهم جداً للمنطقة، وغيرت الكثير من الحقائق عن معلوماتنا عن الحجر وعن التاريخ في العلا والاستيطان الحضاري هناك. وتعود الآثار المكتشفة في العُلا إلى عدة حقب من التاريخ، فبحسب المسوحات التي قامت بها جامعة الملك سعود للآثار في «حرة عويرض» على سبيل المثال، فقد أعطت نتائجها تاريخاً أولياً على أنها قد تعود إلى 200 ألف عام قبل الميلاد، مما يعطي بعداً جديداً للوجود البشري في العلا، والذي قد يكون في الأغلب استيطاناً حضارياً، بعد ذلك تأتي آثار الفترة ما بين خمسة آلاف و2000 سنة قبل الميلاد، ومن الدلائل عليها، المدفن المكتشف في الحِجر والذي يعود إلى فترة العصر البرونزي أي إلى 2400 سنة قبل الميلاد، وهو واحد من المكتشفات الأثرية الحديثة في العلا والتي أفادت بوجود استيطان (وجود بشري) فيها خلال فترة العصر البرونزي. طريق تجاري والفترة المهمة جداً في العلا والتي تتميز بها، هي الألف الأولى قبل الميلاد، والتي كان واضحاً جداً خلالها وصول الاستيطان الحضاري فيها إلى ذروته، ومن أهم تلك المواقع هو موقع «دادان» المسمى حديثاً «الخريبة» والذي يمثل عاصمة لمملكتين متتاليتين هما: مملكة دادان، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد وحتى السادس قبل الميلاد، أعقبها مملكة لحيان ذائعة الصيت من القرن الخامس قبل الميلاد وحتى نهايات القرن الثاني أو بدايات القرن الأول قبل الميلاد، ويعود السبب وراء بروز وازدهار العلا في هذه الفترة الحضارية المهمة، إلى موقعها المميز على الطريق التجاري البري القادم من جنوب شبه الجزيرة العربية، والذي كان يخرج من اليمن ويمر بنجران ثم من قرية الفاو حيث كان يتفرع إلى طريقين، أحدهما يمر بالحجاز ثم العلا ثم تيماء ثم يتفرع إلى العراق وبلاد الشام، فكانت العلا خلال تلك الفترة واحدة من أهم المحطات على هذا الطريق التجاري، وكانت القوافل تتوقف في العلا للتزود والاستراحة مما ساهم بشكل مباشر في ازدهارها في هذه الفترة الزمنية المهمة جداً، بعد ذلك تأتي فترة الأنباط في موقع الحِجر، وبحسب المتوفر من المعلومات التاريخية، فقد نزح الأنباط، التي تعود أصولهم إلى البتراء في الأردن، إليها إبّان الغزو الروماني للمنطقة، وكوّنوا عاصمتهم الثانية في الحجر قرابة 40 قبل الميلاد وحتى عام 106 ميلادي، حيث سقطت الدولة النبطية، ودخلت تحت ما يسمى الوجود الروماني في الجزيرة العربية الذي استمر إلى نحو القرن الرابع بعد الميلاد. خزانة تاريخية وانتقلت العلا بعد دخول الإسلام من كونها محطة على الطرق التجارية في الجزيرة العربية، لتصبح محطة رئيسة على طرق الحج القادمة من بلاد الشام ومصر، وازدهرت فيها الكتابات الإسلامية، وتبدو آثار الاستيطان الحضاري واضحة جداً في هذه الفترة في موقع قُرح والمسمى حديثات بموقع «المابيات»، والذي كان من أهم المواقع في الفترة الإسلامية، لدرجة أن أحد المؤرخين يذكر أنه كان يفوق في الأهمية حجر اليمامة وكان يأتي في الأهمية بعد مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، أمّا في القرن العاشر الميلادي، فنشأت البلدة القديمة في العلا واستمرت إلى قبل نحو 80 سنة من تاريخ إنشاء المملكة العربية السعودية، وكانت المدينة القديمة والتي يقام في جزء منها حالياً مهرجان شتاء طنطورة، مستوطنة حضارية بامتياز، فلا عجب أن تولي المملكة اهتماماً كبيراً لمنطقة العلا التي تعد خزانة تاريخية لحضارات متتالية عملت على تطور مسيرة الإنسان والوصول به إلى ما نحن عليه اليوم، فأصبحت همزة وصل بين الماضي والمستقبل. اكتشافات أثرية وبين الحين والآخر يتم الإعلان عن اكتشافات أثرية مهمة، حيث أنهى خبراء في مجال الآثار بالهيئة الملكية لمحافظة العلا، إعادة بناء رقمية لهيكل وجه امرأة تعود للعصر النبطي وتُعرف باسم «هنّات»، حيث تم اكتشافها في مدينة «الحِجر» التي تمّ تصنيفها كأول موقع للتراث العالمي لليونسكو في المملكة منذ 15 عاماً، ويعتقد خبراء الآثار أنها توفيت في القرن الأول قبل الميلاد ووضع جسدها في مقبرة تم اكتشافها في العام 2008م داخل «الحجر» وظلت لأكثر من ألفي عام، وأكدت الدراسات على أهمية مكانة «هنّات» في المجتمع النبطي، حيث امتلكت الثروة الكافية للحصول على مقبرة خاصة لها في «الحجر»، وأصدر عدد من الخبراء في حضارة الأنباط، ملفاً تعريفياً، مزوّداً بصور لملابس «هنّات» ومجوهراتها لوضع الحدود العلمية وإعطاء إرشادات دقيقة وشرح مفصل لإعادة بناء وجهها، وانضم إلى هذه النخبة من الخبراء فريق إنتاج يملك خبرة في الأنثروبولوجيا وإعادة البناء وصنع النماذج المادية، وقالت الدكتورة هيلين ماكجوران -خبيرة تنظيم المعارض التراثية-: إن عملية ترميم ملامح «هنّات»، جمعت بين الدقة العلمية والتطوير الفني المعاصر لتوسيع الفهم حول حضارة الأنباط، والتي لا تزال تقدم الكثير من الأسرار والقصص وتسلط الضوء على تاريخ العلا» ويُعد إعادة ترميم وجه «هنّات» عملاً فريداً من نوعه؛ يهدف إلى منح زائري مواقع «الحِجر» فرصة الاطلاع على ما تتمتع به هذه المنطقة من تاريخ عريق. فأس يدوي وفي نوفمبر من العام الماضي 2023م أعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا عن نجاح فرق التنقيب والاستكشافات الأثرية في موقع «قُرح» عن اكتشاف «فأس يدوي» يعود إلى العصر الحجري القديم، الذي يقدر بأكثر من 200 ألف عام، ويبلغ طول الأداة الحجرية المصنوعة من البازلت الناعم 51.3 سم وقد تم حفرها على كلا الجانبين لإنتاج أداة قوية ذات حواف قطع أو تقطيع قابلة للاستخدام، ولا تزال تجري الدراسات لمعرفة الدور الذي يستخدم فيه الفأس اليدوي، ويعد موقع «قُرح» أحد المواقع التاريخية التي اكتسبت شهرة واسعة في الفترات الإسلامية المبكرة، وكانت من أهم المواقع الحضرية في الجزيرة العربية، وتكتنز بالأسرار والشواهد التاريخية والأثرية، وبلغت في فترة ماضية نموًا وازدهارًا تبوأت من خلاله مكانتها في القرون الأولى للإسلام كذلك، وتم اكتشاف الأداة الأثرية من قبل فريق من علماء الآثار، بقيادة الدكتور كان وجيزيم أكسوي، من شركة TEOS Heritage للاستشارات التراثية، الذي يعمل على استكشاف المنطقة المحيطة بموقع قرح الأثري جنوب العلا، بحثًا عن أدلة على وجود الإنسان في العصور القديمة، وتمكن الفريق من إيجاد عددٍ من المكتشفات الأثرية التي تعود إلى العصر الإسلامي الأول، إلاّ أن هذا الاكتشاف الجديد يعد بكتابة فصل جديد من تاريخ البشرية في شبه الجزيرة العربية وخارجها، ويعد هذا الاكتشاف واحداً فقط من بين أكثر من اثنتي عشرة أداة حجرية مشابهة، وتعود جميعها إلى العصر الحجري القديم. 11 مشروعاً ومن المتوقع أن يكشف المزيد من البحث العلمي عن تفاصيل إضافية حول أصول ووظيفة هذه الأدوات والأشخاص الذين صنعوها منذ مئات آلاف السنين، وتشرف الهيئة الملكية لمحافظة العلا، التي عيّنت شركة TEOS على هذا المشروع، على 11 مشروعًا أثريًا متخصصًا آخر لأعمالٍ ميدانية في العلا وخيبر، ضمن خطوات تسعى للاكتشافات عن أسرار العصور القديمة، وتولي الهيئة أهميةً كبرى للاكتشافات الأثرية في إطار خطتها الشاملة لتطوير العلا، لتصبح وجهةً رائدةً عالمياً للتراث الطبيعي والثقافي، كما كشفت دراسة استكشافية حديثة ارتباط الآثار التاريخية في محافظة العلا وحضاراتها القديمة بالفضاء، حيث مثّل اتساع أرضها وسمائها المرصعة بالنجوم مسرحاً متناغماً للترابط بين الإنسان عبر مختلف الحضارات وحتى اليوم مع النجوم والفلك، وتتيح المواقع الأثرية في العلا فرصاً للتعرف على أهمية علم الفلك في شمال غرب الجزيرة العربية من خلال قصص وحكايات الحضارات القديمة مع الفضاء الرّحب التي يرويها المرشدون، كذلك استخدام الرحّالة والقوافل التجارية، النجوم والكواكب لتحديد الاتجاهات والسفر في الصحراء على مرّ السنين، وأجرى فريق من الخبراء والمتخصصين بمشروع علم الفلك الأثري دراسة ميدانية في واحة العلا، بهدف تجربة طرق جديدة ومناهج مختلفة لتفسير المواقع الأثرية بالمحافظة، ومحاولة معرفة أسباب اختيار الحضارات القديمة لها، وفهم تصور مجتمعاتها عن السماء، وأثر ذلك على ثقافتهم ونظرتهم للعالم. إعادة تأهيل ويعد ممر المزحم بوابة طبيعية للقادمين والمغادرين محافظة العلا من جهة الشمال، حيث يتكون من جبلين صخريين يفصلهما طريق، ويبلغ طولهما نحو 300 متر، وعرض يقارب ال 50 مترًا، وكان في الماضي ممر عبور لقوافل الإبل، ومسيرة قوافل طريق الحج الشامي، حيث كان أصعب المراحل للمسافرين، خاصةً أصحاب الإبل المحملة بالبضائع لارتفاعه وكثافة رماله، إلى أن عملت الحكومة الرشيدة -أيدها الله-، على إعادة تأهيل وسفلتة الطريق، ويحتضن ممر المزحم الذي ارتبطت به العديد من القصص والأساطير الشعبية المحلية، نقوشاً ورسوماً وتشكيلات قديمة تعود إلى آلاف السنين، سطرها المسافرون الذين عبروا من خلاله، يتبادلون من خلالها الثقافات، والأدعية والنصائح التي يستدلون ويرشدون بها العابرون بعضهم البعض، حيث يطل على موقع الحِجر الأثري، وتحيط به المزارع من جهات عدة. فعاليات ثقافية ضمن مهرجان شتاء طنطورة البلدة القديمة سياح يقصدون المعالم الأثرية نقوش أثرية