سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كوميديا سوداء محركها المانشيت السياسي واطارها النظام العالمي الجديد . عائداً إلى المسرح بعد غياب ليستأنف تغريده "خارج السرب" محمد الماغوط : إذا كان من أمل لهذه الأمة فهو في الهامشيين
حين يستعدّ "مخرج الجوائز" لتقديم "روميو وجولييت" في "مسرح النخبة"، ويدخل على الخط زائر غامض ليقلب الأدوار ويحوّر الوقائع ويغيّر مجرى الأحداث ويعيد خلط الأوراق ويقحم الشخصيّات في "عمليّة سلام" ملفّقة... كيف يمكن أن تكون النهاية؟ بفشل العرض طبعاً، وبالاعلان عن هدم المسرح ل "بناء مسرح بديل أكثر معاصرة". أما "قاطع التذاكر" الذي كان من المقرّر أن يؤدّي دور البطولة، فيكون كبش المحرقة. هذا هو سيناريو مسرحيّة محمد الماغوط الجديدة التي تجمع بين البولفار السياسي ومسرح اللامعقول، والتي تقدّم في دمشق هذه الأيّام باخراج جهاد سعد. "الوسط" إلتقت الكاتب السوري الكبير الذي يعتبر أنّه "مجرّد هاو ... يقول في المسرح ما لا تتسع له القصيدة". بعد استعدادات قاربت العامين، قدمت فرقة محمد الماغوط المسرحية، باكورة أعمالها "خارج السرب" التي قام باخراجها جهاد سعد. وقد عاشت الفرقة تجربة قاسية خلال مرحلة الاعداد الطويلة تلك، اذ اعتذر ممثلون ويئس فنيون، وراهن الكثيرون على فشل التجربة وتبددها كما حدث لتجارب كثيرة قبلها. وتساءل البعض مشككاً بعلاقة جهاد سعد، أحد دعاة مسرح الفنّ والتجربة، بنص الماغوط العالي النبرة والمشحون بالهجاء السياسي. لكن ها هي الستارة ترتفع أخيراً على عمل يتمتّع بدرجة عالية من النضج الفنّي. وعلى الرغم من أن الماغوط لم يتنازل عن جملة واحدة من نصه، فقد نجح جهاد سعد في تقديم عرض متكامل لم يخن فيه طموحاته المشهدية. كثيرة هي الأفكار التي أراد صاحب "المهرّج" قولها في نصه، لكن الفكرة المحورية التي بنى عليها مسرحيته، هي إعادة صياغة حياتنا العربية وفق مقتضيات النظام العالمي الجديد، مستنداً إلى قدرته المعروفة على توليد المانشيتات التي تختزل واقع الحال. تبدأ الحكاية في "مسرح النخبة". ذلك المسرح الذي بُني خارج المدينة، بعيداً عن الناس وضوضائهم، يستعد لافتتاح برنامجه بمسرحية "روميو وجولييت" الشهيرة. مخرج العرض المدعو "مخرج الجوائز"، لا يكف عن الاستعراض والتبجّح، وعقد الاجتماعات مع الممثلين. أما ممول المشروع، فلا علاقة له بشيء غير النقود، يطل بين الفينة والأخرى محذراً من "الحكي بالسياسة". ثمة قاطع تذاكر يقوم بكل الأعمال المطلوبة في المسرح، ولا يخفي طموحاته بالتمثيل، ثم نكتشف شيئاً فشيئاً أنه البطل الحقيقي للمسرحية. بعد أخذ ورد، وانتظار للجمهور، تبدأ الفرقة عرضها. وإذا برجل غامض يظهر من الكواليس حاملاً بيده ورقة وقلم، يسجل مشاهداته. وعندما يعترض عليه المخرج والممثلين، يبتسم لهم ببرود وثقة طالباً منهم أن يتابعوا عملهم، لأنه لن يشغلهم، ثم يقدم نفسه لهم كعضو في "لجنة رعاية وتطوير المسرح العربي"، مؤكداً أنّه مكلّف بمهمة رسمية من الجامعة العربية. يجلس الرجل الغامض وسط الخشبة، ويطلب من الممثلين متابعة عملهم كي يستطيع صياغة تقرير عن المسرحية، يسجل الحوار بحذافيره متوقفاً عند مفردات بعينها على طريقة كتبة محاضر التحقيق. ويتدخل الزائر الغريب في تفاصيل المسرحية، إذ يطلب مثلاً من المخرج أن يعقد مصالحة تاريخية بين آل روميو وآل جولييت، تنتهي بعقد قرانهما بدل موتهما، لأن "الناس تحب الفرفشة"! يوافق المخرج على هذا الحل بعد حوار بيزنطي، فيما ينسحب الممثلون احتجاجاً على التغييرات. لكن الرجل لديه الحل السحري، الذي ينقذ الموقف، فأعضاء اللجنة "الموقرة" لديهم مواهب تمثيلية دفينة. هكذا يصعد رجال بلباس أسود، ونظارات سوداء، يحملون جميعاً لقب "أبو فلان"، ويعتمدون النهاية التي ُتملى عليهم بعد أن يقوم الرجل بتلقينهم الحوار. بعد مشهد المصالحة، ينسحب الممثل والممثلة المولجان بدوري البطولة، ما ينذر بوقف المسرحية - المهزلة. إلا أن الرجل يخرج هنا أيضاً من معطفه الحلّ السحري: ستمثّل رئيسة اللجنة دور جولييت، فيما يؤدّي قاطع التذاكر الذي أتت فرصته أخيراً، دور روميو. لكنّ روميو الجديد لا يتقبّل جولييت المفروضة عليه، فتفشل المسرحية في اللحظات الأخيرة. ويعلن الرجل الغامض هدم "مسرح النخبة"، وبناء مسرح بديل أكثر معاصرة، يتلاءم مع المتغيرات. واحتفاء بهذه المناسبة تقام حفلة كبرى يحضرها الجميع باستثناء قاطع التذاكر، لنكتشف أن الجميع تآمر عليه للتخلص منه كونه غرّد خارج السرب معترضاً على هدم المسرح. يعتمد الماغوط في نصّه لغة الترميز والاحالة. بلغة مواربة وساخرة، يخوض في معمعة الراهن العربي، راسماً مقاربات مجازيّة للصراع الدائر في الشرق الأوسط... ويترك للمشاهد أن يلتقط الاشارات ويفهم التلميحات ويفكّ الرموز، ويقيم المعادلات بين الابداع والواقع. هكذا نستطيع أن نرى في "مسرح النخبة" الحلم العربي الجميل المنعزل والبعيد عن التحقق، وفي "مخرج الجوائز" النخب السياسية التي تتشدق بهذا الحلم، وفي قصة روميو وجولييت وصراع ذويهما مقولة مبسطة للصراع العربي - الصهيوني... أما أعضاء لجنة تطوير المسرح، فيمثلون العقلية التسوويّة الجديدة التي أفرزها النظام العالمي الجديد. في حين يرمز قاطع التذاكر وعامل المسرح، إلى المواطن العربي الهامشي، المسحوق، الذي يقف وحده في النهاية رافضاً التغيير المتسرّع وغير المنصف، ومدافعاً عن العدالة والقيم الصحيحة... فإذا به يدفع الثمن، ويكون الضحيّة المثلى وكبش الفداء. يكثر الماغوط من استخدام المانشيت السياسي في الحوارات، مستدرجاً المشاهد الذي سرعان ما يقع في فخّ اللعبة. يركض هذا الأخير لاهثاً خلف المانشيت الذي يستقطب جل اهتمامه، فتفلت منه عناصر الفرجة. وليلة الافتتاح، بدا واضحاً الخلل في التوازن بين الرؤيا الاخراجيّة والنصّ المباشر، ما انعكس ارتباكاً على العرض. لكنّ الممثلين استدركوا لاحقاً هذا الخلل وتجاوزوه، ليصبح اداؤهم أكثر عفوية وصدقاً. إمعاناً في السخرية وعلى رغم العوائق الكثيرة التي قيّدت جهاد سعد منذ البداية، لجهة العظة التي تثقل النصّ، وحضور الماغوط الطاغي بكلّ المعاني، يمكننا القول إن المخرج السوري نجح في خلق معادل بصري متكامل العناصر، في موازاة النص الرازح تحت عبء بالكلام. وقد أتت الاضاءة لتخفف من وطأة الجو الكابوسي الذي يلف العمل، كما عبرت بساطة الديكور عن عمق دلالي مستمد من مسرح العبث. أما الأزياء فعكست، بشكل خفي، بعض مقولات سعد الاخراجية، واجتهاداته الجماليّة. نشير مثلاً إلى العلاقة بين قاطع التذاكر وزيّ المهرج، وإلى العلاقة بين لجنة تطوير المسرح العربي وأزياء "رجال الخفية". لم يكتب الماغوط مسرحيّته وفق نموذج "المسرح داخل المسرح" البيرندلّي، معتمداً لعبة المستويات والأبعاد النفسية للشخصيات، وتقاطع الدراما والواقع، الفنّ والحياة... بل كتبها إمعاناً في السخرية من الواقع العربي الذي يصل في قتامته وعبثه إلى مرتبة الكوميديا السوداء. ولا ينبغي أن ننسى أن نصّ "خارج السرب" يسجّل عودة هذا الشاعر والكاتب المسرحي المميّز إلى دائرة الضوء بعد طول غياب. وقد لا يكون من أعمق نصوصه المسرحية وأكثرها نضجاً على المستوى الدرامي، لكنه يبقى نصاً ماغوطياً بامتياز. وإن اقترب في بعض مواضعه من البولفار أحياناً، فهو يجانب مسرح اللامعقول أحياناً أخرى. أليست سخرية الماغوط من صلب العبث واللامعقول؟ وهذا الحدث الثقافي الاستثنائي الذي تحتضنه دمشق، قبل محطات عربيّة أخرى، جعلنا نقصد صاحب "العصفور الأحدب" للاطلاع على ردود فعله، والخوض في قضايا تتعلّق بالمسرح، بعد أن آثر أن يترك الشعر لمناسبة أخرى، ولحديث آخر. هل أنت سعيد بنجاح هذا العمل؟ - السعادة شيء عابر، تشبه لحظة فتح قفص العصفور كي تطعمه أو تنظفه. تشبّه نفسك دائماً بعصفور في قفص؟ - سخرية واقع حالنا تجعلني أقول لك الآن إن الحياة داخل القفص مضمونة أكثر منها خارج القفص. فالحراب والسيوف حوله من كل جانب. الحرية مستحيلة في العالم العربي؟ - هاجس الحرية يلاحقني، وهو قديم جداً. لن ننتصر على أعدائنا وأعداء حريتنا وتاريخنا ومستقبلنا بالسلاح الأبيض أو الأحمر، بل بالسلاح الأزرق، أي الكلمة. ما زلت تعتقد بأن للكلمة هذا التأثير؟ - نعم، في البدء كان الكلمة، ولم يتغيّر شيء. ليس لدينا سلاح سواها. هل يزعجك أن يوصف مسرحك بمسرح الكلمة؟ - أبداً! مسرحي مسرح كلمة. ففي النتيجة، مهما كان الديكور رائعاً، والثياب مكلفة، والمؤثرات مبهرة، إذا لم تكن هناك كلمة جيدة فكل شيء باطل وقبض ريح. أهل الخشبة يعتبرون الكلمة مجرّد عنصر من عناصر العملية المسرحية... - الكلمة هي الجبين، وبقية العناصر هي الأطراف المكملة. كنتَ مرتبكاً أثناء العرض الأول... شعرتُ ذلك من تعبيرات وجهك! - أخاف من النجاح أكثر من خوفي من الفشل. المشكلة في المسرح ليست في عذاب التأليف، بل في عذاب التفسير للناس وللاعلام. أنا بطبيعتي مرتبك، ما زلت طفلاً مرتبكاً خائفاً من الكلام، وعندي احساس بأنني محروم من كل شيء. لكنك تقول كل شيء في المسرح... - لأنني أكتب وحيداً منعزلاً. وعزائي لنفسي أنني حتى وان كنت عصفوراً في قفص، فأنا سعيد بذلك، وهذا أفضل أن أكون عصفوراً على شجرة غريبة. لماذا تكتب إذاً؟ - أعتبر الانسان العربي عبر العصور أشبه بصياد في عرض البحر، يبحث عن لقمته وكرامته وحريته، ومعه شبكة وأشرعة وبوصلة... لكنه أعمى! في كلّ ما أكتب، شعراً ومسرحاً، أحاول أن أحميه براحتي وبدفاتري من العواصف، وأحاول أن أدله على شاطئ الأمان. أفعل ذلك بقدر ما استطيع، مع أنني أكثر ضياعاً منه، وأكثر شغفاً بالاهتداء إلى الخلاص. ما تقويمك للعرض؟ - جيّد وفي تحسن مستمر. ومن شروط نجاح أي عمل مسرحي أن يتبناه جميع العاملين فيه. حتى قاطع التذاكر اذا لم يكن راضياً عن النص، فذلك يؤثر بطريقة ما على العمل المسرحي. وجهاد سعد؟ - كان مبدعاً ومتميزاً، في اخراجه وفي أدائه لدور قاطع التذاكر عاطف. الكوميديا جديدة على جهاد سعد. هل شعرت بذلك خلال العمل معه؟ - نصي ليس كوميديا عاديّة، بل كوميديا سوداء. الضحكة تنبعث من الجرح، وليس من الفم. ليس هناك دور بطولة في المسرحيّة؟ - كما قلت لك أنا لا أكتب كوميديا استهلاكيّة، ولذلك ليس عندي بطل يستأثر بالأضواء، ويحوّل باقي الممثلين ديكوراً وأقزاماً. كل شخصية لديّ لها بطولتها الخاصة، همومها وأحلامها. لماذا تركز على الهامشيين؟ - إذا كان هناك أمل في هذه الأمة، فهو من الهامشيين. وليس من ممثلي النخبة وأصحاب الوجاهات. لكن لا بدّ من ايضاح نقطة أساسيّة: الهامشي عندي هو المواطن الذي يبقى في الظل، لا الهامشي بالمعنى الفلسفي. طريقة تناولك للسياسة، وتوظيف القضايا والشعارات على الخشبة، يعتبرها البعض نوعاً من التنفيس؟ - أكتب للمسرح كما أكتب الشعر، أما التسميات فلا تعنيني. لو جاء إليّ الآن من يقول إن ما أكتبه ليس شعراً ولا مسرحاً، فلن يرف لي جفن. وسأتابع الكتابة كما أفعل منذ نصف قرن. كيف كتبت نصّ "خارج السرب"؟ - كتبته على مراحل. منذ سنوات كان في ذهني شيء ما عن تدخل النظام العربي والسوط العربي في أدق تفاصيل حياة الانسان. وجاءت الأحداث المتلاحقة، كانهيار الاتحاد السوفياتي وبروز ستالين أميركي أشد قسوة ووحشية، لتعزز حلمي بهذه المسرحية وتؤجله في انتظار انهيارات أخرى! وقد صدق حدسي، فها هي الانهيارات تتساقط علينا كالمطر الافريقي، حتى صارت سيولاً... عنوان المسرحية هل يعبر عنك؟ - أنا بطبيعتي "خارج السرب"، في الشعر وفي المسرح وفي الحياة. وزكريا تامر يعرف هذا أكثر من أي كان الكاتب السوري المعروف الذي كان في زيارة إلى دمشق، وحضر لقاءنا مع الماغوط. في حياتي لم أجلس في منتصف الصف في السينما أو المسرح، أو على طاولة وسط المقهى، دائماً انتقي ركناً منعزلاً عن كل شيء، وقريباً من كل شيء، وأحدق في الرصيف. لماذا؟ - لأتأمل الأقدام الحافية، وسيارات الشبح في شارع واحد. كانت تنقصنا الأشباح، كأن أشباح الليل والكوابيس لا تكفينا! الشعر أساس مسرحي ما موقع "خارج السرب" في مسيرتك الابداعيّة؟ - أعتقد أنّها أنضج مسرحيّاتي. وهي على العموم الأكثر قرباً إلى قلبي. لم يتدخل فيها أحد، وأتمنى أن تكون أكثر قرباً من الناس. ألم يتدخل المخرج في تقديم رؤيته؟ - المخرج أخذ بتصوري للشخصيات. جهاد أحب المسرحية لأنه يحبني، ويحب شعري وأدبي، وحاول أن يعطي صورة صادقة عنّي، وأن يخدم رؤيتي بتفان. وكان مبدعاً في اخراجه وفي تمثيله. يمكننا إعادة كل عنصر في المسرحية إلى أصله في الواقع. - النظام العربي القائم ليس نظاماً حراً. والمسرح الصغير يجد مكانه داخل المسرح الكبير. الوطن العربي مسرح، والشعوب كومبارس. المسرحية تلغي هذه الحدود. بماذا تدين للمسرحي الايطالي لويجي بيرنديللو في استخدامك تقنيّة "المسرح داخل المسرح" ؟ - إستخدمت تلك التقنيّة في "المهرج"، وهي ليست جديدة عليّ. على ذكر "المهرج"، بطل "خارج السرب" أشبه بالمهرج... - عاطف فيه ملامح مني: ضائع، جدي، ساخر، مثقف، أمي، لا نعرفه فعلاً. هل تحدثنا عن علاقة الشعر بالمسرح؟ - الشعر أساس كل مسرحية أكتبها. المسرحية قصيدة مبسطة، عندي سخرية في الشعر كما في المسرح. وأنا أعتبر نفسي هاوي مسرح، لست محترفاً. ماذا يقدّم لك المسرح تحديداً؟ - أحاول في المسرح أن أعبر عن الأشياء التي لا تستوعبها القصيدة. المسرح عندي أشبه برجل يدخل إلى غرفة مظلمة، فأدلّه على مفاتيح الكهرباء، أقول له ان ينام على السرير بدل العتبة، وأن يضع حذاءه على العتبة بدل السرير، وأن لا يستحم في المطبخ... هل فرقة "محمد الماغوط" ستختص بأعمال محمد الماغوط؟ - نعم، لن تمثل سوى مسرحياتي. هل لديك مشروع مقبل؟ - نعم، وعناصره في رأسي.