ظاهرة جديدة تشهدها منتديات القاهرة ولياليها الرمضانية يحار المرء في تفسيرها، إذ يعيش قطاع عريض من الشباب ما يمكن تسميته "الولع بالسيرة الهلالية". و يتابع هؤلاء وقائعها بأهتمام اقرب الى الشغف على رغم ان تلك الوقائع صارت معروفة بفضل المسلسلات التلفزيونية التي استلهمت احداثها في السنوات الاخيرة. ومنبع الشغف والاهتمام لا يعود الى الوقائع بقدر ما يرجع بالاساس الى طرق روايتها، وربما لأن السيرة الهلالية بالنسبة الى عشاقها هي تجسيد لأمة وبطلها ابو زيد الهلالي تجسيد لقائد تبحث عنه الامة ليوحدها في مواجهة الاخطار كما يقول الشاعر عبدالرحمن الابنودي المسحور بها. وللعام الثاني على التوالي يعيش جمهور السيرة تجربتين مختلفتين في روايتها، الاولى التجربة التي يقف وراءها الابنودي الذي افنى عمره في جمع السيرة وتدوينها والثانية تقوم بها فرقة الورشة المسرحية بقيادة حسن الجريتلي. وتستند التجربتان الى عمود ارتكاز واحد هو الشاعر الشعبي سيد الضوي المولود عام 1934 والذي يعتبر آخر شعراء السيرة العظام الحاضر في التجربيتين على ما بينهما من اختلافات، ففي تجربة الابنودي التي تقدم في بيت السحيمي الاثري في حي الحسين هناك استحضار كامل للطقس التقليدي الشائع لطرق اداء السيرة في صعيد مصر مع فارق اساسي يتمثل في المداخلات التمهيديه التي يقدمها الابنودي لشرح السيرة وفك الغازها واختزال احداثها بهدف تقريب هذا العالم من جمهوره الجديد وينجح بخبرته ولغته الموحيه في مغازلة مخيلة متلقيه استناداً على وسيلتين الاولى هي التركيز على العالم الغرائبي للسيرة ودعمه بمفاتيح كوميدية لتفسيره والثانية لفت الانتباه الى قدرة الضوي وملكاته وما يميزه عن غيره من شعراء السيرة في دلتا مصر وصعيدها، ولا يضيع الضوي هذه الفرصة، ففي المناطق التي يرتجل فيها ويتجاوز النص الشائع المدون يختار النصوص التي تملك قدرة كبيرة على إيقاظ الحواس وكثير منها يركز الى مشاهد الحب ومطارحات الغرام ولذلك استشعر الجمهور تناغماً حقيقياً في الأداء بين الشاعرين تميز في مناطق كثيرة بطابعه المسرحي القائم على جوقة تقليدية من عازفي الربابة والإيقاع. واذا كان دور الضوي مع الابنودي يبدو مساوياً لدور الشاعر الشهير فأنه في التجربة الثانية مع فرقة الورشة المسرحية يبدو "هامشياً" الى حد كبير، لكن هذا التهميش له اسبابه الفنية التي ترتبط بخيارت الورشة في تعاملها مع نصوص السيرة فهي تتعامل مع السيرة من منظور درامي قائم على استلهام احداثها واستثمارها في طرق تدريب اعضاء الفرقة على "الحكي" والاداء ورواية النصوص الشفاهية وهو الاستثمار الذي عبر عن نفسه في العرض المسرحي "غزل الاعمار" الذي قدمته الفرقة عام 1997. ويلاحظ ان عروض الورشة التي شارك فيها الضوي احتفظت بالطريقة التقليدية في تقديم السيرة وذلك بالبدء بفقرات يؤديها زين منشد الفرقة، وهي فقرات تبدأ بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرج احد الممثلين لاداء بعض النصوص التي تعلمتها الفرقة من شاعر آخر هو "علي جرامون"، وفي هذه الفقرات تكرار لابيات الحكمة التقليدية المعروفة في الشعر الشعبي والتي يشكو فيها الشاعر من لوعة الغرام التي تصل معه الى قمة الوجد الصوفي، ثم تختار الفرقة بعض مناطق السيرة الملتهبة وهي عادة تركز على الروايات العجائبية خاصة "حكاية خضرة الشريفة" وهي امام البحيرة وتتمنى ان ترزق بولد اسود اللون، وهي حكاية تشبه حكايات الامنيات الشائعة في الدراما العالمية، وفي تلك الحكايات يمكن لاعضاء الفرقة ان يلعبوا دوراً رئيساً فيها بالتعليق على الاحداث او تلخيصها وهو دور اقرب الى دور الجوقة الاغريقية مع استثمار واضح لتعدد الاصوات الموجود في النص الشعري القائم على شكل المربعات، وهو شكل يمكنهم من التنقل والتجول في الاحداث بشكل حواري من بين شخوص السيرة واحداثها لينتهي العرض بتصاعد درامي لافت وتعلو اصوات الكريشندو مع الضوي وهو يروي سيلاً من المعارك التي خاضها ابو زيد الهلالي المتجسد امام هذا الجمهور الجديد بكل ملامح البطل المنتظر.