للفلسطينيين مع كلمة العودة تاريخ طويل. يطلقونها على الشوارع والمدارس والذكور والإناث، وعنواناً لكل برنامج يصل الأرض المغتصبة بأبنائها المتناثرين في زوايا العوالم المتعددة. فمن "مخيمات العودة" تنطلق "طلائع العودة" وعن رغبات "أدب العودة" يصدر فلسطيني يحسن الرجوع بلا دليل. لا شيء يمنع بطل جبرا من لقاء أرضه الموعودة في سطر الرواية الأخير، ولا شيء يكبح إميل عن مزاملة يُعاد وإرضائها بالمواعيد المرجأة، فإن أخذ غسان كنفاني دوره في الكلام حدّث عن "عائد إلى حيفا". وكلمة العودة ظل لبداهة فارعة، فهي رجوع إلى البيت الذي كان، واستعادة خالصة لأرض الأجداد من دون سوء خارجي، كما لو كان الانتصار يلازم العودة مثلما تلازم الشفتان الأسنان النظيمة. رغبات مقضومة يكتب كنفاني في "عائد إلى حيفا": "قد أكون مجنوناً لو قلت لك إن كل الأبواب يجب ألا تفتح الا من جهة واحدة، وأنها اذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال". تولد العودة من هزيمة الآخر، وتعطي الأبواب مغاليقها للأيدي المنتصرة، فإن جانب "العائد" الانتصار، ليست العودة شكل الهزيمة. والموضوع الذي كتبه كنفاني، يعيد مريد البرغوثي كتابته في زمن مختلف، اذ الأبواب لا تفتح ولا تغلق لأنها مغلقة ومفتوحة معاً. كأن البرغوثي يكتب عن الاحتمال الذي لم يهجس به غسان كنفاني، بعد ان تم فتح الأبواب من "الجهة الأخرى"، لأن الدروب لم تسمح لپ"العائد" ان يعود كما أراد. يستكمل البرغوثي نص كنفاني وينقله من مدار التذهين والمعادلات المجردة إلى أرض الغبار والمعاناة اليومية، أو ينقله من فضاء رغبة ناصعة البياض إلى مساحة تعرف المطر والوحول والأماني الناقصة. وبسبب هذا فإن الشاعر يعارض، أدبياً، الروائي الراحل ويرثي أحلامه، كما لو كان يخبر من جديد ان "دروب الحياة" لا تتقاطع مع "دروب الأدب" الا في صدف عارضة. يعود مريد البرغوثي في "رأيت رام الله" إلى بلدته بعد انتظار دام ثلاثين عاماً. فيكتب في شطر من الكتاب عما رأى، ويسجل في بقية الكتاب ما عاشه في ثلاثين عاماً. تأخذ العودة معناها من منفى قسري سبقها، ويستمد المنفى دلالته من أرض خسرها من أجبر على اللجوء. فلولا المنفى لما أخذت العودة شكل الأسطورة، ولولا الأرض المصادرة لما أصبح المنفى أرضاً رخوة وبالغة الرخاوة. والسر كله لا يقوم في الأسماء والمسميات، أرضاً رمادية كانت أم خضراء أورق فيها الحجر، بل في تجربة مؤسّسية تشطر الانسان إلى شطرين وترمي بأحدهما إلى لا مكان. فالأرض لا معنى لها عند من يدخل إليها طليقاً، ويخرج منها مطلق السراح. يقول بريشت: "لا يرى الولد أمه امرأة الا اذا اقترب منها رجل غريب". المقارنة التي تتضمن التهديد وظلاً غير مألوف يأخذ بها البرغوثي، ويصوغها على ضوء ما عاشه: "قلت لنفسي ما هي استثنائيتها لو لم نكن فقدناها؟ هي أرض كالأرض". والمفقود الذي يتأمله الشاعر الفلسطيني يبدأ بالأرض وينتهي بما يجعل التكامل الانساني مشروعاً مفقوداً. يبدأ البرغوثي سيرة "العائد" بفصل عنوانه: "الجسر". والجسر موقع للعبور، ينقل الانسان من طرف إلى آخر ويؤمن عبوره سالماً. غير ان الجسر عند الفلسطيني الذي فقد شطراً من ذاته في مكان، يأخذ دلالة زمانية قبل ان يكون درباً ضيقة تفصل بين أرضين. فهو المكان الذي تلتقي في منتصفه السنوات الثلاثين التي مضت بالسنوات العشرين التي سبقتها، وهو الموضع الذي يمشي فوقه الكهل الفلسطيني كي يلتقي بمرابع الطفولة والصبي اللاهي الذي كانه، وهو الممر الضيق الذي يتيح مقارنة تجربة اللجوء بتجربة انسانية سوية ولا اغتراب فيها، بل انه المعبر الذي يلتقي فوقه الفلسطيني بالحقائق والأوهام والرغبات القديمة والأماني التي قضم منها الزمن أطرافاً كثيرة. ولذلك فإن ذاكرة البرغوثي تنفتح على الأزمنة كلها، كما لو كان الجسر يلغي الزمن الفيزيائي صيف 1996، ويضع الأزمنة كلها في كيس حريري مثقوب، تنثال منه أزمنة طليقة، تسرد أحوال الطفل الذي سيكون شاعراً، والتلميذ الذي طلب العلم في القاهرة قبل الخامس من حزيران يونيو، والعائلة التي تبعثرت في العواصم العربية، والأخ الكريم الذي قتل في العاصمة الفرنسية. ذاكرة المغبون كل شيء يدخل الذاكرة ويخرج منها كما يشاء، كما لو كانت الذاكرة هي القصر الجليل الوحيد الذي لا يطأه العسس. فللحوار المتقطع مع حسين مروة مكانه، وللدموع المسكوبة على ناجي العلي خزائنها المحتجبة، ولأطياف الأم صناديقها المحفوظة، ولصوت "تميم" ألوانه بعد أن يزور الأب في العاصمة الهنغارية ويعود إلى مدارسه المصرية. يعبر الشاعر الجسر ويرى الأرض بلا تيجانها، أرضاً كأي أرض أخرى، بعد ان تلعثم الحنين وسحب الخيوط التي تلبس الأرض ثوباً من حرير: "هل قدمت للغرباء صورة مثالية عن فلسطين بسبب ضياعها؟ قلت لنفسي عندما يأتي تميم إلى هنا سيظن أنني وصفت له بلاداً أخرى". وما فعله الفلسطيني مع أرضه التي حلم بها، قام به الافريقي وهو محمول مع قيوده في قارب يحمله إلى "العالم الجديد"، اذ الأرض صورة لما أرادته ذاكرة المغبون، قبل ان تكون مساحة من تراب وخضرة. "مساحة مغلقة، مغلق جراب الكنغر، انه دافئ هناك"، يقول موريس بلانشار. والغريب يستدفئ بحرارة الذاكرة وهو ملقى بالعراء. والغريب يرى في ذرة الحلم جنائن معرشة. والغريب يرى البيت الموعود أقل جمالاً حين يعود إليه. وفي البيت الموعود ما يلقي على شوق الغريب بأكثر من حجر. حين يسمع البرغوثي جملة مألوفة بعد الوصول "تعال هون يا أخ" يقول: "يا أخ، بالتحديد، هي العبارة التي تلغي معنى الأخوة". غير انه لا يلتقي بما لا يرضيه، إلا لأنه أدرك بعد الوصول، أو قبله ربما، بأن "الأبواب التي تفتح من أكثر من جهة" لا تمنح عين الواصل ما أرادت ان ترى، بل تعطيه ما استطاعت أن تعطي لا أكثر. رحلة اضطراب جديدة يقول البرغوثي، بعد ان ارتطمت عينه بما لم يتوقعه تماماً: "على الرصيف المقابل ألتقي بأول فلسطيني يمارس صلاحيات واضحة ومفهومة". وهو لا يقول هذا إلا لأنه التقى على "الرصيف الأول" بضابط فلسطيني يجلس إلى جانب "الضابط الاسرائيلي الذي يتعمد الابتسام" ويقرر الوصول إلى رام الله أو العودة إلى الجسر. ولعل "غياب الوضوح" الذي يتلو الجسر، هو الذي يجعل الذاكرة تتأمل تفاصيل المسار الطويل وتقارن بين حقائق الاشياء وظلالها، كما لو كان الواصل يتوزع على الحنين المستريح وقهقهة الزمن الشائكة في آن. ولعل هذا الوضوح المكبل هو الذي يدفع ب "العائد" إلى الغوص الشديد في تفاصيل الحياة اليومية العارضة، ناظراً إلى شوقه في ما يرى، وناظراً إلى روحه المضطربة وهو يتأمل شوقه في مرآة جللها الضباب. والوصول الذي ينقصه بعض الوصول يجبر الذاكرة أن تلملم زمانها المنفلت على كل الجهات، وأن تعيد الزمن إلى جدوله اليومي البسيط الذي يجري هادئاً أمام البيوت القديمة وأحاديث العمة العجوز وضوضاء المكاتب التي تشبه غيرها من المكاتب. ولهذا تمضي سطور "رأيت رام الله" متوترة، تتأمل لون الأرض وتفتش عن الوطن، وتلتفت إلى ناجي العلي وتنثر الأسئلة، وتتكئ على "جهات الروح" وتنظر إلى السماء. "رأيت رام الله" كتاب متعدد الوجوه، صاغه شاعر يحلم بالرواية، وروائي لا يستطيع التمرد على الشعر. كتاب يحكي تجربة الغربة والغريب، وتجربة الذاكرة التي تقف أمام ما خلقت وتجده أقل جمالاً، وتجربة الفلسطيني الذي عاد إلى أرضه من "الجهة الأخرى"، والتقى بما يرضي الروح ويرسل العقل في رحلة اضطراب جديدة. غير ان كتاب مريد البرغوثي مرآة أولاً لتجربة الغربة والعودة من وجهة نظر نخبة فلسطينية تحسن الكتابة وتجعل من الكتابة نهجاً في الحياة، فتلتقط بعض ما يعيشه الفلسطينيون، ولا تلتقي بپ"الكل المعيش"، حتى لو بذلت كل جهودها الصادقة كأن سيرة فلسطين كانت، ولم تزل، سيرة بلغة المتعدد، تتوزع على من يحسن الكتابة وعلى من سلك دروباً مغايرة ولم يتعلم أصول الكتابة أبداً