لم تعرف فرنسا خلال تاريخها الحديث فرحاً جماعياً كالفرح الذي انتشر في عاصمتها ومدنها يومي الاحتفال بفوزها في المونديال وعيد الثورة. ويعترف المعلقون بأن شوارع باريس لم تشهد طوال هذا القرن حالاً من الابتهاج الشعبي كالحال التي شهدتها بعد فوز الفريق الفرنسي بكأس العالم لكرة القدم. ويصف السياسيون المخضرمون هستيريا النصر التي توزعت بصورة عفوية بين المسؤولين والمواطنين، بأنها نسخة مكررة عن "يوفوريا" التحرير يوم استقبل آلاف المهنئين شارل ديغول 25 آب/ اغسطس 1944 وساروا وراء موكبه من "قوس النصر" حتى كاتدرائية نوتردام. وسط هذه الأجواء وصل الرئيس السوري حافظ الأسد الى باريس تسبقه سلسلة أحداث اقليمية ودولية هيمنت وقائعها على المحادثات التي أجراها مع جاك شيراك وليونيل جوسبان. وتصدر قرار إعادة فتح خط أنبوب النفط العراقي الى بانياس المواضيع التي بُحثت في قصر الاليزيه، باعتباره المؤشر الأكثر دلالة على تعطيل فعالية سياسة الاحتواء المزدوج، خصوصاً ان هناك قرارات ديبلوماسية ستتبع القرار الاقتصادي يمكن أن تحرر العراق من العزلة التي فرضتها عليه الإرادة الدولية. وقرأ الفرنسيون في الموقف السوري الأخير نهاية التحالف الذي أقيم عام 1991 لمواجهة خطر العراق. كما قرأوا فيه أقوى مظاهر الانسجام مع سياسة فرنسا التي اعترضت على التهديد الأميركي الأخير بضرب العراق... وتخطت الحظر الأميركي ضد ايران عندما سمحت بإبرام عقد بين شركة توتال وطهران. وقبل أن يتوجه الرئيس الأسد الى فرنسا، كانت دمشق تستضيف أكثر من خمسمئة نائب يمثلون 19 بلداً أوروبياً في اجتماعات الحوار البرلماني العربي - الأوروبي. وشدد الأمين العام ل "الجمعية البرلمانية للتعاون العربي - الأوروبي" جان ميشيل ديمون على ضرورة دعم الخطة القاضية بوقف انتهاكات اسرائيل لقواعد شهادات المنشأ، أو استثناء مستوطناتها من الامتيازات الجمركية لدى دخولها السوق الأوروبية. كما طالب باستبعاد اسرائيل من الشراكة الأوروبية - المتوسطية لأنها ترفض التقيد بمبادئ السلام والقانون الدولي الواردة في وثيقة برشلونة. ويرى المراقبون في نتائج اجتماعات الحوار البرلماني العربي - الأوروبي توطئة لاقامة "شراكة استراتيجية" تأخذ في الاعتبار محاولة ملء الفراغ الذي أحدثه غياب الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً لدى الدول العربية التي ارتبطت مع موسكو باتفاقات صداقة. وتحاشى المسؤولون السوريون وصف العلاقة الجديدة مع أوروبا بأنها من نوع التحالف الاستراتيجي الذي يميز علاقة أميركا باسرائيل أو علاقة تركيا باسرائيل، واستعاضوا عن ذلك باطلاق عبارة "الشراكة الاستراتيجية" لتجنب إحراج فرنسا مع حليفتها الأطلسية الكبرى الولاياتالمتحدة. ومثل هذه الشراكة تقتضي تطابق المواقف في المسائل الأساسية التي عبّرت عنها فرنسا بطريقة مرضية ميزتها عن الولاياتالمتحدة وعن سائر شقيقاتها في الاتحاد الأوروبي. وقد دشن الرئيس جاك شيراك هذه الشراكة بسلسلة اجراءات سياسية واقتصادية انتهت بوجود ممثل فرنسي في مجموعة مراقبة "تفاهم نيسان في جنوبلبنان"... وحسم أكثر من خمسين في المئة من اجمالي القروض الفرنسية لسورية البالغة 1.85 بليون فرنك فرنسي. ويجمع الزعماء العرب على ضرورة مكافأة الموقف الفرنسي المؤيد لحقوق العرب والمختلف عن الموقف الأميركي المزدوج... تماماً كما كافأ الملك فيصل الرئيس شارل ديغول بعد اعلان قراره حظر بيع الأسلحة الفرنسية لاسرائيل. ويعترف الاقتصاديون أن الدول العربية اشترت ما نسبته ثمانين في المئة من انتاج السلاح الفرنسي خلال السنوات الخمس التي أعقبت صدور قرار ديغول. وعندما تحدى جاك شيراك العسكريين الاسرائيليين أثناء زيارته للقدس الشرقية عام 1996، كان ذلك بمثابة الحافز السياسي الذي غذى مشاعر التعاطف المباشر مع فرنسا. وهذا ما عبّر عنه الرئيس الأسد خلال مقابلته التلفزيونية ووصفه للرئيس شيراك بأنه انسان ميّال بقوة لجهة الحق. وامتدح الأسد هذه الصفة النادرة في الزعماء الغربيين، وقال: "إذا انتفى الحق والعدل ستكون أمامنا مساحات واسعة لحروب قادمة". وكان بهذا التلميح يثني على جرأة شيراك مقابل تخاذل كلينتون الذي انسحب تدريجياً من دور الوسيط. ورد الرئيس الفرنسي على تحية ضيفه باستخدام النصف الثاني من المقولة الشهيرة: "لا حرب بدون مصر... ولا سلام بدون سورية". وظهرت هذه العبارة كتدليل على هشاشة سلام الخطوة خطوة، وكتشجيع على استئناف المفاوضات مع سورية إذا كانت أميركا تعتبر سلام الشرق الأوسط هدفاً أساسياً لاستقرار المنطقة. ولكن خيار السلام الشامل مع سورية لم يلغ الاندفاع الفرنسي باتجاه اتخاذ موقف مشترك للاتحاد الأوروبي في شأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ويبدو أن فرنسا قررت، الى جانب روسيا والصين، الاعتراف بدولة فلسطينية لدى اعلانها عام 1999، على رغم تهديد نتانياهو بإيقاف المفاوضات إذا تجرأ ياسر عرفات على اتخاذ مثل هذه الخطوة. ويُستدل من التقويم الذي أجراه الرئيسان شيراك والأسد أن دعوة أولبرايت لاجراء مفاوضات اسرائيلية - فلسطينية مباشرة من دون الاحتكام الى الوسيط الأميركي، ليست أكثر من اعتراف بعجز إدارة كلينتون عن التدخل لمصلحة مرجعية مدريد. وتطابقت وجهتا نظر الجانبين في تصورهما لدور نتانياهو، وكيفية اغتياله عملية السلام، الأمر الذي لمسته كل الدول المعنية بمن فيها الولاياتالمتحدة، ومصر، والأردن والسلطة الفلسطينية. يقول المراقبون ان زيارة الأسد لفرنسا ترتدي طابعاً مختلفاً عن الطابع الذي ارتدته زيارته السابقة عام 1976 أثناء ولاية فاليري جيسكار ديستان. وربما حدث التغيير بفعل التطورات التي ألغت الاتحاد السوفياتي، الحليف الاستراتيجي السابق للنظام السوري... كما أوقفت الحرب اللبنانية وجعلت من دمشق الوسيط الوصي المؤثر على مختلف القرارات السياسية ل "دولة الطائف". في وسط هذا المناخ الدولي الجديد يحاول الرئيس الأسد بناء شراكة أوروبية تعوض عن غياب الشريك القديم الذي هدد ثلاث مرات بالحرب دفاعاً عن سورية، وكانت المرة الأخيرة عام 1982. ومع ان الأسد مقتنع بضعف الدور الروسي، إلا أنه حريص على إبقاء التواصل في العلاقات السابقة، خصوصاً وان التدخل الاسرائيلي - الأميركي لم يمنع الرئيس بوريس يلتسن من تزويد الترسانة السورية بالمعدات العسكرية الضرورية. وكانت موسكو كشفت معلومات عن تزويد سورية صواريخ "اس - 300" المضادة للصواريخ، اضافة الى منظومات "كرايزانتيم" المضادة للدبابات والموجهة بواسطة الرادار. وذكر أيضاً ان شحنات واسعة من الأسلحة الحديثة ستصل الى سورية قريباً، وان دمشق وقعت مع مكتب التصميم العسكري عقوداً لتزويدها ألف وحدة مضادة للدبابات من طراز "كورنيت". ويستدل من عملية توزيع الشراكة بين موسكووباريس، ان سورية حريصة على تدعيم موقفها السياسي بواسطة فرنسا... وتمتين موقفها العسكري بواسطة روسيا. وللابقاء على هذه المعادلة سيقوم الأسد بزيارة روسيا الخريف المقبل. وهذه أول زيارة رسمية لموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وهو في هذا التوجه يراهن على فشل عملية السلام في ظل العجز الأميركي والتعنت الاسرائيلي. وفي تقديره أن القرن المقبل المطل بعد أقل من سنتين، سيشهد ولادة كتلة أوروبية يمكن ان تشكل القوة الموازية للولايات المتحدة. ومع انها ليست منسجمة كلياً مع الموقف الفرنسي المتفهم، إلا أن الدولة الأكثر التصاقاً بالولاياتالمتحدة، بدأت تتلمس موقعها في المنظومة الأوروبية الجديدة. ولم يكن من قبيل الصدفة ان ترسل بريطانيا بارجتين حربيتين الى الموانئ السورية أثناء زيارة الأسد لباريس هذا الاسبوع. حدث خلال مرحلة الحرب الباردة بين القوتين العظميين، ان ابتكر الجنرال ديغول طريقاً ثالثة حدد مواصفاتها بالعبارة التالية: "لأن فرنسا لم تعد قوة عظمى... يجب أن تكون لديها سياسة عظمى". ولقد وظف وريث الديغولية جاك شيراك هذه النظرية للعب دور مستقل عن نفوذ الولاياتالمتحدة يسمح لفرنسا بمشاركة القوى الاقليمية من موقع المؤيد لمرجعية مدريد التي صاغتها أميركا. وأصر الرئيس الأسد في محادثاته مع شيراك وجوسبان على تجاوز عقد مؤتمر ثان للسلام يخشى ان يستغله نتانياهو لتعطيل المقررات التي تجرى المفاوضات على أساسها. لذلك اقترح على فرنسا فكرة عقد قمة دولية ترعى تنفيذ قرارات مجلس الأمن وقرارات الشرعية الدولية المنبثقة عن مؤتمر مدريد، وتكون هي صاحبة الوساطة المؤثرة على مختلف المسارات. والسبب ان حكومة نتانياهو تعمل جاهدة من أجل إعادة النظر بالمبادئ التي انطلقت منها المفاوضات حسب القرارين 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام. ويتوقع الرئيس كلينتون ان تقود زيارة الأسد لباريس الى بلورة صيغة جديدة للتفاوض تكون مشابهة للصيغة الأوروبية التي أنقذت مفاوضات الخليل، علماً بأن الهوة التي تفصل بين الموقفين السوري والاسرائيلي يصعب ردمها من دون تدخل الولاياتالمتحدة... أو من دون وقوع صدامات تستدعي تدخلها. من هنا يتخوف المراقبون من تطور النزاع على جبهة الجنوباللبناني، الأمر الذي يستدعي تحريك القرار 425 الذي تعتبره اولبرايت المدخل الأساسي لإعادة التفاوض على المسار السوري. والمعروف ان مجزرة قانا نيسان/ ابريل 1996 هي التي دفعت سورية لقبول المشاركة الفرنسية في مجموعة مراقبة اتفاق تفاهم نيسان، التي شكلت بعد عملية "عناقيد الغضب" في جنوبلبنان. يجمع المعلقون الفرنسيون على القول بأن تحذير حافظ الأسد من مخاطر الحروب في الشرق الأوسط، له ما يبرره إذا انهارت عملية السلام. وهم يستندون في توقعاتهم الى احتمال فشل فرنسا في استنباط مخرج لائق للأزمة الحالية... وعلى تقرير الميزان السنوي العسكري الذي يتنبأ بانتفاضة فلسطينية مسلحة، وبزيادة فرص الحرب مع سورية. والسبب في ذلك ان استمرار الجمود السياسي سيؤثر جوهرياً على عملية السلام، ويرفع من درجة المخاطر في المنطقة، خصوصاً ان مصر اتخذت قراراً استراتيجياً عملياً يقضي بالتدخل في حال نشبت الحرب بين سورية واسرائيل. ولتحاشي مثل هذه الاحتمالات ستنشط فرنسا مع الدول الأوروبية من أجل انقاذ عملية السلام في ظل انحسار الوساطة الأميركية الضعيفة. وكل ما تخشاه باريس هو أن تعطي إدارة كلينتون الضوء الأخضر للسماح بافتعال عمل عسكري اسرائيلي يؤمن عودتها الى ساحة التدخل بطريقة تستدعي ابتعاد العرب عن أوروبا. * كاتب وصحافي لبناني.