في اليوم الأول من العام 1999 لن يشعر العالم انه يشهد حدثاً غير مسبوق في تاريخه: ستتخلى دول، طوعاً، عن حقها السيادي في ان تكون لها عملة وطنية خاصة. لقد حسم هذا الأمر، في قراءة أولية، في 25 آذار مارس الماضي بانتظار البت به نهائياً في الثاني من ايار مايو، أي بعد أسابيع، بعدما قررت مؤسسة النقد الأوروبية ان 11 بلداً تملك المواصفات الاقتصادية اللازمة للدخول في العملة الأوروبية الموحدة يورو. وهذه البلدان هي: ايطاليا، فرنسا، المانيا، اللوكسمبورغ، اسبانيا، البرتغال، هولندا، بلجيكا، النمسا، فنلندا وايرلندا. ووافقت المفوضية الأوروبية فوراً على هذا التقدير وانطلقت عملية مبرمجة بدقة متناهية: في الثاني من ايار المقبل يجتمع مجلس الوزراء الأوروبي ليوافق على اللائحة ويسمي حاكم المصرف المركزي الموحد، بعد ساعات يحدد وزراء المال سعر صرف العملات الوطنية حيال "يورو". في خلال ذلك يكون بدأ طبع الأوراق النقدية الجديدة، وفي صيف 1998 يولد المصرف المركزي فعلاً. وفي 1/1/1999 تصبح العملة الجديدة هي الرسمية في حين يستمر التداول العام بالنقد الوطني. ويوم الثلثاء 1/1/2002 تنزل العملة الجديدة الى الأسواق ويبدأ العد العكسي لوفاة النقد الوطني في البلدان المشار اليها. اما في 1/7/2002 فيختفي هذا النقد تماماً: ماتت العملات المتفرقة عاش "يورو" الموحد! ولكن، منذ اليوم، ثمة شركات لا تحصى مشغولة بالاعداد لهذه الروزنامة الدقيقة التي يفترض بها ان تقلب الكثير من الأمور العدادات، أجهزة الحساب، بعض برامج الحواسيب، أوراق المعاشات، الاشارات الدالة على الأسعار…. وفي سياق هذه الورشة الكبيرة تعقد حلقات التدريب. وتتم اختبارات في بعض البلدان والمدن، ويتعرف تلامذة مدارس على سيناريوهات افتراضية لما سيحصل. كذلك ينصرف علماء نفس الى درس آثار هذا الانقلاب على شعوب بكاملها منطلقين من تقديرات أولية تقول ان الألماني سيكون حزيناً لفقدان المارك أبرز الرموز الوطنية لما بعد الحرب العالمية الثانية، وسيكون الفرنسي مضطرباً طالما انه ما زال يحسب بالفرنك القديم، وسيكون الايطالي فخوراً بخلاصه من الليرة المضطربة وحيازته علامة تحوّله الى مواطن أوروبي عادي، الخ… وما ان جرى الاعلان عن الدول المؤهلة حتى توالت ردود الفعل. الرئيس جاك شيراك كان، مثل عادته، الأسرع في الترحيب. تلاه زعماء آخرون، غير ان الأنظار اتجهت، في الحقيقة، الى شخص لا علاقة له بالسياحة: هانس تياتماير. انه حاكم المصرف المركزي الالماني "بوبا" حسب اسم الدلع المعطى لهذه المؤسسة المتجهمة والشخص الذي فرض السياسة النقدية على بلاده، ثم عممها على معظم دول الاتحاد الأوروبي، والذي نجح في جعل "يورو" نسخة طبق الأصل عن المارك. وعندما تحدث الرجل موافقاً على تقدير المؤسسة النقدية بدا واضحاً ان الأمور حسمت وأن العد العكسي بدأ. غير ان الجو الاحتفالي الذي ساد غطى على بعض النقاط الرمادية. أين بريطانيا والدنمارك والسويد؟ انها غير موجودة لأنها، ببساطة، لا تريد ذلك، او انها ارتأت تأجيل قرارها. أين اليونان؟ انها غير جديرة بالانضمام لأن اقتصادها لا يسح بذلك. "كنا نريد ان نكون فريق ركبي من 15 لكننا سنكتفي بفريق كرة قدم من 11" قال أحد كبار المسؤولين في المفوضية. ليست هذه النقطة الرمادية الوحيدة. ثمة نقطة أخرى تخص ايطالياوبلجيكا. فهذان البلدان يعانيان من دين عام يصل الى حوالى 120 في المئة من الناتج المحلي. والمعايير المعتمدة لقبول الانضمام تتحدث عن 60 في المئة فقط وعن تضخم بنسبة تقل عن 3 في المئة، وعجز في الموازنة أقل من 3 في المئة من الناتج المحلي، وفوائد على الديون الطويلة الأجل لا تتجاوز 2 في المئة متوسط أفضل ثلاثة بلدان. لقد تعمدت بون التذكير بوضعي ايطالياوبلجيكا من أجل ان تطالبهما بالمضي قدماً في السياسات المعتمدة من أجل نيل شرف الوجود في "القاطرة الأولى". القول بأن "يورو" سيولد وفق روزنامة معينة هو قول ينتقص من الحياة الديموقراطية بعض الشيء. فمن هذه اللحظة حتى مطلع 2002 ستشهد معظم الدول المؤهلة انتخابات، ربما أدت الى نشوء اكثريات برلمانية معترضة. يمكن القول ان الرأي العام، في غير دولة، متردد، غير ان القيادات السياسية حسمت أمرها وهي تملك فسحة كافية من الوقت لشرح حسنات هذه الخطوة التاريخية. وأبرز هذه الحسنات مطابقة العملة الموحدة على سوق موحدة فعلاً، وانهاء الأزمات المالية الأوروبية الناجمة عن التلاعب بفروقات أسعار الصرف، وتحرير المنافسة الناجم عن قدرة أي مواطن على مقارنة الأسعار. غير ان الميزة الأهم هي نشوء عملة دولية جديدة تضاهي الدولار قوة لا بل تتفوق عليه. وإذا سارت الأمور على النحو المتوقع فإن هذه العملة سترى النور بعد تسعة أشهر منهية الوضع الاحتكاري، او شبه الاحتكاري، للدولار كمرجع أخير. ويعني ذلك، عملياً، ان كثيراً من السلع سيجري تسعيره بپ"يورو"، الأمر الذي ينقذ المعاملات الدولية من ان تكون خاضعة للمزاج الأميركي. غير ان العملة الموحدة ليست مجرد حسنات. فهي إذ تقود الى اشتداد المنافسة، فإنها قد تحدث صدمة تدفع ثمنها الشركات الضعيفة، والمناطق الأوروبية غير المؤهلة، والقطاعات العاملة الأقل قدرة على التكيف. ويعني ذلك تعاظم المرض الذي تعيشه أوروبا: البطالة. ان هذا هو "عقب أخيل" العملة الموحدة. لم يعتبر أحد ان نسبة البطالة في بلد ما هي من المعايير المعتمدة لحسبان صحته الاقتصادية - الاجتماعية. ولذلك ثمة مقاومة في أوساط تعتبر انها مهددة سواء باستمرار الحرمان من العمل، او بالضغط على الأجور لامتلاك قدرات تنافسية، او بموجة افلاسات قد تضرب القارة كلها. وإذا لم ينجح "غلاة الأوروبيين" في اقناع مواطنيهم بأن العملة الموحدة ستزيد نسبة النمو، وتمتص البطالة، وترفع التهديد عن سوق العمل، فإن المشروع كله مهدد بانتكاسات خطيرة