لم يكن باستطاعة بنيامين نتانياهو، غداة توليه رئاسة الوزراء، اعلان وفاة اتفاق أوسلو. ولم تكن له مصلحة في ذلك. فأوسلو اتفاق فلسطيني - اسرائيلي بشراكة أميركية حظي بعد توقيعه بما يشبه الشرعية الدولية. وفي الاتفاق الذي وقع في ظل موازين القوى التي كانت قائمة آنذاك مكاسب لاسرائيل وبعض المكاسب للجانب الفلسطيني الذي قد يكون دفع باهظاً ثمن هذه المكاسب بسبب ما اعتبره غياب الخيارات الأخرى. أتاح الاتفاق للفلسطينيين، ممثلين بقيادة منظمة التحرير، ان يقيموا للمرة الأولى سلطتهم على بعض أرضهم وأن يفاوضوا انطلاقاً من ذلك حول مستقبل الأرض وحدود السلطة والدولة. وكان عليهم أن يدفعوا ثمن ما حصلوا عليه لجهة الاعتراف وتعديل الميثاق وارجاء مناقشة بعض الملفات الشائكة الى المرحلة النهائية وعدم الاحتكام الى ما هو خارج نصوص الاتفاق. في المقابل سجل الجانب الاسرائيلي اختراقاً غير مسبوق في تاريخ النزاع تمثل في انتزاع الحلقة الفلسطينية منه. وهذا يعني تحويل النزاع على الجبهات الأخرى الى خلاف حدودي لم تعد "القضية" جزءاً من التفاوض في شأنه. ودفع الاسرائيلي ثمن ذلك اضطراره الى الاعتراف بالشعب الفلسطيني والمنظمة وقبوله مبدأ الأرض في مقابل السلام وتسليمه بسلطة تحمل عملياً امكان التحول دولة. ولعل ما دفع الجانب الاسرائيلي الى التوقيع، علاوة على الضغوط الأميركية التي رتبتها مقتضيات بناء التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية، الشعور بأن منظمة التحرير تعيش اسوأ أيامها بفعل العزلة التي نجمت عن موقفها من غزو العراقالكويت. لم يكن سراً ان اتفاق أوسلو لا يملك مفاتيح سحرية وأن الجولات المقبلة من التفاوض في شأن المرحلة النهائية ستكون قاسية. فمن يملك تفويضاً للتنازل في ما يخص القدس أو بعضها، ومن يستطيع التنازل علانية عن حق اللاجئين في العودة؟ وعلى رغم ذلك بدا لفترة ان قيادة حزب العمل، وهو الحزب الذي صنع حروب اسرائيل باستثناء حرب لبنان، قادرة على تغليب الحسابات البعيدة المدى. لكن الزلزال لم يتأخر فقد اغتيل رابين وخسر بيريز الانتخابات وبدأ عهد نتانياهو. لم يكن باستطاعة نتانياهو اعلان وفاة اتفاق أوسلو. لكنه بدأ عملياً ومنذ وصوله حرباً لاستنزاف الاتفاق وفرض تفسيرات جديدة لنصوصه وروحيته. لم ينظر الى الاتفاق من زاوية السلام والأحلام الاقتصادية التي راودت بيريز في شأن الشرق الأوسط الجديد. نظر الى بعض أوسلو كفرصة للتخلص من السكان المشاغبين في غزة ومن بعض التجمعات السكانية في الضفة وحاول الالتفاف على ما تبقى من أوسلو. أعطى الأولوية للأمن لا للسلام وتحرك للاحتفاظ بأكبر قدر من الأرض مع تطويق الأرض التي تم التنازل عنها. وتابع على الجبهة الأخرى معركة الاستيطان والتهويد لوضع الفلسطينيين، قبل مفاوضات المرحلة النهائية، أمام أمر واقع لا يمكن رده. وفي ظل هذا التوجه بدا واضحاً أن نتانياهو منهمك بالمحافظة على الائتلاف الحكومي أكثر بكثير من انشغاله بمستقبل المفاوضات والسلام. ولم يؤد هذا التوجه الى وقف المفاوضات فقط بل أيضاً الى تسميم العلاقات مع مصر والأردن وأطراف عربية أخرى شكل موقفها سابقاً مظلة لحماية خيار التفاوض مع اسرائيل. والواقع ان نتانياهو يتصرف في ضوء ميزان القوى. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي يفتقر العرب الى حليف دولي كبير. وأظهرت التجربة ان الرهان على دور أوروبي لا يتعدى محاولة تذكير أميركا بضرورة تنشيط دورها كوسيط نزيه. لكن إدارة كلينتون لا تبدو مستعدة لتكرار ما فعلته إدارة بوش ليس فقط بسبب فضائح الرئيس بل أيضاً بسبب قدرة نتانياهو على نقل الحرب الى داخل الكونغرس. يفتقر العرب اليوم الى حليف كبير ويفتقرون ايضاً الى القدرة على الاجتماع وعلى تضامن الحد الأدنى. أما السلطة الفلسطينية فلا تبدو قادرة على العودة من أوسلو الى لغة الانتفاضة، ولا تجد أمامها غير تجديد الرهان على الدور الأميركي. وبمقدار ما يمكن الحديث عن مأزق السلطة يمكن الحديث عن مأزق "حماس". ويزيد من قتامة الصورة ان نتانياهو ليس مهدداً في الداخل. فايهود باراك زعيم حزب العمل المعارض لم ينجح في تقديم نفسه كبديل مقنع. وساهمت مناورات نتانياهو في ترويض صقور الائتلاف الحكومي. والاستطلاعات تشير الى أن الاحتكام الى الناخبين سيؤكد ما هو قائم حالياً. وفي ظل هذا الانسداد يتراجع الرهان على السلام ويتقدم التشدد والتشاؤم منذراً بانفجار ما، إذا كتب على العرب أن يمضوا نهاية القرن على ايقاع نتانياهو