فرقة "مسرح النخبة" تستعد لليلة الافتتاح. المؤلف هو شكسبير الذي لا يطال النقد عبقريته الدرامية ورؤيته الإنسانية الثاقبة. والنص هو "روميو وجولييت" رائعته البعيدة عن حاضرنا زمانياً ومكانياً، كبعد موقع "مسرح النخبة" عن مركز المدينة، إذ لا بد للمشاهد كي يصل اليه من عبور حاجز عسكري فأمني فجمركي فتمويني فنفسي، وهذا الأخير لا بد من اختراقه. ومخرج العمل هو من نوع "مخرجي الجوائز"، همه من النجاح هو السفر والمهرجانات والتعويضات، وليس جمهور البلد. لقد درس في أوروبا، لكنه لا يفرّق بين موسيقى بروكوفييف وموسيقى تشايكوفسكي، ويرغب في اللحظات الأخيرة قبل رفع الستارة أن يقدم مزيجاً منهما معاً كخلفية للحب المتدفق المأزوم بين روميو وجولييت. والديكور عبارة عن شرفة بسور معدني تمتد من يمين مؤخرة الخشبة الى يسارها، حيث يربطها بأرضية الخشبة درج بنصف استدارة تزيّنه عريشة مزهرة. وهناك في المنتصف تحت الشرفة عدة ملصقات ملونة كبيرة، أحدها للمسرحي الألماني برتولت بريشت، وبجانبه ملصق آخر للمطرب والموسيقي فريد الأطرش. أما لماذا جمعت هذه الملصقات المتنافرة في هذا المكان من الديكور تحديداً، فلم نجد له أي مبرر إلا في تعليقات "عاطف" آذن المسرح الذي يطمح أن يصبح ممثلاً، لقناعته بموهبته وثقافته، في حين لا يدري المخرج شيئاً، لا عن بريشت ولا عن الأطرش، ولا عن وجود الملصقات أصلاً. ولعاطف مكانه الخاص في مقدمة يمين الخشبة، في كشك بيع التذاكر والرد على الهواتف المتسائلة عن عنوان المسرح ونوعية العرض والممثلين، فينتهز الفرصة ليسخر من ممثل المسرح الذي تخلّوا عنه ليتألقوا نجوماً في المسلسلات التلفزيونية، ومن بعض السائلين عما إذا كان في العرض تظليط، وكذلك من تدهور فن المسرح والجمهور. أما المنتج المموّل فلا نرى من ارتباطه بالعرض المسرحي سوى اعتراضه الدائم على انغماس الممثلين في السياسة، حتى وان كانوا يتحدثون حول الطقس. وهؤلاء الممثلون هم مجموعة من الشباب، همهم تنفيذ تعليمات المخرج كي ينجح العرض فيخلصوا ولو جزئياً من الضائقة الاقتصادية التي يرزحون تحتها، ومن بينهم يبرز روميو شبه المسطول والذي لا يتوقف عن التدخين، وجولييت الجميلة التي لا يزعجها سوى نوعية العطر الذي ستستخدمه. إن مسرحية محمد الماغوط "خارج السرب" تتمحور حول شخصية "عاطف" - جهاد سعد - الذي ارتبطت حياته وأحلامه وأفكاره بفن المسرح ووظيفته الاجتماعية السياسية، والمسرحية التي تنطلق بنيتها من لعبة المسرح داخل المسرح تبدأ به حالماً بدور روميو في مسرحية شكسبير وتنتهي به مخذولاً منكسراً مما آل اليه حال المسرح كانعكاس لحال الوطن. البداية والنهاية بمثابة برولوغ وإبيلوغ يحيطان بمتن الحكاية الأمثولة، والأمثولة هنا التي تعرض علينا واقع المسرح العربي المتدهور على كافة الصعد هي كناية عن الواقع السياسي العربي. في سياق الحكاية يلعب "عاطف" دور معلقٍ على الأحداث عبر وخزاته / قفشاته السياسية بأسلوب "شر البلية ما يضحك" الذي اعتدناه في مسرح الماغوط منذ "المهرج"، وكذلك دور فاعلٍ مندغمٍ في الحدث، تارة بهدف التعرية والكشف وتارة كمتورط تصدمه بشاعة الواقع العياني فيصحو ويرفض الانزلاق. عند بدء العرض ترتفع الستارة عن خشبة شبه معتمة. جولييت تتهادى بثوب العرس على الشرفة نحو الدرج وهي تنادي حبيبها روميو الذي يظهر ليبثها لواعج حبه بالفصحى وبالأسلوب الكلاسيكي المفخم. وعندما تضاء الخشبة تكون جولييت قد اختفت، ومن يبقى لينكشف أمامنا فهو عاطف في زي الآذن، مغادراً حلمه لينخرط في دوره وموقعه الأصلي كآذن يكنس المسرح ويؤمن طلبات الممثلين والمخرج والمنتج، راجياً أي دور، في أي مسرحية من الكلاسيكيات العالمية، فلا يؤمَّل إلا باحتمال دور احتياطي. إننا نعايش الآن - بالعامية الدمشقية - مشاكل الفرقة في اللحظات الأخيرة قبل الافتتاح: اللمسات الأولى والأخيرة على النص وتوزيع الأدوار والموسيقى والإضاءة والأزياء والإكسسوارات، وذلك كله بصورة اعتباطية تسخر مما آل اليه واقع العمل في المسرح، حتى نصل الى كلمة الافتتاح التي تُرتجل بمساعدة عاطف للمنتج الذي يختصر كل ما يُشتمّ منه رائحة سياسة، ثم تليها دقيقة صمت لا بد منها على أرواح الشهداء. وما أن يبدأ عرض "روميو وجولييت" حتى يظهر على الخشبة بين الممثلين شخص غريب أنيق ألا فيرزاتشي ويعرّف عن نفسه بأنه مندوب الجامعة العربية المكلف بكتاب رسمي بتقديم تقرير عن العرض نتيجة الاهتمام الكبير الذي تبديه هذه المنظمة بشؤون الثقافة والمسرح، الأمر الذي يتجلى مباشرة من خلال جهل المندوب بشكسبير ومسرحيته المعروضة، فيطلب ملخصاً عنها. وتدريجياًَ يتحول وجوده من رقيب مهذب الى المطالبة بإعطاء الديكور صبغة محلية للتقرب من الجمهور، الى التدخل المباشر بأحداث المسرحية. فالنهاية المأسوية الناتجة عن الخلاف بين العائلتين لا تتناسب مع طبيعة المرحلة الجديدة، ولذا لا بد من إدخال تعديل طفيف، على رغم أنف شكسبير، يتلخص في تحقيق الصلح بين العائلتين العدوتين كي تتوج النهاية بعرس ضخم بين روميو وجولييت. هذا هو واجب المسرح في هذه المرحلة كما تراه الجامعة العربية: الإيحاء بضرورة الصلح. وعندما يبدي أحد أعضاء الفرقة أو المنتج اعتراضاً ما، يتحول المندوب بحركاته وألفاظه الى رجل أمن، وعلى الفرقة ألا تنسى أن نصف الصالة مزروع برجال الأمن. المنتج والمخرج يقبلان على مضض، أما الممثلون فينسحبون احتجاجاً على التدخل والتعامل الفج، ويفاجئنا المندوب باستعداده لأي طارىء كان، فأعضاء لجنته المتصدرة الصالة جاهزون للعب الأدوار الجديدة، بما في ذلك دور جولييت الذي ستلعبه رئيسة اللجنة بنفسها، حتى وان كانت في عمر أمها وبأضعاف حجمها، الأمر الذي تم استغلاله في العرض بصرياً ولفظياً بأسلوف لافت. وأعضاء اللجنة لا يتميزون بأسمائهم الشخصية، وإنما بألقاب من وزن "أبو ماهر" وتاريخ ميلاد كل منهم يحيي في ذاكرتنا يوماً مأساوياً من تاريخنا المعاصر. وكلهم من دون استثناء يحملون درجة الدكتوراه، لكنهم لا يعرفون في أي اختصاص!!... وبأسلوب مبالغ في سخريته يدير المندوب اجتماع مفاوضات الصلح حول تابوت روميو وجولييت الذي انقلب ليصبح طاولة. والمشكلة المتبقية للوصول الى الخاتمة السعيدة، هي من سيلعب دور روميو أمام جولييت الجديدة لحملها الى مخدع الزوجية الواعد. هنا يتذكر المخرج الممثل الاحتياطي "عاطف" الذي سبق أن أنقذ الديكور بمسحة بيئية براميل زبالة وعدة بخات من مادة د.د.ت.، فيقبل عاطف تحقيقاً لحلمه، لكنه ما ان يرى أمامه جولييت البديلة حتى يتعثر في حركته وينسى النص، ثم يتراجع عن قبوله ويرفض. وبما أن الجميع قد أرهقهم العمل يقترح المندوب تناول العشاء في أحد الفنادق الفارهة على حساب الجامعة العربية، والدعوة موجهة للجميع. والجميع يذهبون إلا عاطف الذي تعود اليه جولييت الحقيقية لتقترح عليه الانتحار بالسم معاً، كما أراد شكسبير خلاصاً من تفاهة هذا الواقع، فيوافق. لكن السم الذي اشترته الممثلة من الصيدلية كان مغشوشاً، وعندما يستيقظ عاطف لا يجد الممثلة بجانبه، وإنما عدداً من الأكاليل متناثراً من حوله، وإذ يرفع رأسه نحو الشرفة يرى جولييت / الممثلة تلتحق بأعضاء وفد الجامعة العربية الذين غزوا تابوته بأكاليل الموت، لأنه أراد أن يطير خارج السرب. يترك عاطف الستارة لتنسدل وراءه ويتوجه الى الجمهور بمونولوج طويل معدداً لحظات الأمل والنهوض التي مرت في تاريخنا العربي، متسائلاً: هل كان كل ذلك وهماً؟ إن فكرة المسرحية تدل على لمعة درامية ذكية، التقطت أخطر ما نمر به في هذه المرحلة، مشروع الصلح بكل ما يحمله من معان موجعة مذلة، وصاغها الماغوط في لغة كوميتراجيدية ساخرة مؤلمة توقظ حس وعقل المشاهد وتطالبه بالتفكير بغرابة ما يجري حوله، وبإعادة النظر بما يكاد أن يصبح مألوفاً معتاداً، لكثرة ما تردده وسائل الإعلام المتنوعة حول حتمية الصلح. ولكن بدلاً من الخطاب السياسي المباشر، لجأ الماغوط الى الأمثولة المسرحية. إن نجاح مشروع مسرح النخبة، رغم هشاشة بنيانه وأسلوب عمله، مرفوض حتى كفكرة، ولهذا لا بد من هدم البناء كله ونفي المثقفين منه وإن كان سلاح دفاعهم لا يتخطى الكلمة. إنها صرخة احتجاج ورثاء في آن واحد يطلقها الماغوط على لسان عاطف، لعلنا نستيقظ. لم يبقِ الماغوط مسرحيته على حالة صراع مباشر أو معلن بين قوتين، وإنما على التناقض الجلي بين الأقوال والأفعال، بين النوايا والسلوك والتصرفات، فالمخرج مثلاً يصرح بأنه يريد تقديم عمل كلاسيكي فني ناجح، لكنه لا يمتلك النضج المؤهل لذلك لا يقوم بالأفعال المؤدية اليه. والمندوب يعلن عن حرص الجامعة العربية على الفن وأهله، لكن هدفه الحقيقي هو هدم المسرح. إنه يشكل مع لجنته قوة واضحة الأغراض من حيث النتيجة، أما الآخرون فإنهم أفراد عزل، يسهل تدجينهم أو استبدالهم بحسب الحاجة. لهذا ليس هناك صراع حقيقي، بل عملية تعرية لأسباب ما جرى ويجري. ولولا كثرة الوخزات / القفشات على لسان عاطف تحديداً، لكان النص أرشق وأمتن، وبالتالي أعمق أثراً. فالقفشة تنفِّس ولا تشحن، وهذا ما يتناقض مع بنية النص التي تبغي تحقيق حالة الشحن وتفعيل المشاهد حيال ما يجري حوله. ولو اكتفى الفنان جهاد سعد بإحدى المهمتين الفنيتين، التمثيل أو الإخراج، لكان ذلك أجدى له وللعمل ككل، خصوصاً من حيث ضبط التشكيل الحركي ومستوى الأداء التمثيلي الذي كان شديد التفاوت، خصوصاً بعد تبدل عدد من الممثلين والممثلات بين العروض الأولى والأخيرة. * رئيس تحرير مجلة "الحياة المسرحية". بطاقة العمل المؤلف: محمد الماغوط المخرج: جهاد سعد ديكور: نعمان جود موسيقى: سميح شقير أزياء: مها كامل كاريس بشار: جولييت - جهاد سعد: عاطف - نضال نجم: روميو - ميلاد يوسف: مركوتشيو - إياد أبو الشامات: بنفوليو - عابد فهد: المخرج - صبحي الرفاعي: المنتج - زهير عبدالكريم: مندوب الجامعة - رجاء قوطرش: جولييت البديلة، رئيسة لجنة الجامعة العربية. أعضاء لجنة الجامعة: يوسف أبو حلا، علي شاهين، سليم تركماني، أسامة شقير.