يقيم مركز بومبيدو في باريس معرضاً استعادياً هو الأكبر والأشمل للفنان الإنكليزي المعاصر الأكثر شهرة ديفيد هوكني. يضم المعرض أكثر من 160 عملاً من اللوحات والرسومات والحفر والصور الفوتوغرافية والكتب والمطبوعات وأعمال الفيديو والتركيب. يقدم المعرض المقام لمناسبة بلوغ هوكني ثمانين عاماً، مسحاً شاملاً لأعماله متتبعاً 60 عاماً من تطوره الفني، منذ أعماله الأولى أيام دراسته الفن في مدينة برادفورد التي ولد فيها، وكانت تعبر عن إنكلترا الصناعية وعن واقعية قاسية، وحتى تكويناته الضخمة المسماة «نجارون joiners» التي أبدعها في مرسمه في يوركشاير، إضافة إلى لوحاته الأكثر شهرة وهي مجموعات حمامات السباحة وصور الوجوه المزدوجة وصور المناظر الطبيعية الصرحية. مثل هذه الرؤية الشاملة، أو الصورة الأكبر كما يطلق عليها الفنان، تعطي فرصة جيدة لإظهار موهبة هوكني غير العادية وتميزه في الفن المعاصر. هذا المعرض شهادة على فنان غزير الإبداع وفضولي لا يتوقف عن الافتتان بطبيعة الصورة. يستكشف هذا المعرض خصوصاً اهتمام الفنان بالتكنولوجيات الحديثة في إنتاج وإعادة إنتاج الصور. سعى هوكني خلال حياته كلها إلى الجمع بين التصوير والتصوير الفوتوغرافي، لاحتضانهما في تاريخ واحد من مسيرة الفن لتمثيل العالم، بدلاً من تعارضهما كما لو أن أحدهما ينتمي إلى الماضي والآخر يمثل الحداثة. قال هوكني في تعبير فريد يمجد الفوتوغرافيا في النهاية: «أنا مقتنع بأن الفوتوغرافيا سبَّبت لنا الأذى. جعلتنا جميعاً ننظر إلى العالم بالطريقة المملة ذاتها. نحن نعيش في زمن لا تبدو فيه كثير من الصور فناً. تبدو شيئاً مشكوكاً فيه أكثر: تبدو واقعاً». تشهد أعمال هوكني، قبل أن يبلغ العشرين من العمر، على موهبة مبكرة في ملاحظة الأشياء. غذت افتتانه منذ صغره بالجانب البصري من العالم ذائقة نهمة للتجريب والتشكيك في النظريات الفنية، خصوصاً نظرية تقادم التصوير painting's obsolescence، وهي النظرية التي تقول أن اللوحة بشكلها المعروف أصبحت قديمة ولم تعد مطلوبة أو مرغوباً فيها ولم تعد مهمة. تأثر هوكني بلقائه بالفنانين الملتزمين اجتماعياً وسياسياً في مدرسة «حوض المطبخ kitchen sink «، وهي حركة فنية بريطانية نشطت في الخمسينات من القرن العشرين واهتمت بتصوير الناس العاديين في حياتهم اليومية، وتوصَّل إلى فكرة لن يتركها أبداً: لكل من التصوير والفوتوغرافيا دور يلعبانه في المجتمع. بدأ هوكني يصبح معروفاً في لندن في بدايات الستينات من القرن الماضي بسلسلة «لوحات الحب» التي قدَّم من خلالها بعداً سردياً وجنسياً في التصوير التجريدي. اختار التركيز على تصوير ما يحيط به: مشاهد محلية ووجوه، ولم يتردد في استعارة عناصر أسلوبية خاصة بمصورين كبار ممن أعجب بهم مثل ديبوفيه وباكون وبيكاسو وبالتوس وهوبر. بدأت في تلك الفترة علاقة غامضة بين هوكني وآلة التصوير الفوتوغرافي. بينما كان لا يثق في هذه التكنولوجيا قائلاً بأنها حلت محل اللوحة، أصبحت ضرورية له في عمل سلسلة «بورتريهات مزدوجة» لأصدقائه ومقتني الفن. زار هوكني مدينة لوس أنجليس للمرة الأولى عام 1964، وكان قد تأثر كثيراً برواية جون ريتشي «مدينة الليل» المستلهمة من هذه المدينة، وانعكس ذلك على بداية مرحلة جديدة في أعمال المصور الشاب. عرضت كاليفورنيا على هوكني ضوءاً ساطعاً ونمط حياة ممتعاً. رسم هناك لوحات لحمامات سباحة وبيوت مقتني أعمال فنية بأسلوب حديث. في هذه اللوحات استخدم ألوان الأكريليك والأسطوانة بدلاً من الفرشاة ليرسم بأسلوب جعله قريباً في ذلك الوقت من البوب آرت. مع ذلك يمكن فهم هذه اللوحات في شكل أفضل كرد فعل على حركة أخرى كانت موضة في ذلك الوقت وهي الشكلية، فهو يضيف نوعاً من التهكم على المشهد ليجعله خفيفاً أو أقل درامية. اكتشف عند زملائه التجريديين أسلوباً آخر خصباً، لباب الورق الملوَّن والمضغوط الذي استخدمه في سلسلة من 29 رسماً بعنوان «برك الورق paper pools». وجد هوكني نفسه في بداية السبعينات في طريق مسدود على حد قوله: كان عليه أن يتخطى استحواذ الطبيعة عليه ويعثر على طريق جديد. فأخذ يستخدم الفوتوغرافيا ضد نفسها، في سلسلة «النجارون» بالذات. هذه التكوينات الفوتوغرافية التي تظهر وجهات نظر متعددة بدلاً من فرض واحدة. طوَّر هوكني بالتدريج تفكيره عن المنظور المركزي للفن الغربي وكيف يحرر نفسه منه. كانت «المناظر الطبيعية المغلفة» لوحاته الأولى التي تستفيد من المنظور المعكوس، وهو أسلوب مستلهم من حفر ساخر للفنان الإنكليزي ويليام هوجارت من عام 1753. وسوف تكشف لنا لوحات معرضه عن علاقة وثيقة بينه وبين أساتذة سابقين لفن التصوير الأوروبي من عصر النهضة وحتى الفن الحديث، وعدم تردده في استلهام بعض من أعمالهم أو حتى إعادة رسم أجزاء. زار هوكني عام 1997 صديقاً قديماً مريضاً في يوركشاير فأعادته هذه الزيارة إلى اكتشاف جمال الطبيعة في طفولته. شرع في سلسلة من الدراسات الكبيرة للطبيعة الإنكليزية، على خطى المصور المعروف جون كونستابل، وكانت فرصة له لإدخال البعد الزمني في تصوير الفضاء. كانت أيضاً طريقة لمتابعة مسيرة المصورين التكعيبيين الذين بحثوا في إظهار وجهات نظر متعددة في الوقت ذاته. أصدر ديفيد هوكني كتابه «معرفة سرية: إعادة اكتشاف الأساليب المفقودة للأساتذة القدماء» عام 2001، استفاد في كتابته من قراءة كتب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون واهتمامه (هوكني) الشديد بأساتذة الفن في عصر النهضة، ووسائلهم الجديدة في تطوير المنظور. ناقش في هذا الكتاب كيف أن الابتكارات التكنولوجية أثَّرت في التصوير قبل ابتكار الفوتوغرافيا بزمن طويل. من آرائه الجديدة مثلاً أن المصور الإيطالي كارافاجيو اخترع ضوء أفلام هوليوود في لوحاته في نهاية القرن السادس عشر! كم أتمنى أن تتم ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية ليستفيد منه الفنانون والنقاد وطلاب الفن أولاً. كانت علاقة هوكني بكاميرا التصوير الفوتوغرافي بداية لعلاقة وثيقة تشبه الهوس بتكنولوجيا الاتصالات الحديثة. لم يقتصر على الرسم والتصوير، بل عمل أيضاً أفلاماً تجريبية قائمة على تعدد التجارب البصرية. بدأ في الثمانينات بالرسم الرقمي على الكومبيوتر، وتلاه باستخدام الموبايل الذكي ثم امتلك جهاز آي باد عند ظهوره للمرة الأولى، وبدأ في تعلم الرسم عليه حتى أتقنه. بل قاده اهتمامه الشديد بالتكنولوجيا الحديثة إلى إبداع أعمال باستخدام الفاكس! وجهاز النسخ الضوئي (فوتوكوبي) وجهاز الطباعة من الكومبيوتر. أنا لم أعرف فناناً غيرَه استخدم هذه الوسائل كافة في فنه، على أساس، كما قال، أن «الإبداع الفني هو فعل تبادل». سمح له الرسم مباشرة على شاشة بإبداع نوع جديد من التجربة التصويرية. يذكرنا قيام هوكني بعملية تسجيل وإعادة تشغيل الرسم في وقته الفعلي برسم بيكاسو على الزجاج في الفيلم التسجيلي الذي أخرجه الفرنسي هنري- جورج كلوزو «سر بيكاسو» عام 1956 وفاز بجائزة خاصة في مهرجان كان. تدل أحدث أعمال ديفيد هوكني على استمرار فضوله وحماسته لكل الوسائط من التصوير حتى التكنولوجيا الجديدة. هو مخلص لمبدأ التنوع، والتنقل ببراعة من وسيلة إلى أخرى في تجريبٍ لا ينتهي لموضوعات التصوير التي لا تنضب: صور وجوه، مناظر طبيعية، طبيعة صامتة. وكما أبدى في حديثه مع منظمة معرضه في الأكاديمية الملكية في لندن عام 2016 سؤاله الاستنكاري: «صور وجوه، مناظر طبيعية، طبيعة صامتة... ماذا هناك أيضاً؟»، بما يعني أن هذه هي مجالات التصوير كافة. لكنه في الواقع أبدع ما هو أكثر من ذلك كما يبدو في سلسلة لوحاته لحمامات السباحة: من أشهره لوحات معرضه الاستعادي في مركز بومبيدو، لوحة «حمام سباحة بشخصين» التي رسمها عام 1972 (أكريليك على قماش مقاس 84/120 سم)، والتي تصور شخصاً عائماً على بطنه وآخر واقفاً بملابسه ينظر إليه. هي من فترة هوكني المسماة «الطبيعية». الشخص الواقف هو الوسيم بيتر شليزنجر الذي كان صديقه الحميم. يمكن النظر إلى هذه اللوحة من زوايا عدة: -إظهار العلاقة بين الشخصين، وربما كان الواقف ينظر إلى نفسه في مرآة الماء كما نارسيس (النرجسي). – نموذج على استخدام هوكني للفوتوغرافيا، فاللوحة رسمها من صورتين فوتوغرافيتين إحداهما لبيتر. – تسجيل لعلاقة حب، فقد رسمها هوكني بعد انقطاع علاقته بصديقه. – تصوير لشفافية حمام السباحة لهذا استخدم ألوان الأكريليك. والواقع أن هذه اللوحة هي كل هذه الزوايا. وهناك كلام كثير آخر لم أكتبه هنا عن الفنان الذي أنهى معرضه في مركز بومبيدو بكتابته على الحائط بخط يده: «أحب الحياة».