لم يكن التوصل الى اتفاق "واي ريفر" مفاجئاً على رغم كل ما سبقه من حديث عن هوة يتعذر ردمها. ولم تكن صعوبات الساعات الاخيرة غريبة عن منطق المفاوضات. الاسرائيليون اصحاب خبرة طويلة في ابتزاز من يجازف بالتفاوض معهم. والفلسطينيون تعلموا من الدروس المريرة للجولات السابقة. ومن اصول التفاوض ان تظهر اوراقاً وتحتفظ بأخرى للساعات الاخيرة. ومن شروط اللعبة ان يلوح هذا الطرف او ذاك بمغادرة القاعة او ان يأمر باعداد طائرة المغادرة. فشبح الانهيار ضروري لدعم جهود الوسيط. ووطأة عقارب الساعة تساعده على ان ينتزع في الدقائق الاخيرة ما تعذر الحصول عليه البارحة. والخوف من الانهيار يساعد المتفاوضين على تبرير مرونة مفرطة كانوا تعهدوا بعدم الوقوع فيها. والمفاوضات تدور داخل القاعة وخارجها. فالرئيس ياسر عرفات يفاوض نتانياهو وعينه على الشارع الفلسطيني و"حماس" والدول العربية التي تعارض سياسته وتدعم معارضيه. ونتانياهو يفاوض الرئيس الفلسطيني وعينه على مصير حكومته ومواقف المستوطنين والمتشددين. وبيل كلينتون يرعى المفاوضات وعينه على اجراءات العزل ومصيره في الرئاسة وحاجته مع حزبه الى نجاح خارجي يخطف ولو لبعض الوقت الاضواء من مسلسل الفضائح الذي يطوّق البيت الأبيض. كان من الطبيعي ان تنطلق السلطة الفلسطينية في تعاملها مع الموعد الجديد من شكوكها في رغبة نتانياهو في السلام. والتجارب دلت على تمسكه بتقاضي ثمن مرتفع لأي توقيع ثم اللجوء الى الالتفاف على ما وقع عليه مع تحويل عملية التنفيذ الى سلسلة لا تنتهي من المعارك تستلزم بدورها سلسلة جديدة من المفاوضات والتعهدات والتدخلات الاميركية. ولم يكن ثمة سر في ان عملية السلام فقدت جاذبيتها وان الرئيس الفلسطيني يحتاج الى مكاسب عملية في مواجهة خصومه في الشارع الفلسطيني. فهو يحتاج الى مزيد من الأرض شرط الا تؤدي عودة قسم جديد منها الى اقفال باب الأمل بعودة قسم آخر. والحقيقة ان عرفات كان مضطراً الى الدفاع عن خياره. الخيار الذي انتقاه يوم سلك طريق اوسلو ووقع على ما تمخضت عنه المفاوضات هناك. كان على عرفات ان يظهر ان النهج الذي اتبعه قادر على استرجاع مزيد من الأرض الفلسطينية وتوفير مزيد من المقومات للسلطة الفلسطينية، وكان عليه تحريك ورقة اعلان الدولة للضغط على "الشريك" الاسرائيلي والوسيط الاميركي. وفي المقابل لم يكن عرفات يملك بديلاً من هذا النهج فلا هو قادر على التراجع عنه ولا هو قادر على الوقوف في النقطة التي وصل اليها. ويعترف مهندسو اوسلو انهم لا يملكون بديلاً من خيار التفاوض مع اسرائيل والرهان على الدور الاميركي. في المقابل لم يكن في استطاعة نتانياهو ان يتشدد الى حد التسبب في انهيار عملية السلام برمتها. منذ توليه السلطة نجح في استنزاف الآمال التي اطلقها اتفاق اوسلو. ونجح في تأخير المواعيد وفي فرض تفسيرات مغايرة للنص وروحه. ونجاحه الأهم كان في تمكنه من الحفاظ على حكومته على رغم ما فيها من تباينات وحساسيات. لكنه بدا غير قادر على تخطي مرحلة استنزاف عملية السلام الى مرحلة قتل العملية واعلان وفاتها. فهو ايضاً لا يملك بديلاً من خيار التفاوض. والسيناريوهات المتشددة التي تقول بالعودة الى احتلال كامل الضفة لا تحظى بتأييد لدى المؤسسة العسكرية او الرأي العام. يضاف الى ذلك ان اتفاق اوسلو رتب التزامات دولية. ويبقى الأهم ان اسرائيل لا تستطيع ضرب النجاحات الاميركية في المنطقة واعادة اطلاق شرارات النزاع العربي - الاسرائيلي خصوصاً ان مجرد استنزاف اتفاق اوسلو انذر باعادة اسرائيل الى العزلة التي كانت تعيشها قبل توقيعه. توقيع الاتفاق الجديد انقذ عملية السلام، على الأقل حالياً، من خطر الانهيار لكنه لم ينقذ صورة السلام نفسها. ومن الصعب على اي عربي الوقوع في التفاؤل حين يكتب على الفلسطينيين التفاوض مع حكومة برئاسة نتانياهو ويشغل ارييل شارون مقعد وزير الخارجية فيها. صحيح ان السلام يبرم اصلا مع الاعداء، لكن الصحيح أيضاً هو انه يبرم مع اعداء قرروا طي الصفحة واختاروا اللقاء في منتصف الطريق او نقطة قريبة منه. وواضح ان هذا الامر غير متيسر في المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية. يمكن تسجيل انتقادات كثيرة للاتفاق الاخير وقبول الجانب الفلسطيني بما تضمنه من قيود وتعهدات امنية. لكن الذي جرى هو استمرار لمنطق اوسلو بعد اضطراره الى التكيف مع حرب نتانياهو على الاتفاق. وهو من جهة اخرى استمرار لمنطق اليأس من الوضع العربي الذي يكاد التشرذم يتحول جزءاً من ثوابته. غير ان الاهم هو ان لا ينعش الاتفاق اوهام السلام مع اسرائيل ويتسبب في الوقت نفسه في اطلاق حرب داخل الشارع الفلسطيني. فاسالة الدم الفلسطيني ستكون كارثة لأنها ستؤدي الى مزيد من ضعف السلطة الفلسطينية والى تمزق داخل الشعب الذي خيبته مفاوضات السلام لكنه لا يرى ان خصومها يمتلكون بديلاً واقعياً قابلاً للتطبيق. انه المأزق. استعادة بعض الأرض توجب دفع ثمن مرتفع والعودة الى منطق اليأس الكامل باهظة التكاليف