"ما مهنة أبيك؟". يُطرح هذا السؤال التقليدي على كل تلاميذ العالم، والجواب عنه لا يحتاج الى توقف كبير ولا يثير مشاكل. فلكل تلميذ أب ولكل أب مهنة. غير ان السؤال الذي طرح للمرة الاولى على صبية مراهقة في ثانوية "هنري الرابع" في الحي اللاتيني، كان ثميناً باثارة مشاكل بالجملة "... أبي رئيس للجمهورية"، قالت مازارين بنجو ابنة الرئيس الراحل فرانسوا ميتران من عشيقته السرية - العلنية آن بنجو. و"ما مهنة امك"؟ سؤال مكمل لكنه أقل إثارة للمشاكل "... أمي مديرة لجناح النحت في متحف اورسي في باريس". وهنا تعرّفت اوائل السبعينات الى الامين العام للحزب الاشتراكي فرانسوا ميتران، في متحفها، حيث جاء يمارس هوايته المفضلة، في الاستمتاع بمشاهدة الروائع وآثار العباقرة. من هذه المعرفة نشأت علاقة حب قوية ومن هذه العلاقة ولدت مازارين في العام 1974، ومنذ ذلك التاريخ بدأت تتجمع العناصر الدرامية لرواية وصفها الرئيس الراحل ذات يوم بقوله: انها رواية بديعة وها هي مازارين، ثمرة علاقتهما الخارجة على القوالب السائدة، تروي في العام 1998 أهم ملامح هذه السيرة في عملها الأدبي الأول. عندما التقى آن بنجو، كان فرانسوا ميتران متزوجاً من دانييل غوز رينال، وله ولدان من هذا الزواج الذي تم بسرعة البرق "... عندما رأى صورتي قال أريد ان اتزوج من هذه الفتاة" بحسب سيدة الاليزيه الاولى 1981 - 1995. لم يكن هذا الزواج قادراً على اختصار طموحات ميتران الموظف في ادارة فيشي التي سرعان ما انقلب عليها، بل كان محطة في سيرة جانب منها كاثوليكي محافظ يحتل الزواج الشرعي ركناً فيه، وجانب اكبر بما لا يقاس، ويتعلق بطموح سياسي غير محدود كان من الطبيعي ان ينتهي في قصر الاليزيه. وإذا كان صحيحاً ان الفرنسيين أقل من الاميركيين اهتماماً باخلاقيات الزواج والخيانات الزوجية، فالصحيح ايضاً ان رجال السياسة الكبار في فرنسا، خصوصاً اولئك الذين يتطلعون الى المناصب العليا، يحرصون دائماً على ممارسة العشق والخيانات الزوجية في السر، لأن ناخبيهم ليسوا كلهم من اليعاقبة العلمانيين المتشددين، فقسم وافر منهم محافظ يقيم اعتباراً للقيم الاخلاقية الموروثة من الكاثوليكية ومن ضمنها الزواج الشرعي. هذه الحقيقة تُفسِّرُ وحدها بقاء مازارين ميتران طي الكتمان حتى العام 1994، اي حتى آخر ولاية الرئيس الثانية. في ذلك الحين انتشرت على نطاق واسع معلومات تؤكد ان اصابته بمرض السرطان قاتلة، ولا شفاء منها فكان ان ظهرت الابنة والأم وحضرتا بكثافة الى جانب الرئيس خلال الشهور والأسابيع الاخيرة من حياته، وصارتا امراً واقعاً ومثيراً للدهشة والفضول. لم تعش مازارين كل طفولتها في السر، ولم تكن مكتوفة، صحيح انها لم تكن تلتقي اباها يومياً اثناء تناول العشاء، ولا تتناول معه دائماً فطور الصباح، لكن الصحيح ايضاً انها كانت تتلقى منه الهدايا والاتصالات وتمضي معه بعض عطل نهاية الاسبوع خلال السنوات السبع التي سبقت انتخابه رئيساً للجمهورية 1981. وهي سنوات ربما كانت الاكثر مدعاة للحفاظ على هذا السر الحميم، وكان خلالها روجيه باتريس بيلا احد المتمولين الكبار، وأحد اصدقاء الرئيس المقربين يشرف على نفقات الام والابنة ويُدبّر كل ما تحتاجانه. وإذا كان السر سراً بالفعل بالنسبة الى القسم الاكبر من اعضاء الحزب الاشتراكي، وبالنسبة الى الرأي العام الفرنسي، فهو لم يكن كذلك بالنسبة الى السيدة دانييل غوز ميتران وابنيها جان كريستوف اوجيلبيرر، فقد علموا بالامر بعد ولادة مازارين والتزموا الصمت، ولم يقتربوا من الام والابنة الا في وقت متأخر جداً من مرض الرئيس، علما بأن الابن الاصغر جليبير بادر الى لقاء شقيقته في فترة مبكرة وأبدى تعلقاً بها، في حين صادفها جان كريستوف في رواق المستشفى حيث كان يعالج والده واعتبرها غريبة. في قصر الاليزيه صار فرانسوا ميتران محصناً. انه في القمة وكل ما عداها منحدرات. وفي القصر صار مسلحاً بوسائل فعّالة لحماية هذا السر الشخصي الذي اصبح جزءاً لا يتجزأ من اسرار الدولة، لا يجرؤ احدٌ على البوح به او التعرض اليه، لذا عندما ورد النبأ في الثمانينات في احدى الصحف عن وجود ابنة وزوجة غير شرعية للرئيس لم يصدقه احدٌ ولم يتمكن احدٌ من التحقيق فيه. ولكي يصان السر ويحفظ عن كثب جاء الرئيس بالأم والابنة الى قصر Souzy-la-Broche الملحق بالاليزيه، ودخلتا في نظام الحماية الرئاسية. هكذا كان على مازارين ان تتنقل برفقة حراسٍ شخصيين تابعين للدولة وان تدخل وتتخرج من ثانوية "هنري الرابع" بمعرفتهم، وهنا بدا ان الأب صار حاضراً بقوة في حياتها، ليس فقط من خلال حرّاسه وانما ايضاً في وسائل الاعلام، فبوسعها ان تراه مساء على شاشة التلفزيون وان تقرأ حديثاً عنه في الصحف، وان تستمع الى هجوم على سياساته في الاذاعات وان تتعرف تدريجياً على والد هو الاكثر تعرضاً للهجوم واثارة للحيرة بين مجايليه السياسيين. لكن هذا الاب - الرئيس لم يكن يثير فضول مازارين، التي تصفه بقولها "... عندما كنت أراه على شاشة التلفزيون كان يبدو لي وكأنه شخص آخر غريب عني، كان رئيس الجمهورية يتحدث وليس والدي"، وكانت تهتم بالأب الحميم، الآخر والحقيقي الذي "علمني التسامح وحب الحرية" في حين علمتها الأم حب الجمال، وتعلمت بنفسها في مدارس النخبة قواعد العقل والتفكير العقلاني. إقامة ميتران في الاليزيه ستمتد الى ولايتين كاملتين استغرقتا 14 عاماً، كانت مازارين خلالها تتكون في الظل، ولكن وفق القواعد التي تميز سلوك الأب. هو يعشف باريس ويستمتع بالتجوّل في شوارعها، ويتردد على مكتباتها المعمِّرة ويغازل السيدات الجميلات اللواتي يلتقيهن مصادفة شأن الممثلة جولييت بينوش. وهي تعشق باريس "... لا استطيع ان أبقى كثيراً من الوقت خارج هذه المدينة" وتعشق الكتب والمؤلفات والاثار الفنية والروائع الادبية واللغة. هو يحتقر ضمناً وسائل الاعلام وقد عبّر عن هذا الاحتقار صراحة عام 1993 عندما انتحر رئيس وزرائه السابق بيار بيريغوفوا، بسبب فضيحة مالية نُسِبَت اليه وتداولت الصحافة تفاصيلها على نطاق واسع. حينذاك حمل ميتران على "الكلاب الذين نهشوه". وهي ايضاً لا تحب وسائل الاعلام، لأن ما يرد فيها "... لا يبقى وأنا أحب كل ما يبقى كالكتب والعمارة وباريس" ولأنها اختبرت بنفسها مغالطات، وأكاذيب تعرف حقيقتها وعاشت تفاصيلها الاصلية: "... قيل في احدى الصحف ان والدي اعطاني حصان "الاكحل تيكيه" الذي أهداه اياه رئيس تركمانستان وهذا غير صحيح فقد امتطيت هذا الحصان بالفعل لكن خلال فترة قصيرة عاد بعدها الى حيث يجب ان يكون" ثم تقول: "... كنت اقرأ يومياً كتابات كاذبة عني وعن أهلي وأقضي نهارات بكاملها في المنزل هرباً من أعين المصورين القناصين. لهذا كله صرت لا افتح جريدة أو صحيفة لأنني أعرف ان ما تتضمنه ليس جديراً بالثقة". هو يُحبّ الالغاز، ويتمتع بمواصفات براغماتية وهي تحب الالغاز وتتمتع بقدر من البراغماتية. فقد وقّعت روايتها باسم مازارين بنجو وليس ميتران، مع علمها التام ان احداً لن يقيم اعتباراً للتوقيع وان الجميع سيتصرف تجاه الرواية بوصفها رواية ابنة الرئيس. وانتقت كل ما تريد قوله عن نفسها، ونسبته الى بطلتها "آغات" ووعدت بروايات ثانية وثالثة. وعندما سُئلت عن معنى احساس بطلتها بالموت ومعرفتها به من جراء فقدان البطلة لأخيها التوأم قالت للسائل ربما لي "اخ توأم وأنا أيضاً" وارفقت القول بابتسامة ساخرة لا تشبه الا ابتسامات ميتران عندما كان يختار اللحظة المناسبة لبث الغموض مباشرة على الهواء في نفوس مخاطبيه. وأخيراً هو كان يعشق الكتابة وقد وقع عشرة كتب اشهرها كتاب "الانقلاب الدائم" الذي حمل فيه بقوة على الجنرال ديغول، وهي تقول انها لا تعشق سوى الكتابة وان والدها شجعها على الكتابة قبل وفاته. اما اختيار الكتابة دون شيء آخر من تركة الرئيس الراحل، فهو يفصح عن قدر من الذكاء الوراثي الصريح. لم تقرب مازارين السياسة، لأن اخواها غير الشقيقين، انخرطا في العمل السياسي استناداً الى إرث الأب، ولأن دانييل ميتران تستخدم الإرث نفسه في زياراتها التضامنية العالمية. مع الأكراد تارة ومع متمردي المكسيك من الشياباس تارة اخرى، فلا يبقى من الارث الميتراني غير الأدب، اي الجانب غير المعلن وغير السياسي، وهي ربما الاحق في وراثة هذا الجانب وكل ما هو سري حميم في حياة الرئيس - الاب. في العام 1994، كانت باريس وكان العالم يعرف ان الرئيس الفرنسي يعيش ايامه الاخيرة وان سرطان البروستات الذي اصيب به قبل دخوله الى الاليزيه قد استفحل ولن يمهله كثيراً. في هذا الوقت بالذات خرجت صحيفة "باري ماتش" الاسبوعية بغلافها الشهير الذي يظهر فيه رئيس الجمهورية على مدخل احد المطاعم الباريسية المعروف برفقة مازارين وصديقها علي المغربي الجنسية والنجل الأكبر لسفير الملك الحسن الثاني في العاصمة الفرنسية. في اليوم التالي انتشر ضجيج كبير حول هذا الموضوع وأخذ كثيرون على الصحيفة انتهاك حياة ميتران الحميمة، وبدا ان "باري ماتش" تواجه ما يشبه الاجماع حول العمل اللااخلاقي الذي ارتكبته. وفجأة تسربت انباء لم ينفها قصر الاليزيه، تؤكد ان الرئيس نفسه سعى بصورة غير مباشرة الى هذا الامر وانه استدرج من بعيد هذه "اللافضيحة" كي يتحرر مرة واحدة من قيود سرٍ طال اكثر مما ينبغي. ومنذ ذلك الحين انتقلت مازارين من الهامش الى متن الصفحة. ريبورتاج "باري ماتش"، كان اذاً دليلاً اضافياً على موهبة الرئيس الراحل وبراعته في المناورة. فهو كان يعرف ان الرأي العام متعاطف معه بسبب مرضه، ويعرف ان الفرنسيين سيغفرون له هذا السر الجميل، ويعرف ايضاً انه وضع حداً لتعهد قطعه لزوجته وعائلته الشرعية، بابقاء عائلته اللاشرعية خارج الاضواء. لكنه يدرك ايضاً كما تدرك عائلته الشرعية ان احداً لا يغفر لها اذا ما اختارت القطيعة مع هذه الشخصية الكبيرة التي تعيش ايامها الاخيرة. مرّت عاصفة "باري ماتش" بسرعة كبيرة، اندفع على أثرها ميتران نحو ابنته ووالدتها، في محاولة لاستدراك الوقت الضائع واعطاهما الاولوية في قضاء العطل في البندقية والقاهرة. الانفراد في نهاية الاسبوع في المنزل الريفي، التنزه في كل الاوقات على ضفاف السين وفي الحي اللاتيني، خوض نقاشات طويلة في أمور عديدة، ومخالفة رأي الأطباء، والتصميم على قضاء آخر عطلة ميلاد معهما على ضفاف نهر النيل... في مدافن "جرناك" حيث نشأت عائلة ميتران البرجوازية الريفية المحافظة كانت مازارين المتشحة بفولار شفاف اسود تتقدم افراد العائلة الرسمية التي حضرت لوداع الرئيس السابق، وكانت والدتها آن بنجو خلفها وهي جاءت بدعوة من السيدة دانييل ميتران. فالموت يضع حداً للحياة ولتفاصيلها الدرامية، ويستدعي التسامح ثم ان الرئيس نفسه كان يرغب بذلك، ألم يتعمد كشف السر عشية الرحيل الاخير؟! هناك في المدافن انتهت مأساة مازارين التي دامت عشرين عاماً، لتبدأ بعد ذلك بثلاثة اعوام مأساة جديدة محببة هذه المرة بطلتها "آغات" في عمل أدبي اطلقت عليه المؤلفة الشابة اسم "رواية اولى". خرجت هذه الرواية الى النور خلال الاسابيع الماضية وتستأثر باهتمام واسع من النقاد ووسائل الاعلام الفرنسية. لماذا لم توقعي روايتك باسم مستعار يتيح اكتشاف القيمة الحقيقية للرواية ومدى تأثيرها؟ عن هذا السؤال الذي تردد مراراً خلال الفترة الماضية، ما انفكت مازارين تردد: لا شيء يدعوني للخجل من اسمي. لماذا احجبه؟ لم اختر ولادتي، لكني اخترت ان اكون روائية. فليحكم عليّ من خلال ما ارويه وما اضعه وليس من خلال اسمي. علق البعض على هذا الجواب بالقول: لو طرح هذا السؤال على ميتران لما ردّ بغير ذلك. عندما غاب فرانسوا ميتران اعتبر كثيرون ان مغامرة سياسية كبيرة قد انتهت نهاية حسنة ولن يبقى منها الشيء الكثير، وان الراحل لن يطبع تاريخ فرنسا بالقدر الذي تم في عهد الجنرال ديغول. وظن البعض ان الرجل يتساوى مع الجنرال الراحل في أمر واحد هو ضعف شخصية الورثة. قد يكون القياس صحيحاً اذا ما وضعت مازارين بنجو خارج المعادلة. لكن هل يمكن وضعها جانباً؟ أليست أفضل ما جاء به الرئيس الاشتراكي؟ أليست بطلة روايته الحقيقية التي شغلت فرنسا لأكثر من نصف قرن؟ مع مازارين لن تطوى صفحة فرانسوا ميتران فالآنسة بنجو فتحت صفحة جديدة لوالدها وكأنها تنفذ وصية شفهية اسرّها ذات يوم في اذنها، بل ربما كانت هي نفسها وصيته للفرنسيين الذين تسرعوا في طي صفحته. ولئن اعتادت فرنسا الملكية على ترداد عبارة مات الملك يعيش الملك، فلربما تجد فرنسا الجمهورية نفسها بعد سنوات مجبرة على ترداد عبارة مشابهة: مات ميتران... عاشت مازارين 0