في عرضها الجديد "غزل الأعمار"، تكسر "الورشة" المصرية كل الحواجز التي تفصل بين الممثل والجمهور في المسرح الأرسطي. وتراهن هذه الفرقة في بحثها المنصب على "مسرحة" السيرة الهلالية، على المغايرة، إذ تبحث عن فضاءات موازية مثل الخيمة التي تنصبها في جولاتها، أو "بيت الحرازي" التاريخي في القاهرة. وفي عمّان تركت مقاعد القاعة شاغرة، ودعت الجمهور للصعود إلى الخشبة المفروشة بالرمال، والجلوس على صفىن متوازيين يتحرك العرض في إطارهما. هكذا تحوّل المتفرج من مجرد متلق إلى عنصر فاعل من عناصر الفرجة، يخرج من الاحتفال الطقوسي منبهراً ب "الحالة"، وعاجزاً عن الإمساك بخيوط اللعبة المتداخلة وفق "غزل" مكثف. فهذا يحتاج إلى قدر من الجهد والصبر لم يدرج عليهما الجمهور الخاضع للمسرح التجاري وطابعه التسطيحي. ورهان المغايرة في "غزل الأعمار" لا يقتصر فقط على البنية المسرحية، وعلى الاسلوب المميز في توظيف الفضاء والعناصر السينوغرافية. بل أن جهد "الورشة" انصب أساساً على "مسرحة" السيرة الهلالية. فالراوي لم يعد هنا السيد المطلق للعرض، كما في "الحلقات" التراثية : من أشعار المنشد يتوالد الحدث، ويتكوّن البناء الدرامي. لكن المنشد يبقى المحور المركزي الذي تنتظم حوله حركة "الكورس". فالجوقة تسرد الوقائع وتشحنها بأبعاد ودلالات جديدة، الآن وهنا. ثم لا تلبث أن تخرج من دائرة الانشاد إلى التمثيل، من القص إلى التجسيد، ومن النص إلى الجسد. ويلجأ الممثلون - الرواة إلى "التحطيب" الصعيدي رقصة العصي لتجسيد المعارك، كما ترافق الموسيقى والغناء توتّر اللحظات الدراميّة. هكذا يقفز العرض بديناميّة ومرونة بين الشعر والنثر، وبين التمثيل والحكي والانشاد. تعمل فرقة "الورشة" المصريّة حسن الجريتلي عكس النمط المصري السائد، على استلهام الاشكال السردية التراثية، ملتقية مع تجارب أخرى مثل "مسرح الحكواتي" اللبناني روجيه عساف، أو التجارب الاحتفاليّة في الجزائر ولد عبدالرحمن كاكي والمغرب الطيب الصديقي. وقد استطاعت في عملها هذا أن تمضي بالرهان إلى آخره، وأن تطلق العنان لمسعاها التجريبي الطموح بعد سنوات من البحث والتمارين. لم ينشغل الجريتلي ورفاقه بمحاورة الراهن عبر آليّات الاسقاط المعروفة، بل تركوا السيرة تأخذ مداها احتفاليّاً وجماليّاً. هذا لا يمنع بالطبع من نسج العلاقات بين العمل والواقع. لكنّها مهمّة المتلقّي، بعيداً عن الفخّ الذي طالما لازم تجارب المسرح الاحتفالي العربي الساعية إلى اتخاذ المادة التراثية مطية لتناول الراهن، على أساس التورية التاريخية. تعاملت "الورشة" مع السيرة من دون أفكار مسبقة. وبدأت بحوثها سنة 1994 بتجميع المادة التراثية الضخمة المتوافرة في الشعر الشعبي المصري عن السيرة الهلالية. واشتغلت بشكل خاص على روايتين: أولاهما رواية الشاعر جابر أبو حسين 1913 - 1980 التي تم تجميعها من قبل الشاعر العامي المعروف عبدالرحمن الابنودي وزوجته عنايات، وصدرت منها خمسة أجزاء وأشرطة مسجلة بصوت الشاعر جابر أبو حسين. أما الرواية الثانية فهي للشاعرين سيد الضوي، الاب والابن، وقد قامت "الورشة" بتجميعها مباشرة، كما وردت على لسان الضوي الابن الذي تشركه الفرقة منشداً في عرضها هذا. بلغ حجم المادة التي تم تجميعها نحو مليون بيت شعري. وقد بدأ أعضاء الفرقة وبينهم حسن جويلي، طارق أبو الفتوح، فانيا إكسرجيان، سيّد رجب، هدى عيسى، نجيب جويلي... بالعمل على المادة الشعرية الخام، عبر محاولة محاكاة الراوي. "وبقدر ما اجتهدنا في محاكاته، بحثاً عن قرين مسرحي للسيرة - يوضح بيان للفرقة - وجدنا أنفسنا ننجذب، خلافاً له، إلى استلهام أبعاد شخصيات السيرة وعلاقاتها، بحثاً عن خبرة تذهب أبعد من ذلك، وترجح تداعي المعاني على منطق الزمان والمكان...". تعتبر "الورشة" عرضها الحالي الذي قدّم أخيراً في باريس، مجرد قراءة أولى في حلقة من حلقات السيرة الهلالية، تنصب أساساً، كما يشير عنوان "غزل الأعمار"، إلى "تقاطع المصائر وتشابك الأعمار وعجائب الأقدار". ويتناول العرض قصة الأمير رزق بن نايل الذي يهجر ديار بني هلال، درءاً للعار، بعد انجاب زوجته خضرة لولد أسود البشرة يشكك في أبوته. فيما تنجو خضرة بوليدها إلى قبيلة بني زحيل المجاورة. وبعد سنين، يفتقد بنو هلال أميرهم رزق، حين يظهر عبد أسود من زحيل يستبد فيهم ويخضعهم بحد السيف. ويبعث الأمير سرحان الذي استخلفه رزق في إمارة بني هلال، من يبحث عن الأمير الغائب. ويقبل هذا الأخير العودة، بعد تردّد، لتحرير بني هلال من بطش هذا الفارس الأسود، والمحارب الهمام. وبعد صراع مرير ومبارزة بينهما تدوم أياماً عدة، من دون أن يتمكن أحدهما من اخضاع الآخر، تضطر خضرة إلى الكشف عن سرها القديم، وتصارح رزق بأن هذا الأسود الذي استبد ببني هلال، ليس سوى الابن الذي كان قد أنكر أبوته .