يعاني الأديب العربي من حواجز كثيرة تحول دون انتشار أعماله على مستوى واسع، وهذا الحصار دفع عدداً من الروائيين إلى الارتماء في أحضان التلفزيون. تحاول "الوسط" أن ترصد هذه الظاهرة، انطلاقاً من التجربة السوريّة التي تمثّل شريحة معبّرة. فبعض الأدباء تغيّرت نظرته إلى الشاشة الصغيرة التي احتقرها طويلاً، وراح يبحث فيها عن مساحة للحريّة، أو فرصة للوصول إلى الجمهور العريض. فيما يشير بعضهم الآخر إلى حدود التعامل مع منطق الانتاج واعتبارات التسويق. ولعلّ مستقبل الأدب في كل الحالات هو المطروح على بساط البحث. شكلت "الرواية التاريخية" مصدراً مهماً من مصادر الانتاج التلفزيوني السوري. وهذا الأخير شهد منذ مطلع التسعينات فورة جعلته يحتل الموقع الثاني بعد مصر من حيث حجم انتاج المسلسلات التاريخيّة، والموقع الأول على مستوى النوعيّة، كما يرى بعض النقّاد وتشير استفتاءات الجمهور العربي. كان مسلسل "نهاية رجل شجاع" 1993 المأخوذ عن رواية حنا مينة تأشيرة العبور الواسع للدراما التلفزيونية السورية إلى التلفزيونات العربية، وذلك بفضل قوّة العمل الروائي الذي اقتبسه للتلفزيون حسن م. يوسف، وجماليات الاخراج الذي حمل توقيع نجدت أنزور. ثم جاء مسلسل "خان الحرير" للروائي نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي مترافقاً مع مسلسل "اخوة التراب" للثنائي يوسف - أنزور كي يعزز موقع هذه الدراما أكثر فأكثر في المحطات التلفزيونية العربية من المحيط إلى الخليج. وشجعت تلك الأعمال الناجحة، بما أثارته من أسئلة تخص التاريخ العربي، عدداً متزايداً من الروائيين السوريين، على خوض غمار هذه التجربة. يقول الروائي نهاد سيريس الذي نشر أربع روايات، قبل أن يتحوّل مع "خان الحرير" إلى كتابة السيناريوهات: "حين كتبت أول رواية، لم أكن أتصور أنني سأخوض مجال الدراما التلفزيونية. في الحقيقة لم يكن التلفزيون يجذبني، بل كانت طموحاتي تنحصر في مجال النصّ المكتوب، ومشاغلي أدبيّة صرفة. كنا نعتقد أن الدراما التلفزيونية شيء أقل من الأدب، ولا يمت له بصلة. وكان طموحي أن أكتب الرواية الأكثر شعبية وتواصلاً مع الناس... أن أكتب رواية تُقرأ. لكن التغيرات التي عصفت بكل شيء، غيرت أيضاً هذه القناعات. فقد أصبح التلفزيون ورقة بيضاء يمكن أن يأتي أي مبدع ويكتب عليها نصاً سيئاً أو نصاً جيداً، كما بات جمهور التلفزيون متعطشاً للأعمال الجادة ويفضّل مشاهدتها على قرءاتها". ويتابع سيريس: "صدمتنا الاحصائيات، على مستوى العالم العربي، وأرقام توزيع هذا الكتاب أو تلك الرواية. هل يعقل أن يوزع في بلاد العرب قاطبة هذا العدد الضئيل؟ أفضل الروايات العربيّة التي تحمل توقيع أدباء كبار، لا توزع سوى آلاف قليلة! أقول هذا واعتبر نفسي متفائلاً، فهناك روايات مهمة مضى على طباعتها أكثر من خمس سنوات ولم تنفد الطبعة الأولى منها بعد. عدد قرّاء الأدب قياساً إلى عدد الذين يعرفون قراءة لغة الضاد يكشف عبثيّة الموقف وهول الكارثة. هذه النسبة ليست في صالحنا على الاطلاق". أما نبيل سليمان، فينظر إلى المسألة من زاوية أخرى، على رغم تحويل روايتيه "الأشرعة" و"أطياف العرش" إلى الشاشة. يقول سليمان: "عادل أبو شنب دعا في السبعينات إلى الرواية التلفزيونية، وجدد الدعوة في الثمانينات أسامة أنور عكاشة. ويستعيد بعض الكتّاب اليوم تلك الدعوة تبريراً لتعاملهم مع التلفزيون، أو تعويضاً عما فاتهم من الرواية، أو - في أحسن الأحوال - طموحاً إلى جنس جديد من الكتابة، يتعكز على الرواية في بدايته. أما التعلل بتعويض القراء المتناقصين بالمشاهدين المتكاثرين، أو بالكتابة بلغة العصر التلفزيونية ففيه من الخلط ما فيه". "وقد ضاعف هذا الخلط - يواصل سليمان - ما توفره كتابة السيناريو من تأثير جماهيري ومن مال وشهرة، تفتقر إليها الكتابة الابداعيّة بشتّى روافدها. وتفاقمت في السنوات الأخيرة الفورة التلفزيونية العربية التي بات "كتّاب السيناريو"، من جرّائها، أكثر من الهمّ على القلب". ويحيل هذا الكلام إلى مشكلة المتسلقين من الذين ركبوا الموجة طمعاً في قطف ثمار نجاح غيرهم من الكتّاب، ومصادرة جهد أصحاب المشروع الأساسيين. إذ ظهرت مجموعة أعمال رديئة، حاولت أن تحاكي الأعمال الناجحة التي كتبها نهاد سيريس وحسن م. يوسف وغيرهما من الكتّاب القادمين إلى التلفزيون من عالم الأدب. ويتوقّف نهاد سيريس عند تجربته في مجال الكتابة للتلفزيون: "في الماضي، وقبل أن أكتب الرواية، كنت أقرأ الأعمال الروائية العربية والأجنبية بشكل مكثف، وكذلك كنت أحضر الأفلام السينمائية. وإذا شئت أن أكون دقيقاً، أقول إنّني شاهدت أول فيلم سينمائي قبل أن أقرأ أول رواية. فثقافتي البصرية متلازمة مع قراءاتي. هذا الأمر جعلني غير غريب عن هذا الفنون السمعية - البصرية. من يقرأ رواية لي يلاحظ أن لغتي ليست ذاتها على الاطلاق، بل انها لغة تصنع صورة بالدرجة الأولى وتصنع الحوارات. وما أن بدأت أشاهد أعمالاً تلفزيونية مهمة، حتى صرت جاهزاً للاستجابة لإلحاح المخرجين وأولهم المخرج المثقف هيثم حقي". ويضيف سيريس: "كان عليّ أن أتساءل عن العمل الأول الذي سيقدمني إلى الجمهور، وأن أبتكر طريقتي الخاصة. وجدت أن الأسلوب التلفزيوني لم يرسم بعد، وأن عليّ أن أسحب التلفزيون إلى طريقتي من دون ان أغامر بالفشل. نقلت تجربتي في الأدبية إلى المسلسل، جاعلاً هدف الدراما قريباً من هدف الرواية. حاولت استدراج المشاهد إلى تذوّق الفن الروائي، عبر رسم بيئة معينة بكل جوانبها البشرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وابتكار شخصيات منسجمة مع تلك البيئة. شخصيات يتذكرها المشاهد بقوة، ضمن شبكة علاقات محكمة. مهمتي إذاً أن أقدم من خلال المسلسل التلفزيوني معماراً روائياً متماسكاً وجذاباً، من هذا المنطلق كتبت "خان الحرير" ثم اتبعته بمسلسل "الثريا"". نصل هنا إلى مشكلة، كثيراً ما أثير النقاش حولها، هي مدى أمانة كاتب السيناريو للأصل الروائي. فالروائي قمر الزمان علوش يعتبر أن العمل الأدبي يفقد عند تحويله إلى مسلسل تلفزيوني ما يقارب 30 في المئة من قيمته. يضاف إلى ذلك "خسائر أخرى ناجمة عن وجود شبكة معقدة من المحظورات والخطوط الحمر التي يتم من خلالها محاصرة هذه الأعمال وإهزالها... لكن تعويض جزء من هذه الخسائر ممكن إذا كان السيناريو جيداً، وكذلك الاخراج والتمثيل وهذا ما لا نراه إلا نادراً، كما في مسلسل "نهاية رجل شجاع" عن رواية حنا مينة، أو مسلسل "الزيني بركات" عن رواية جمال الغيطاني". أما الروائي نبيل سليمان فيرى أن "الرواية تبقى هي الرواية والسيناريو هو السيناريو. قد نسمع غداً من يقول بالرواية الاذاعية كما سبق وروّج بعضهم ل "المسراوية" المسرحية - الرواية، على سبيل الخلط، وليس على سبيل التجريب في الابداع. أما الرواية يحوّلها سيناريست فأمر آخر. كابدت هذه المصاعب مع روايتي "الأشرعة"، إذ حذفت عناصر وأضفت عناصر حتى راودني الاحساس بالخيانة. كما ان كتابة الحوار بالعامية كانت تجربة جديدة لي". ويضيف صاحب "مدارات الشرق": "أحسب أن التجربة كلها أفادتني في كتابة الرواية من حيث الصورة والمشهد والحوار. والآن يجري تصوير مسلسل بعنوان "الطويبي" عن روايتي "أطياف العرش". وقد كتبت له المعالجة الدرامية وكتب السيناريو قمر الزمان علوش، فأخذ ما أخذ، وترك الباقي... وهنا أشدد على بعض الكتّاب الذين يتباكون بنرجسية، على رواياتهم عندما تصوّر. وأظن أن بعض ذلك يعود إلى الجهل، فبين الرواية والسيناريو مسافة، وبين السيناريو وما يراه المتفرج مسافة أخرى. والمهم هو ما سيراه المتفرج في النهاية، ومدى انسجامه مع نفسه وتحقيقه لجمالياته. لكن بعض كتّاب السيناريو يقع أيضاً في فخّ النرجسية، فيتعالى على الأصل الروائي أو ينكره، أو يقزّمه... بحيث يبقى لكاتب السيناريو وحده مجد المسلسل أو شهرته أو فلوسه". وكامتداد للنقاش الدائر حول الدراما التاريخية، يثار حالياً في دمشق نقاش حيوي حول الأعمال الدرامية المقتبسة عن الروايات التاريخية، ومدى الحاجة إليها الآن. للروائي قمر الزمان علوش رأي في ذلك: "العودة إلى التاريخ درامياً ضرورة فكرية وحياتية تحتمها مسألة وجودنا القلق الآن وهنا، على عتبة قرن جديد... فلا قوة تعادل قوة تأثير التاريخ على تشكيل الوجدان العاطفي والقومي لدى الفرد والمجتمع عموماً". "لكن عندما نقول دراما تاريخية - يستدرك علوش - فهذا يعني خضوعنا تلقائياً لجملة شروط فنية وفكرية يطرحها هذا النوع من الدراما حفاظاً على الصدقيّة ونشداناً للتأثير... هذا واضح نظرياً للجميع، وتبقى الفروق في كيفيّة تنفيذه ابداعياً؟ وهنا تبرز مشكلة أساسيّة من أبرز ما تعاني منها الدراما، وتتمثّل بتغليب التوثيق التاريخي على الدراما نفسها. هنا يصبح العمل الفني مجرد إعادة انتاج للوثيقة من خلال الصورة المرئية. كما يجتهد بعض الأعمال في استدعاء الوثيقة للنيل من مرحلة أو جهة ما، متجاهلاً أن التاريخ هو ذاكرة وحياة بشر وليس مقبرة أموات...". أما نهاد سيريس فيرى أن اهتمام الدراما بالتاريخ وتعلقها به مماثل لما تقوم به الرواية التاريخية : "لا نتحدث هنا عن أعمال تاريخية تكتب بهدف شرح ملحمة تاريخية أو حادثة بطولية، فتقدم الحدث وأبطاله الحقيقيين. نحن نتحدث عن الرواية التاريخية التي تهتم بمجتمع في سياقه التاريخي. أقول ذلك لأعبر عن دقة وعظمة الرواية التاريخية، فالآراء السياسية والاجتماعية والإنسانية وغيرها، تفقد كل معانيها إن لم توضع في سياقها التاريخي الصحيح. إن حذف التاريخ، كزمان ملازم للمكان، يحول الأفكار إلى مجردات وعموميات. هل يمكن فصل الأفكار عن بيئتها وزمانها؟ طبعاً لا. لذلك نأخذ التاريخ كإطار، ومن ثم نغوص في الأفكار والمعتقدات - وهي زمانية حكماً - لنبحث عن اجابات على الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا، نحن الكتّاب، حين نشرع في الكتابة". ولكن هل انعكس نجاح الأعمال التلفزيونية على توزيع الأعمال الروائية؟ يجيب سيريس: "بالطبع، لكن أقلّ مما نتمنّى... فهناك الحواجز الجمركية والرقابية. الدراما التلفزيونية تهبط من الفضاء، فيما الكتب في حاجة إلى شبكات توزيع وحملات ترويج وتشجيع. المسلسل الجيد ترعاه شركات الاعلان، أما الكتّاب فقد تحاربه تلك الشركات من أجل ترسيخ قيم المجتمع الاستهلاكي. كما ان العربي يحب التلفزيون ولا يحب القراءة... هذا شأنه، وهو حر، وقد انتظرناه طويلاً ليأتي ويشتري الكتاب، ولكنه لم يفعل. من أجل ذلك انتقلنا إلى التلفزيون لعلنا نصنع الأدب المرئي"