ارتفع الستار مساء الخميس الماضي في "مسرح المدينة"، عن العرض البيروتي الاول ل "غزير الليل"، في اطار ما يمكن اعتباره الحدث الفعلي الذي يعلن عن ولادة هذا المسرح الجديد في العاصمة اللبنانية. ف "صخرة طانيوس" كانت تمريناً أولياً متلعثماً، والنشاطات الرمضانية كانت البروفات التي خلقت أجواء البهجة الجماعية، لكن الفنانة نضال الاشقر تعرف جيداً أن برمجتها لا يمكن أن تكتسب قيمة ثقافية وشرعية مسرحيّة الا اذا استقطبت التجارب العربية الطليعية. لذا فهي تحقق ب "انتزاعها" عروض "مسرح الورشة" من "مسرح بيروت" نجاحاً لا يقبل الشك، في انتظار قيامها بتقديم العمل الجديد للتونسي الفاضل الجعايبي خلال الشهر المقبل... المسرحي المصري الشاب حسن الجريتلي يحقق بدوره حلماً قديماً مع رفاقه في "الورشة" التي تعاني في مصر من مختلف العراقيل والعقبات رُفضت برمجتها في "الملتقى العلمي للمسرح العربي" بحجّة أن مشاركتها في المسابقة يكرّس انتصار المسرح الحرّ على مسرح الدولة!!. لا شك أن "الورشة" تجربة على حدة في المسرح العربي. فتركيبة الفرقة وطريقة عملها "الاحتفالية" على المخزون الشعبي والذاكرة الجمعية تذكران الى حدّ بعيد بالسنوات الذهبية لفرقة "الحكواتي" اللبنانية. تضم "القبيلة" الى جانب الجريتلي، المؤلفين خالد ونجيب جويلي، الناقدة هدى عيسى، السينوغراف طارق أبو الفتوح، ونفر من الممثلين المحترفين أبرزهم سيّد رجب وسيّد الرومي، اضافة طبعاً الى الراقصين التقليديين فنّ التحطيب، والعازفين والمغنين زين محمود وخصوصاً "المخايلجية" معلّمي خيال الظل وهم آخر ممثلي تقليد فنّي عريق في طريقه الى الانقراض نشير بينهم الى حسن خنّوفة. انطلقت الفرقة التي سبق لها تقديم كافكا وألفريد جاري، في بحثها من تطويع تقنيات "الحكي"، ومن تجميع الحكايات ونبشها من الذاكرة الجماعية، حتى أصبح لفناني "الورشة" ريبرتوار من القصص يطوفون به على الناس، ويطوّرونه على ضوء التجربة. هكذا توقفوا يوماً عند موال حسن ونعيمة الذي راح يتسع وتتكامل عناصره مع لقائهم بشهود عاصروا قصّة الحب الدموية الصاخبة الواقعية التي تذكر بأسطورة "ايزيس وأوزيريس". من كل ذلك ولد احتفال مشهدي مجبول بطين التراجيديا، مشرّع على الراهن السياسي بشكل ناضج وعميق. احتفال مشهدي يوظف عناصر السرد والفرجة بعيداً عن فخ الفولكلور والسطحية. مأساة حسن ونعيمة عن الحب والخيبة، عن الحزن والفشل، تندرج في اطار الانحسار الذي تلا ثورة 1919 في مصر. وشخصيات "غزير الليل" ولدت من الموال، وتعيش في "الحواديت"، في لاوعي الجماعة. بعثها الجريتلي ورفاقه حيّة بيننا كما يفعل محرك الدمى مع خيالاته، متوصلين الى أرقى مراتب المسرحة. ونشير أخيراً الى أن "الورشة" تعمل منذ مدّة على "السيرة الهلالية" التي سيقدّم الممثلون بعض حكاياتها في بيروت على هامش العروض، في انتظار أن تكتمل تدريجاً وتتشكل يوماً في احتفال مسرحي متكامل هو الآخر.