في الوقت الذي كانت تقترب الذكرى العاشرة لاتفاق أوسلو في الشهر الماضي، كان محمود عباس الذي سجل التاريخ اسمه باعتباره مهندس ذلك الاتفاق، يترنح تحت ضربات سياسية كالها له رئيس وزراء إسرائيل أرييل شارون والرئيس الأميركي جورج بوش من جهة، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى استقالته من منصب رئيس وزراء السلطة الوطنية الفلسطينية التي ظهرت إلى الوجود بفضل الاتفاق نفسه، ليكون بذلك ضحية جديدة من ضحايا اتفاق أوسلو. ولا يغير من الأمر شيئا أن محمود عباس لم يكن ضحية مباشرة للاتفاق الذي هندس شقه الفلسطيني، بل كان في واقع الأمر ضحية خريطة الطريق، وخريطة الطريق هي بنت اتفاق أوسلو الذي وقع في باحة البيت الأبيض الأميركي قبل عشر سنوات في احتفال مهيب، لكن أحدا لا يعرف ما إذا كانت الخريطة ابنته الشرعية أو غير الشرعية. أما الضحية الأولى للاتفاق فلم يكن غير عرابه الإسرائيلي إسحق رابين الذي سقط صريع رصاصات مسدس أطلقها عليه شاب يميني متطرف لأنه "تنازل عن جزء من أرض إسرائيل"، كما قال القاتل مبررا جريمته التي ارتكبها قبل أن يمضي أكثر من عامين على توقيع اتفاق اجتمعت على رفضه أطراف عدة في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني وتعدتهما إلى العالم العربي وغير العربي. وفي حين دفع رابين حياته ثمنا لتوقيعه الاتفاق، فإن خلفه شمعون بيريز دفع الثمن من حياته السياسية. فهو لم يستفد من حالة التعاطف التي سادت الشارع الإسرائيلي غداة مقتل رابين، فتلكأ في الدعوة إلى إجراء انتخابات كانت ستسفر عن نجاح ساحق لحزب العمل، وفي فترة التلكؤ تلك حدثت عمليات تفجير في القدس وقيسارية قامت بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي أحبطت حالة التعاطف مع السلام في الشارع الإسرائيلي. هكذا دفع بيريز الثمن بفشله في آخر انتخابات رئاسية يخوضها، وهي انتخابات انتهت بفوز بنيامين نتانياهو عن حزب ليكود ليتحول بيريز بعد ذلك إلى لاعب ثانوي ليس في السياسة الإسرائيلية فقط، بل في داخل حزب العمل نفسه. فقد تلت خسارته الانتخابات خسارته رئاسة حزب العمل لصالح إيهود باراك. لم يكن نتانياهو واضحا في رفضه اتفاق أوسلو، فهو كان يخضع لضغط أميركي انطلاقا من أن الولاياتالمتحدة هي التي رعت الاتفاق واعتمدته باعتباره مشروعها الخاص لحل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لذا فقد حاول أن يقتل الاتفاق بالسم البطيء عبر المماطلة والتسويف والتهرب والتأجيل، لكن النتيجة أتت مخيبة لنتانياهو الذي فشل في انتخابات 1999، فجاء أيهود باراك الذي خاضها على أساس برنامج سلامي في مقابل برنامج نتانياهو المعادي للسلام مع الفلسطينيين. وغادر نتانياهو بعد خسارته تلك إلى الولاياتالمتحدة خارجا من الحياة السياسية الإسرائيلية، فحين عاد ثانية في العام الماضي لم يحصل سوى على منصب وزير للمال في حكومة شارون الحالية. قبل أن يحل محل بيريز زعيماً لحزب العمل، ومحل نتانياهو رئيسا لوزراء إسرائيل، كان إيهود باراك قد أعلن موقفا معارضا لاتفاق أوسلو. فهو رأى أن الاتفاق قد تسبب بتصفية رابين جسديا وقتل بيريز سياسيا، فقرر هو قتل الاتفاق قبل أن يسقط ضحية له. وكان أسلوبه هو تجاهل الاتفاق القاتل واعتماد اتفاق آخر غير مكتوب هو ذاك الذي طرحه في كامب ديفيد عام 2000. وجاء رفض الفلسطينيين لاتفاق باراك "الشفوي" لينهي حياته السياسية بعد انتخابات العام 2001. فهل عرف التاريخ اتفاقا خلف وراءه هذا العدد من الضحايا؟ مع أرييل شارون أصبحت الأمور أوضح. فقد وصل السياسي المتطرف إلى الحكم في إسرائيل ونصب عينيه هدف محدد هو قتل الاتفاق. وكان شارون قد بدأ محاولته هذه وهو بعد في المعارضة، حين زار حرم المسجد الأقصى متسببا في إشعال انتفاضة جديدة حاول تحت غطاء دخانها قتل الاتفاق عبر قتل آلاف الفلسطينيين الذين لم يمحضوا اتفاقا للسلام مثل ذاك الذي محضوه لاتفاق أوسلو. وأخيرا، أفلح شارون في الذي وجه لاتفاق من الطعنات ما لم يوجه لأي اتفاق آخر. وحين أعلنت اللجنة الرباعية عن ميلاد خريطة الطريق فإنما كانت تعلن في الوقت نفسه موت اتفاق أوسلو. لكنه قبل أن يموت كان قد قتل سياسيين كثراً، وعلى خلفيته سقطت شخصيات لامعة على مسرح السياسة الإسرائيلية مثل شلومو بن عامي وزير الداخلية في حكومة باراك الذي استقال من قيادة الحزب وتفرغ للتأليف والتأمل، وعلى خلفيته أيضا أصيب يوسي بيلين الذي كان أحد أبرز العاملين على بلورته، بحالة من الإحباط نتيجة مراوحة حزب العمل بين السير في طريق تنفيذ الاتفاق والمماطلة والتسويف، فقرر الخروج من ذلك الحزب وتشكيل حزب اشتراكي ديموقراطي، قبل أن يلتحق بحزب ميرتس الذي رآه أكثر حرصا على تنفيذ الاتفاق من حزب العمل الذي وقعه. وعلى الجانب الفلسطيني حيّد اتفاق أوسلو قياديا مؤسسا في حركة فتح مثل فاروق قدومي، الذي رفض العودة من تونس إلى فلسطين التي أصبحت مسرح العمل السياسي الفلسطيني بعد توقيع الاتفاق، فهمّش دوره هو القائد التاريخي في العمل الفلسطيني ولم يعد له الكثير مما يقوم به، وذلك قبل مدة طويلة على إطاحة محمود عباس وسياسيين آخرين أقل شأنا. لكن قائمة ضحايا الاتفاق القاتل لم تنته بعد على ما يبدو. فها هو أحمد قريع الذي لعب الدور الرئيسي في التوصل إلى الاتفاق يصارع من أجل النجاة مما يبدو وكأنه لعنة اتفاق أوسلو التي أصابت كل من شارك في التوصل إليه. فهل يكون قريع الضحية الأخيرة لذاك الاتفاق القاتل؟