يمكن اعتبار الحلقة الأخيرة من برنامج «وحي القلم»، الذي قدمته قناة «الجزيرة»، استثنائية من أكثر من زاوية للنظر: فهي، أولاً، استثنائية في ما قدمت من ضيوف يمثلون عائلة يجمعها الإبداع الى حدّ الاستبداد بها هموماً واهتمامات: فمريد البرغوثي، الزوج والأب، شاعر فلسطيني معروف، درس في القاهرة خلال الستينات، وتخرج في جامعتها، وتزوج من زميلته المصرية فيها... ثم أبعد من القاهرة، ولم يسمح له بالعودة إليها إلاّ زائراً. ورضوى عاشور، الزوجة والأم، روائية مصرية، وأستاذة جامعية، أحرزت مكانتها المرموقة في دنيا الكتابة والإبداع، وبالذات في حقل الرواية. وتميم البرغوثي، الابن والشاعر الذي ولد ونشأ بين انتماءين: انتمائه الفلسطيني من جهة الأب والقضية، وانتمائه المصري من جهة الأم والنشأة والتعلّم، ما جعل منه صاحب رؤية عربية بامتياز، الى الحد الذي دفع السلطات المصرية الى أن تعيد معه ما فعلته مع أبيه، فأبعدته عن «أراضيها». واستثنائية هذه الحلقة، ثانياً، أنها جمعت بين ضربين من ضروب الإبداع متقدمين في الحياة الثقافية العربية، وهما الشعر والرواية، ضمن رؤية تاريخية واحدة... كما جمعت بين جيلين من المبدعين هما: جيل الأب والأم، وجيل الابن تحت سقف واحد. واستثنائيتها، ثالثاً، كان في أسلوب الإخراج التلفزيوني لها. فقد بدا البرنامج، لمن تابعه من جانب فني، وكأنه «فيلم سِيَري تسجيلي»، أبطاله شاعران وروائية، راح كل منهم يحكي قصته مع الإبداع، إبداعه الشخصي، كما حكى علاقته بالآخر (الزوج والزوجة، والابن بأبويه).. ليلتقوا في الأخير تحت سقف الإبداع في خضم حياة جعلت لهم همومهم المشتركة: إبداعياً، وقومياً، وتاريخياً.. كما جعلت لهم نظرتهم المشتركة الى المستقبل الذي بنى جانباً من «الحضور» فيه رضوى الروائية ومريد الشاعر، ويستأنف البناء فيه تميم الشاعر والابن على غرارين: غرارهما الذي تعلّم منه وتأثر به، وغراره الخاص، أو الشخصي... بمداميك تستمد قوّتها من تجربتين، هما: تجربة الأب مع الشعر والمنفى، وتجربة الأم مع الرواية والصبر على كل ما ألقت إليها الحياة من شدائد... فإذا الشاعر - الابن يصنع، هو الآخر، «تجربته الخاصة»، وإن جمعت بين الشعر، والمنفى، والصبر بمكابرة. ومن جانب آخر، فإن طبيعة الحديث التي أخذت كلاً منهم في طريق، وهو يتحدث الى «الآخر - المشاهد»، ولم يكن ذلك الطريق شيئاً آخر سوى البساطة، والصدق، ومجانية الادعاء... جعلهم يتحدثون بما يليق بهم مكانة إبداعية وإنسانية، ويليق بالمشاهد عقلاً وحالة وجدانية... واعتقد أنهم وصلوا إليه، وأصغى إليهم، كما أصغيت، بانتباه ويقظة. كان البرنامج أقرب الى حكاية لا تمل إذا حكيت مرتين، وكان هذا بفعل براعة المتحدثين في حديثهم، وبراعة المخرج الذي منح الحديث بعده الذي يقول في الآخر ما قاله غسان كنفاني على لسان أحد أبطاله، ذات رواية من رواياته: «إن الإنسان في نهاية المطاف موقف».