بعيداً عن البروتوكول تستحق زيارة الرئيس حافظ الأسد الى باريس يومي 16 و17 الشهر الجاري وصف "زيارة دولة"، ذلك ان دمشق تعوّل كثيراً على دور فرنسا جاك شيراك في عملية السلام وعلاقات سورية مع العالم الخارجي. كما ان "الديغولية" تطمح الى تكريس العودة فعلياً الى الساحة الدولية عبر بوابة الشرق الأوسط التي فتحت لها في بداية العام 1996 عندما شاركت فرنسا، بدعم سوري، في مجموعة مراقبة "تفاهم نيسان" التي تشكلت بعد مفاوضات ماراثونية اجراها وزراء خارجية فرنسا والولايات المتحدة وإيران وروسيا والاتحاد الأوروبي اثر عملية "عناقيد الغضب" الاسرائيلية في جنوبلبنان. وبعد محادثاته مع الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان في خريف العام 1976، اختار الاسد ردّ الزيارة الى باريس بعد 22 سنة حصل فيها الكثير من التطورات الايجابية والسلبية على خط باريس - دمشق، كانت اسوأ مراحلها فترة القطيعة الديبلوماسية بين منتصف الثمانينات وبداية التسعينات على خلفية "الحصار الأوروبي الاقتصادي والسياسي" لسورية بسبب اتهامات بدعم "الارهاب" وصولاً الى استئناف العلاقات السياسية والديبلوماسية الرفيعة المستوى بعد موافقة سورية على الانضواء تحت لواء "التحالف الدولي" المناهض لدخول القوات العراقية الى الكويت، وانتهاء بانطلاق عملية السلام وافتتاح مؤتمر مدريد للسلام بمشاركة سورية لايجاد تسوية للصراع العربي - الاسرائيلي. دخول العولمة لكن البعد الأعمق في العلاقات السورية - الفرنسية، هو موافقة دمشق بعد محادثات اجراها وزير الخارجية الفرنسي السابق آلان جوبيه في بداية العام 1995 على المشاركة في مؤتمر برشلونة للشراكة المتوسطية للدول العربية والأوروبية على ضفتي البحر المتوسط في تشرين الثاني نوفمبر من العام نفسه. اذ ان الموافقة السورية جاءت على خلفية الربط بين مساري عملية السلام والشراكة المتوسطية لأن دمشق لم تكن متحمسة لمشروع شمعون بيريز في "شرق أوسط جديد" بسبب خشيتها الهيمنة الاسرائيلية، فرأت في "الشراكة المتوسطية" نقطة التقاء بين ابعاد الهيمنة الاسرائيلية والرغبة في تطوير العلاقات الاقليمية والدخول الى "العولمة الاقتصادية" وتحرير التجارة الخارجية بمساعدات أوروبية. مالطا وباليرمو إلا أن جمود عملية السلام منذ وصول بنيامين نتانياهو الى الحكم في اسرائيل في منتصف العام 1996، لم يوقف المشاركة السورية في عملية برشلونة على رغم انه غير اسبابها، اذ ان السوريين وجدوا في ذلك فرصة لتطوير الاقتصاد السوري والحوار مع اوروبا مع تعزيز الدور الأوروبي في عملية السلام، في ضوء تراجع الدور الاميركي وعجزه امام تعنت حكومة نتانياهو، على أمل ان يكون ذلك قناة للضغط على الاسرائيليين المعيقين للمصالح الأوروبية بعرقلة جهود ايجاد تسوية في الشرق الأوسط. فحضر كبار المسؤولين السوريين في مؤتمري الشراكة الاخيرين في مالطا 1997 وباليرمو التمهيدي العام 1998 وسيشاركون في مؤتمر شتوتغارت العام المقبل. وفي موازاة التطور الأوروبي - السوري، كان هناك تقدم في العلاقات الثنائية بين باريسودمشق انطلاقاً من ان سورية فضلت في بداية العام 1996 ممثلاً لفرنسا وليس لأوروبا في مجموعة المراقبة. وقبل ان ينتهي العام نفسه قام الرئيس شيراك بزيارة وصفت يومها بأنها "تاريخية" الى سورية ازالت الكثير من الجمود والاحتقان بين الطرفين ابتداء من رؤية كل منهما لعلاقة الآخر مع لبنان، مروراً بپ"الكره التاريخي" الموجود لدى السوريين ضد الفرنسيين باعتبارهم "محتلين" لسورية لأكثر من ربع قرن وسعيهم لپ"الاستعمار الثقافي"، وانتهاء بمشكلة الديون الفرنسية المستحقة على سورية البالغة نحو 1.8 بليون فرنك فرنسي. خصوصية لبنان وكان ضرورياً ان تؤدي محادثات شيراك - الأسد الى حل كل عقدة من هذه العقد، فأقر كل طرف بپ"تميز وخصوصية" علاقته مع لبنان وبأن هذه العلاقة يمكن ان تستغل للتقارب والتوافق وليس للتنافر. واتفق الجانبان على توسيع المدرسة الفرنسية في سورية وضرورة "الحوار الحضاري والثقافي" بين البلدين. ولتدشين انطلاق العلاقات الاقتصادية اوعز شيراك بحل مشكلة الديون وحسم 50 في المئة منها، فيما حصلت فرنسا على عقود تجارية بقيمة تتجاوز 300 مليون دولار اميركي لتصدير طائرات مدنية وقاطرات، ما شجع الرئيس الفرنسي الى دعوة سورية الى "اقامة حلف متين وصداقة لا ينالها الزمن لأن ذلك يخدم مصلحة البلدين والشرق الأوسط وأوروبا". القراءة السورية على هذه الخلفية يمكن وضع محادثات الأسد - شيراك. وإذا كانت سورية احدى الدول التي قرأت المتغيرات الدولية بعد انهيار الكتلة الشرقية - الحليف الاستراتيجي في نهاية الثمانينات، فتعاملت بواقعية مع الحديث عن "النظام العالمي الجديد" في بداية التسعينات الذي اخذ اشكاله شرق اوسطياً في "التحالف الدولي" في الخليج وعملية السلام في الشرق الأوسط، فان المسؤولين السوريين ينطلقون في قراءتهم لپ"زيارة الدولة" من المتغيرات التي حصلت وهي الآتية: اولاً، تراجع الدور الاميركي في عملية السلام واقتصاره على الكلام عن استخدام الضغط على نتانياهو لالتزام الاتفاقات الموقعة والتفاهمات التي توصل اليها الجانبان السوري والاسرائيلي، وانحياز واشنطن لاسرائيل. ثانياً، تطور العلاقة بين الدول الأوروبية وإيجاد نقاط مشتركة واتجاه فعلي لتعزيز الاتحاد الاوروبي، والاهم اقتراب الموقف الأوروبي من الموقف العربي في القضايا المطروحة والمعلنة في بيانات القمم الأوروبية. ثالثاً، الهم السوري في البحث عن شريك دولي يحقق بعض التوازن امام الانحياز الاميركي لاسرائيل، ويساعد سورية اقتصادياً وسياسياً للتعامل مع المتغيرات الدولية واتجاه العالم الى "قرية صغيرة" من دون حواجز جمركية. الجولان ويمكن ربط زيارة الأسد لباريس بزيارته لموسكو في الخريف المقبل في اول زيارة لموسكو الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. اي ان حاصل جمع علاقة سورية مع روسيا عسكرياً وسياسياً وفرنسا اقتصادياً وسياسياً يساهم في تعويض "الخسارة" السورية من انهيار الحليف الاستراتيجي في نهاية الثمانينات. وتجمع مصادر سورية وفرنسية على ان محادثات الرئيسين ستتناول عملية السلام والعلاقات الثنائية اذ ان الحديث سيتناول "كيفية الخروج من ازمة السلام والزام نتانياهو العملية السلمية وما تحقق". وأشارت المصادر الى الاشارات المهمة التي ارسلها شيراك عشية وصول الأسد اذ اعلن ان "السيادة السورية على الجولان غير قابلة للنقاش" ما يعني دعم المطالبة السورية باستعادة الجولان الى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967 والتزام حكومة نتانياهو بما التزمته حكومتا حزب العمل السابقتان "الانسحاب الكامل" والاتفاق الذي توصل اليه الطرفان حول "اطر ومبادئ ترتيبات الأمن" الواجب اقامتها بعد الانسحاب الاسرائيلي على اسس التساوي والتكافؤ والتوازي. القراء 425 وتابعت المصادر الفرنسية ان المحادثات ستتناول ايضاً الاقتراح الاسرائيلي الانسحاب من جنوبلبنان وتنفيذ القرار 425 و"استكمال" المحادثات التي كان اجراها نائب الرئيس السيد عبدالحليم خدام ووزير الخارجية فاروق الشرع في زيارتيهما الاخيرتين بعد زيارتي وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي. وقالت مصادر ديبلوماسية ان باريس تبحث عن "ايجاد وسيلة بين الرغبة الاسرائيلية في تنفيذ القرار ومطالبة دمشق استئناف المفاوضات على المسار السوري من النقطة التي توقفت عندها" في بداية العام 1996، وزادت ان باريس ترى في ذلك "محاولة لجعل الطرفين مشغولين في عملية السلام وجعلها الخيار المطروح على الطاولة وليس اي خيارات اخرى" مثل الحرب. نداء السلام ومن المتوقع ان تتناول المحادثات ايضاً الاقتراح الفرنسي - المصري لعقد مؤتمر ثان للسلام في ضوء "نداء السلام" الذي اعلنه شيراك والرئيس حسني مبارك في ايار مايو الماضي. وأشارت المصادر الى معارضة سورية مؤتمراً كهذا لأنها تعتقد بأنه "يستهدف انقاذ اوسلو وليس السلام ويخفف الضغط على نتانياهو وانه يهدد مرجعية مدريد والأسس التي قامت عليها المفاوضات منذ العام 1991 كما انه يضع الالتزامات التي تحققت على المسار السوري على الرف وفي وضع النسيان". وزادت المصادر ان باريس ترى في المقابل ان المؤتمر "فكرة تحتاج الى مناقشة وتؤكد الرغبة في فعل شيء وطرحه كخيار من الخيارات، وهو لا يهدد مرجعية مدريد". وكان السفير الفرنسي السابق في دمشق جان كلود كوسروان زار بصفته رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال افريقيا دمشق واطلع الأسد على مضمون "نداء السلام"، علماً ان دمشق انزعجت من المبادرة، خصوصاً انها لم تطلع عليها قبل اعلانها. نقلة نوعية اما بالنسبة الى العلاقات الثنائية، فقال مسؤول سوري ان المحادثات تستهدف خلق "شراكة حقيقية" بين باريسودمشق. وأمل الشرع في ان تؤدي الى احداث "نقلة نوعية تستجيب لمصالح" الطرفين. وقالت مصادر الجانبين ان اتفاقات اقتصادية ستوقع في هذا الاطار على اساس البناء على اتفاق التعاون الاقتصادي الموقع في العام 1974 واحياء معاهدة تشجيع الاستثمار الموقعة العام 1977، والافادة من البروتوكول المالي بقيمة 150 مليون فرنك فرنسي الذي حصلت عليه دمشق في العام الماضي لتمويل مشاريع استثمارية في مجالات الري والصرف الصحي. سوق تقليدية وقال خبراء اقتصاديون انه سيجري الاتفاق على "تشجيع الشركات الفرنسية على العودة الى سوقها التقليدية في الشرق الأوسط بتقديم المساعدات لها لدرس السوق وضمانة صادراتها عن طريق مؤسسة ضمان الصادرات "كوفاس"، ومشاركة المصنعين الفرنسيين في المعارض التي تقام في سورية لعرض منتجاتهم وتقديم الدعم المالي عن طريق البروتوكولات لتمكين الشركات الفرنسية من استعادة مكانتها في السوق السورية والمساهمة في عملية التنمية". وأشاروا الى ان المؤسسات الرسمية السورية ستستعين بالخبراء الفرنسيين في مجال النظام الجمركي والرسوم على القيمة المضافة واعتماد الفواتير الحقيقية في الرقابة على الدخل واعداد الموازنة العامة للدولة